تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
فريد بلكاهية.. أقانيم اليد
بعد اطلاعه على جوانب من الإرث الفني الذي ميّز المحترفات الأوروبية في الرسم والتصوير والنحت خلال عقود كثيرة، التفت المغربي الرَّاحل الفنان بلكاهية (1934 – 2014) إلى تراثه الجمالي التقليدي جاعلاً منه مشروعاً جديداً للاشتغال وأمست قطعه التشكيلية الجديدة (المسطحة والمجسمة) تهتم بالعلامات والرموز المختزلة، وذلك على نحو إبداعي خلاق مكنه من أن يمنحها بعدا كونيا يتجاوز الجغرافيا.
فهو يعتبر أحد أوائل الفنانين المغاربة والعرب الذين تمردوا إبداعيا على مفهوم الإطار-الكادر، إذ اعتبره فكرة أكاديمية مأخوذة عن ثقافة الغرب وفنه وتقليدا متوارثاً منذ العصور الكلاسيكية في الرسم، لذلك برزت قطعه الجمالية في هيئة أشكال ملتوية ومتموجة وحرة عائمة في الفضاء متباعدة أحياناً.. متلاحمة أحياناً أخرى على طريقة الذكر والأنثى يتم إنجازها على سنائد ورقية وصفائح معدنية وقطع جلدية خاضعة لتصاميم جغرافية ذات أبعاد كونية، ومنها اللوحات الدائرية التي تبدو – بتعبير الناقد جاك لينهارد – على أهبة الدوران والرحيل في اتجاه أعماق سماوية وكأنها عوالم سيَارة في كواكب احتمالية..
ففي البداية، اشتغل بلكاهية على الورق جاعلاً منه مادته الرئيسة لإنجاز قطعه التشكيلية طيلة عقد كامل من الوقت.. وبدء من عام 1974 – وبعد تجربة الاشتغال على الأقنعة – لم يعد الفنان بلكاهية يعمل سوى على الجلد المثبت على الخشب المسطح بإضافة مواد وأصباغ طبيعية كالحناء والزعفران والصمغ وقشور الرمان والكوبالت والميركوركروم Mercurochrome المستعمل في مداواة الجروح، وأزرق الميثلين Mythelene المستقطر من الخش(.. وغير ذلك من المواد التلوينية الأخرى..
ويظهر الجلد في لوحات بلكاهية أكثر من مادة وسند.. إنه رمز للهوية والكينونة والذات.. الجلد الذي يقوم بغسله وتجفيفه وتمديده على أشكال عضوية، أبرزها العين واليد أو الكف التي يشغلها بأقانيم ورموز إثنوغرافية مأخوذة من مرجعيات ثقافية عديدة، إلى جانب أخرى مستوحاة من البيئة تظهر في شكل هياكل كبيرة ومتنوِعة من الخشب، قبل أن يقوم بطليها وتزيينها بواسطة أصباغ طبيعية خالصة.
توضح هذه التجربة والتجارب الفنية التي عقبتها أن الفنان بلكاهية ظل وفيا لعمله اليدوي. فهو كان يهيئ الجلود بالحناء ليقوم، عقب ذلك بمعية حنّاية، بزخرفتها بواسطة علامات ورموز قديمة بميسم إثنوغرافي أغلبها من أصل بربري يتم توزيعها داخل مساحة السند بكيفية مختزلة.
هذا الاشتغال الحِرفي ظهر لدى الفنان بلكاهية لتجاوز الاشتغال الصباغي Pictural بالمفهوم الكلاسيكي الذي كرسته المدارس الغربية في الرسم، وأيضاً كتخل نهائي عن استعمال الزيت والقماش في تجربة الفنان، كما في تعليله: «الحناء والجلد ذكرياتي، جدتي، الوسط الذي كبرت فيه، الروائح التي ألفتها».
كما اشتغل الفنان بلكاهية على صفائح المعدنيات والنحاس الأحمر المطروق والمنقوش. ومن أعماله الفنية الأخيرة اشتغاله على ثيمة الخرائط تكريماً لبعض عظماء العرب، كابن بطوطة والشريف الإدريسي، وقد أطلق على هذه السلسلة من اللوحات تعبير «طفاوة القارات»Dérive des continents الموسومة بصبغات على الجلد (2004).. خرائط متخيلة تمَّ إنجازها وفقا للآثار المتبقية من الوبر الأسود والأبيض للجلد الأصلي، كمحاولة لاستحضار تقابل الشمال والجنوب. كما احتفى بلكاهية في تجربة تشكيلية أخرى بالمفكر الفرنسي غاستون باشلار G. Bachellard في إحدى قطعه الفنية التي تم دمجها ضمن المجموعات الدائمة لمركز جورج بومبيدو، وأدرجت في قسم «الحداثة الشرقية».
ومنذ عام 1990، «شكلت الذاكرة مصدر إلهام أفقي في عمله التشكيلي، تتخلله محطات تاريخية وثقافية، وتناسب العلامات الخطية، والاستناد إلى رمزية كونية تشمل أيضاً العلامات الأمازيغية، وعلامات حضارية»، بتعبير زوجته الكاتبة رجاء بنشمسي.
من ثم، أمست لوحاته ومجسماته الفنية فضاءات بصرية تحيا بداخلها الرموز كذاكرة جمالية توثق لتراث يدوي أصيل مهدد بالزوال والاندثار، منحتها الرؤية الفنية والمعالجة التشكيلية والتقنية للفنان بلكاهية أبعادا عالمية لأنها مأخوذة من الأصول والجذور. وبفضل ذلك، لقي فنه تقديرا واسعا من طرف نقاد الفن والمهتمين بالحقل التشكيلي في أكثر من مناسبة يعرض فيها الفن داخل وخارج بلده. ويبرز اشتغال الفنان بلكاهية على جزء من الموروث الحِرفي التقليدي وإدماجه في صلب الإنتاج التشكيلي في صور حداثية متينة تناغماً مع كلام الرسام السوري الراحل فاتح المدرس «تراثي معي.. ومنه أستوحي صوري، ألواني، رؤياي، شخوصي، أفكاري.. يشتد حضوره معي فيستثيرني ويدفعني إلى نقله على الورق، لوحات تعبر عن حقيقتي وشعوري».
< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن