تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
ميلود لبيض .. منعرجات الجسد
برزت البداية الصباغية عند الفنان لبيض (2008-1939) تشخيصية حيث كان ينفذ مجموعة من التصاوير والمشاهد الواقعية المستوحاة من البيئة المحلية ومن العالم المرئي، قبل أن ينخرط وبقوة منذ مطلع السبعينات في التعبير التجريدي بنوعيه الهندسي والغنائي..
في مسار الفنان الراحل لبيض، نلحظ بأن الأبحاث الصباغية التجريدية التي قام بها اتسمت لديه بالتعدد والتنوّع: غنائية، تركيبية، هندسية.. لكنها رغم ذلك ظلت تقوم على نوع من التوحد على إيقاع نظام الأشكال المدورة والتوريقات وانفلات الخطوط داخل الظلال التي تولدها الألوان الداكنة المستعملة.. هي بلا شك عنوان لمرحلة صباغية متنوعة بدأت برسم التكوينات الهندسية الزرقاء، أو الدوائر الزرقاء المكررة المستعارة من عوالم نباتية والتي تبدو في لوحاته “أشبه بورود متفتحة في حقل كبير، لكنها في لاوعي الرسام شيء آخر. لقد كانت ميزة ميلود، في هذه المرحلة، هي تعامله مع جميع مواد الصباغة حيث تأتي اللوحة وهي محملة بخليط من الطباشير والمائي والزيتي، أما الأشكال فهي عبارة عن دوائر صغيرة داخل دوائر كبيرة، أو منفصلة عنها، تكاد تنفجر من شدة حرارتها الداخلية”، كما قال الكاتب إدريس الخوري.
تتفاعل الدوائر إذن، في لوحات الفنان ميلود لبيض وتتألسن مشكلة بذلك خطابا تشكيليا تجريديا يستمد مسوغاته الجمالية ومدركاته البصرية من الأجساد الآدمية، غير أن هذه الدوائر، بصرف النظر عن الأحجام والأشكال التي استقرت عليها، يظل الهدف منها عند الفنان هو مقاربة واستعمال عناصر ومفردات تعبيرية مستمدة من محيطنا ومن تربتنا البيئية والثقافية.. هذه المقاربة سمتها الإبداعية الأساسية التركيز على اللون بإيحاءاته ودواله الأيقونية وعلاقته بالأثر الذي يساهم بدوره في خلق العديد من الثراءات المرئية فوق السند..
في لوحات الفنان لبيض أيضا تتكتل الألوان في نسق جمالي وتضاد طيفي متعاشق يعبّر في الأساس عن حس فني بالغ العذوبة والشفافية اللونية.. هكذا يمكن وصف تجربة هذا الفنان الطلائعي الذي لازمه الصمت إنسانا وفنانا إلى أن رحل.. تجربة صباغية موشاة بأنفاس غرافيكية إقلالية وإيجازية، لذلك هي مملوءة بفوضى العلامات والتباس الآثار اللونية المتراكبة داخل ترصيفات ومقطعات مساحية تجريدية، مفككة ومتشظية، تمزقها (أو تأسرها في حالات مخالفة) خطوط الإحاطة وإطارات البناء والتكوين. هي سلسلة قماشات مطبوعة بتجاورات اصطفافية يبرز في عمقها البعد التجريدي الذي يخدم النهج البصري للمعالجة الصباغية فوق السند، ومحصلة ذلك أن الفنان لم يكن يعتمد على صدفوية النتائج، قدر ما كان يركز على تخصيب سطوح اللوحة أو أوجهها وعلى استغلال العلاقات البصرية المتبادلة بين اللون والأثر..
عقب هذه التجربة، سيدخل الفنان في تجريب ممارسة تشكيلية جديدة أكثر جرأة تتميز بإنتاج اللوحة المجسمة ذات المفردات الناتئة والبارزة-En relie المستمدة من الجسم البشري الذكوري منه والأنثوي. هذا التطور، أو بالأحرى التحول الصباغي برره الفنان بنفسه: “أنا لا أقدم لوحات نسجتها الفرشاة والألوان، بل أعتمد هنا على اللوحة/النتوء. من خلال التضاريس والتجويفات يتنامى ويتناغم فضاء اللوحة. مصدر الاستيحاء في مجموع هذه الأعمال هو الجسم البشري، جسم المرأة وجسم الرجل على السواء، استحدثت نواة كل لوحة من تقاطيع وخطوط واستدارات ومنعرجات الجسد، لكنني لم أفضل ذلك بدافع من المحاكاة، وإنما لأعطي لأعمالي إطارا موحدا يستجيب للموضوع الأساسي الذي يشغلني منذ سنوات وأعني موضوع الجنس، إنه غريزة منغرسة في عروقنا وأوردتنا، ومع ذلك، فإن الكثيرين يراوغون ويتظاهرون باحتقارها ويتجنبون طرح الموضوع مباشرة”.
وقد سبق للفنان ميلود الأبيض أن انخرط أيضا في تجربة صباغية مغايرة كثر فيها السواد والبياض السادر والألوان الرمادية الداكنة: لوحات رصاصية لا لون لها إلا لونها، غلفتها خيوط بيضاء ضاربة في كل الاتجاهات مخترقة الأشكال المعمارية الصافية التي يوظفها. لذلك ظلت لوحاته الشاهدة على هذه المرحلة موسومة بنارين، كما لاحظ ذلك الفنان محمد شبعة: “نار الصرامة الهندسية ونار الصرامة اللونية، حيث الداكن والفولاذي والرصاصي والأسود. لقد وضع ميلود يده على نظام هندسي صعب وخطير المنزلق في نفس الوقت، ومن هنا نحس بقلقه، فليست التقنية الجديدة فقط هي مصدر شواغله وجهده من أجل التحكم فيها، بل إنني أرى أنه قد شعر بحسه الخاص والمثير للإعجاب، إن هذا النظام الهندسي الذي يخوض فيه قد زج به في مغامرة عليه أن يواجهها بالحذر والجرأة معا”.
إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن