عرفت الدورة الثانية عشرة لمهرجان المسرح العربي بالأردن، مشاركة مسرحية سورية بعنوان “ثلاث حكايا”، عن نص للكاتب الارجنتيني “أزوالدو دراغون”، إخراج الفنان العربي المقتدر “أيمن زيدان”، واسمه يكفي ليجعل العرض محط اهتمام، ويسترعي المعاينة والعناية من الجميع.
بدأ العرض، كما بدأ المسرح عند الإغريق مع “تيسبيس”، بعربته التي جاب بها شوارع أثينا ومدن أخرى، محملة بالأزياء والأكسسوارات وكل ما يحتاجه لتقديم عروضه، إلا أن عربة “ثلاث حكايا” للفنان “أيمن زيدان” ثابتة في مكانها على الخشبة، ومنها نزل الممثلون، وإليها كانوا يعودون للتّزوّد بحاجيات مشاهد العرض. فندرك منذ البداية أنّ المسرحية مبنية على العودة للبدايات، سواء تعلّق الأمر بالمسرح أو بخيارات العرض الجمالية، لننتهي لما انطلقنا منه، وهو العربة.
جاء في بداية الحكي، على لسان الممثلين أن الفرقة كانت تفضل تقديم عرضها في الشارع، لولا موانع الظروف التي “يعلمها الجميع”، في إشارة عابرة لغياب الأمن واستفحال الانفجارات في بعض من بلداننا. ومع تقدم العرض نجد أنفسنا أمام استحضار لنبض الشارع في قلب القاعة، وكأنها فرجة أعدّت عن قصد للشارع وقدمت تجاوزا بين الجدران. كما أنّ معظم العناصر السينوغرافية توحي بأجواء فضاءات ركحية خارجية، وكأنها أعدّت سلفا للخروج بالعرض إلى الشارع، انطلاقا من العربة، وهي العنصر الرئيسي في مشهدية العرض، مرورا بالنافذتين المتحركتين، ووصولا للدراجة الهوائية والكرسي المتحرك وباقي العناصر الوظيفية المتنقلة.
عنصر واحد كان ثابتا ومشوشا على الرؤية السينوغرافية للعرض، وهو الخلفية المكونة من إطارات بيضاء مختلفة الأحجام، لم تتّضح مبررات انتمائها لنسق العرض، لا على مستوى الدلالة ولا فيما يخص الجانب الوظيفي.
لقد اختار المخرج أن يقدّم ممثليه بمظاهر بهلوانية مبهجة، تمثلت في أزيائهم الملونة وماكياجهم المسرحي المتقن، وهم يجسدون مآسي شخصيات تتغير حسب كل حكاية من حكايات العرض الثلاث. وقد استعان الممثلون في تجسيدهم لمواقف وأحداث المسرحية، بعدة عناصر مكملة للعبهم: منها إشراك الدمى المتحركة التي تعتبر من تقنيات الحكي المتجذرة عند المشارقة، واستعمال الأقنعة الإيطالية التي جابت بها فرق الكوميديا ديلارتي شوارع المدن وساحاتها، بالإضافة للدمى القماشية والمؤثثات الركحيّة والأكسسوارات المساعِدة.
التزمت المسرحية بالتوليف بين عناصر فرجوية متنوعة، والتوفيق بين جماليات مشهدية مختلفة، دون أن تتقيد بتقنيات العلبة الإيطالية وميكانيزماتها الملزمة، إلا في اشتغال بسيط على الإضاءة لتقسيم الركح وتبئير بعض المشاهد، بالإضافة لخلق بعض الإحالات المقتضبة.
اختار العرض أن يكون قريبا من الجمهور، فكان لعب الممثلين في معظم الأوقات على مقدمة الخشبة، غير بعيد عن “عيون الناس وهمساتهم”، شأنهم في ذلك شأن حكايات العرض الثلاث، القريبة من واقع المواطن السوري والعربي:
فالقصة الأولى تحكي عن موظف استنزفت القروض كل راتبه، فاضطره الوضع لأن يشتغل بائعا متجولا لإعالة زوجته وابنته، لكن ألما متكررا في اسنانه كان كافيا ليمنعه من العمل.
والقصة الثانية تروي عن رجل يشتغل في وسط فاسد لتجارة اللحوم الممنوعة، بغية تأمين حاجيات أبناءه وزوجته، واجتهد دائما في إيجاد مصوغات واهية لما يقوم به من فساد.
أما القصة الثالثة وهي الأكثر إمتاعا مقارنة بسابقتيها، تحكي عن مواطن تضطره ضائقته المالية للاشتغال ككلب حراسة، فتفانى في عمله لدرجة تماهى فيها مع وضعه الحيواني الجديد.
وعكس السائد، تعمّد المخرج “أيمن زيدان” في اختياره للنص، واشتغاله عليه، أن ينأى بعرضه وبنفسه عن اجترار مأساوية الأوضاع الحالية بسوريا ومناطق كثيرة من عالمنا العربي، وارتكن للاشتغال على صناعة الحكي المسرحي بتقنيات فرجوية حرفية، بلغة مسرحية بسيطة وتلقائية. فجعلنا نجوب الشوارع والساحات ونحن في مقاعدنا، وسافر بنا في عوالم أقرب إلى المسرح منه إلى الواقع.
أمتعنا العرض بحبكته الدراماتورجية، ودينامية ممثليه، وتمنيت لو أن سينوغرافيا العرض اعتمدت على عربة متنقلة، عوض عربته الثابتة، لينطلق بها فريق الممثلين فوق الخشبة، فاسحا المجال لإمكانات سينوغرافية أكثر دينامية وتميزا، كما بإمكان العربة أن تصير خشبة للعرض في ساحة عمومية أو على ناصية شارع، حيث سيتحقق للفريق مبتغاه. فما أحوج مسرح الشارع في بلداننا لانخراط كبار مبدعينا، وقاماتنا المتمرسة في الفعل المسرحي، والمتطلعة فيه لإفساح مجالات جديدة نحو آفاق متجدّدة.
هي فرصة لندعو الممارسين والمسؤولين والباحثين العرب، إلى مزيد من العناية بهذه النهضة الفنية الهامة التي يعيشها مسرح الشارع في بلداننا، وتشجيع الإبداع للشارع في مختلف مجتمعاتنا، حتى تتخذ شوارعنا وساحاتنا ومجالاتنا الحضرية المشتركة الألق اللائق بنا، وبشعوبنا العريقة، وثقافاتنا الزاخرة بالجمال، وتطلعاتنا للحرية المسؤولة والمواطنة الحقّة.
طارق الربح