هاجس البيت المرتب.. إرهاق للأم وقسوة على الطفل

تشتكي أغلب الأمهات وخاصة منهن المهووسات بترتيب المنزل من الفوضى التي يحدثها أطفالهن في كافة أرجائه، والتي تتعارض مع سعيهن المتواصل للحصول على منزل مرتب وهادئ على الدوام.
وترى الكثيرات منهن أن الترتيب والنظام لهما آثار إيجابية على الطفل، غير مدركات أن الفوضى قد تكون في بعض الأحيان مفيدة له، في حالة أطلق عليها الخبراء “الفوضى الخلاقة”.
وأوضح خبراء التربية والعلاقات الأسرية أن هوس النظافة والنظام يجعل الأم متسلطة وتقوم بتقييد حرية أفراد أسرتها بشكل مزعج وغير منطقي، ما يؤدي إلى مشاكل عائلية لا حدود لها، كما أنه يشكل عبئا جسديا إضافيا خاصة على المرأة العاملة، ما يسبب لها المزيد من التعب والإرهاق.
وقالت الكاتبة التونسية لمياء المقدم “إذا كان لديك أطفال وبيتك على الدوام مرتب ومنمق ونظيف وكل شيء في مكانه تماما، فأنت أب سيء أو أم سيئة! هل يبدو هذا الحكم قاسيا؟ هو كذلك، لأن البيت المرتب على الدوام في ظل وجود أطفال، يعني أن حرمانا وجبروتا وسلطة قوية تمارس على أطفال البيت”.
وأشارت في مقال نشرته “العرب” في وقت سابق إلى أن “البيت المرتب الأنيق على الدوام يعني أن طفولة تسرق من أصحابها، وخيالا يسجن، وروحا تطفأ”.
وأوضحت المقدم “يتعلل بعض الآباء بأن الطفل يملك مساحته الخاصة به لممارسة فضوله وتجاربه وإطلاق العنان لخياله إما في غرفته الخاصة وإما في أحد أركان البيت المخصصة له ولألعابه، لكن الطفل يعرف في مرحلة ما من نموه فضولا لا حد له ورغبة ملحة وقاهرة لا قدرة له على ردّها، لاكتشاف كل شيء من حوله، وليس فقط ألعابه”.
وتابعت “الجدران ورقة بيضاء ضخمة مغرية للكتابة والشطب، الأبواب لا تقل إغراء، النوافذ تأخذ إلى السماء مباشرة لذلك لا ضير من القفز، سينبت لك جناحان في اللحظة المناسبة، الأسرة بحور كبيرة والوسائد أسماك ببطون منتفخة لو فتحتها لوجدت داخلها طيورا تتقافز وربما سحبك أحدها من يدك لتذهب معه إلى الغابة وتعود قبل أن يسقط الليل، الأواني ليست للطبخ فقط، من قال ذلك؟ إنها هناك أيضا من أجل الموسيقى والحديث مع الأشباح. كل شيء يتكلم، كل شيء يتنفس في خيال الطفل ويحيا، فكيف تريد أن يكون بيتك مرتبا؟”.
وأكدت أن “البيت المرتب على الدوام سرقة لطفولة الطفل، وقتل لخيال حي ينبض، خيال يتعامل مع العالم بمنطق خاص جدا هو منطق الدهشة”. وشدّدت على ضرورة ترك الأطفال يفعلون ما يشاؤون بالبيت وأثاثه وأصحابه، والأمر الوحيد الذي يجب أن يراعى هو سلامتهم، أي ألا نتركهم يعرضون أنفسهم لخطر ما.
وكشفت دراسات حديثة أن الفوضى تعمل على تقوية الحواس الخمس لدى الطفل، مشيرة إلى أنه من خلال البحث والاستكشاف وإلقاء الأشياء أرضا وكسرها يستطيع الطفل اكتشاف وفهم مفاهيم جديدة، قد يكون من الصعب تعليمها إياه بشكل مباشر، مثل الفرق بين الزجاج القابل للكسر والخشب صعب الكسر. وقالت إن الطفل لن يكتشف ويدرك ذلك جيدا دون كسر الزجاج أمامه مثلا، كما أن الفوضى قد تساعد على تقوية استقلالية الطفل، موضحة أنه عندما تمنح الأم طفلها حرية التصرف، فهي تساهم بذلك في تقوية استقلاليته وقدرته القيادية.
وأضافت أنه لو قيدت حريته ومنعته من التعبير عما يدور بذهنه، فذلك يجعل منه شخصا غير قيادي وغير مستقل، معتمدا على الآخرين في اتخاذ أي قرار يخصه.
ونبّه الخبراء إلى أنه على عكس ما تظن الأم، فإن الفوضى تعلم الطفل النظافة، لافتين إلى أنه عندما يرسم على الجدران مثلا بعد أن تكون قد سمحت له بذلك، يمكن جعله ينظفها بنفسه، فهذا يعلمه أن يكون نظيفا ويقوي من شخصيته.
وأكدوا أن ترك الطفل يلعب بشكل فوضوي ومختلف وغير منظم ودون تدخل من الأم، يمنحه قدرة كبيرة على استخدام خياله، ويساعده على تنمية قدراته الخلاقة والخيالية، فيكون شخصا مبتكرا وله أفكاره الخاصة، وتكون لديه القدرة في المستقبل على إنجاز المهام التي تتطلب أفكارا من الخيال.
ونبهوا إلى أنه يمكن للأم أن تروض أو تحد من انتشار الفوضى من خلال تقديم أماكن للعب بشكل حر للطفل، مشدّدين على ضرورة السماح للطفل ببعض الفوضى.
وتوصلت دراسة أميركية حديثة إلى وجود علاقة بين عدم ترتيب المنزل أو التواجد ببيئة فوضوية، والقدرات الإبداعية لدى الفرد.
وتوصلت الدراسة التي أجريت في كلية كارلسون للإدارة بجامعة مينيسوتا الأميركية، إلى أن المنزل غير المرتب، يعدّ من الدلائل الواضحة على ذكاء مالكه، الذي يتمتع حتما بقدرات إبداعية تفوق غيره، مشيرة إلى أن هذا الشخص أكثر قدرة على التفكير بكل حرية، مع تمتعه أيضا بميزة العطاء لمن حوله.
وكشفت أن التواجد في بيئة فوضوية غير مرتبة يحفز الإنسان على كسر القيود والأفكار الروتينية، ما يساعد في إنتاج أفكار أخرى أكثر إبداعا، فيما يقوم المكان المرتب بالتشجيع على الاتزان ومن ثم عدم المخاطرة، الأمر الذي يعني التأثير بالسلب على القدرات الإبداعية.
وتوصل الباحثون إلى أن الشخص الذي يعيش في بيئة غير مرتبة لا يخشى المخاطرة بل ويأمل دائما في تجربة كل جديد، عكس الأشخاص الذين يعيشون في منازل أكثر هدوءا ونظاما.
وقالت الباحثة كاثلين فوهز معلقة على نتائج الدراسة “في وقت نشاهد فيه عبر موقع يوتيوب، مقاطع الفيديو التي تكشف عن طرق ترتيب البيت وإخلائه من قطع الأثاث والأشياء غير الضرورية، نفاجأ الآن بأننا يجب أن نقوم بالعكس”، موضحة “تساعد البيئة غير المرتبة صاحبها بشكل غير متوقع، حين تمنحه المرونة التي يحتاجها من أجل المزيد من الإبداع، عكس ما يتخيل الكثير من البشر”.
ولفتت فوهز إلى أن انتشار فيديوهات إعادة ترتيب المنازل وتنظيمها عبر مواقع الفيديوهات المختلفة، لا يعني وفقا للدراسة الأخيرة أن العيش في بيئة منظمة هو الأمر الصواب دائما، وقالت “إن كنت تجلس الآن في غرفتك غير المرتبة على الإطلاق، فاعلم أنك ربما تكون عبقريا”.
وأوضح المختصون أن البيت النظيف المرتب والمنظم طوال الوقت هو مؤشر على تفاني الأم طوال اليوم في أعمال التنظيف والترتيب وإعداد الطعام، وقضاء الكثير من الساعات في متابعة القواعد وتطبيقها، ومراقبة ما ليس نظيفا لتعيد تنظيفه مرة أخرى سريعا حتى تحافظ على نظافة المنزل، وهذا الصنف من الأمهات لا يسمحن لأنفسهن بالراحة ولا بالترفيه، لأن وقتهن مشغول، وطاقتهن تنفد في التنظيف والترتيب والغسيل بشكل يومي.
وأكدوا أن هذا الأسلوب يؤثر على صحة الأمهات النفسية، ويجعلهن غير قادرات على الاستمتاع بأمومتهن، ولا اللعب مع أطفالهن؛ لأنهن مثقلات بالمثالية والنظافة الزائدة، وخائفات من تهمة الإهمال في نظافة المنزل وترتيبه، أمهات لا يمارسن حقهن في أن تكون لهن جوانب مختلفة متعددة في حياتهن، مشددين على ضرورة عدم التركيز على الترتيب في ظل وجود أطفال والقبول ببعض الفوضى مقابل سعادة الأطفال وحريتهم.
أما في ما يتعلق بالأطفال، فإن هوس الأمهات بالترتيب هو مؤشر على أن الأطفال غير مسموح لهم بالتجريب والاستكشاف داخل المنزل. كما أنه يشير إلى قواعد صارمة وقيود حول المهارات الإبداعية للطفل وأنه غير مسموح له بممارسة حقوقه الطفولية في الخطأ وإحداث الفوضى. ولا تتم مراعاة قدراته ومهارته التي لم تنم وتكتمل بعد، في الحفاظ على النظام واتّباع الترتيب والقواعد.
وأشار الخبراء إلى أن مرحلة الفوضى الطفولية، والتخريب والمشاغبة سمة سلوكية لا بد أن يعيشها الطفل، وتعتبر تلك الفوضى في معظم الأحيان دليلا على رغبته في اكتشاف العالم وتجريب الأشياء من حوله. وفي أحيان أخرى قد تكون الفوضى العارمة التي يحدثها الطفل أداة لجذب انتباه الأهل لمعاناته من مشكلة عاطفية مع والديه، أو الإفراط في التدليل الذي يجعل الطفل يعتقد أن كل شيء مسموح ولا يوجد شيء ممنوع.
ولفتوا إلى أن البيت المنظم المرتب بشكل دقيق مرهق ومؤذ للطفل ولجميع أفراد الأسرة، كما أن المنزل الذي تعمه الفوضى بيئة غير صحية للتنشئة، منبّهين إلى ضرورة أن تكون هناك مرونة وأن يسمح الآباء ببعض الفوضى البسيطة.

Related posts

Top