1
أتاني نعيها مفجعا ومفاجئا وسريعا مريعا…
رحلت أولغا، الصديقة العزيزة، أوليا، أوليتشكا، غادرت الحياة، الآن، في المستشفى، فارقت الحياة، أولغا فلاسوفا، الكاتبة الروسية، السوفييتية، الموسكوفية، المستعربة، المترجمة، المقسمة روحها في جسوم كثيرة، ولغات شتى، ولاسيما مع كاتبات وكتاب الأدب العربي والأمازيغي والفرنسي اللغة، المشرقي عامة والمغاربي خاصة وبالأخص من المغرب “الذهبي الغروب” على حد وصف اللسان الروسي نفسه.
.. ..
لم أصدق خبر رحيلها، كغيري، من ذويها ومحبيها، الأقارب والأجانب، في جميع الربوع والأنحاء والأرجاء. كانت كلمات وسائل التواصل الاجتماعي والإبداعي غاصة شجا وأسى، متشائلة ومتسائلة بالجواب ومجيبة بالسؤال: لماذا وكيف ومتى وأين؟ كانت الكلمات الكليمات حرى العزاء، وحيرى البكاء، كالعادة، في مثل تلك المواقف والمخاطبات والمناسبات، الساحقة والماحقة كالصاعقة، ما بين مشككة ومكذبة، وأخرى غير مصدقة ولا واثقة.
.. ..
اتصل بي، عبر الواتساب، الرفيق إيريك الروسي_ المغربي م. الركوني، متسائلا هو الآخر عن هذا النعي الذي سارعت إلى نشره، فطلبت منه الاتصال هناك، في موسكو، بزوجها الشاعر إيفان أو ابنتها صوفيا أو بالمستشرق الصديق أوليغ بافيكين، لعل عنده الخبر اليقين الحزين، وسرعان ما رنّ في أذني صوته، باكيا ناعيا، وراثيا معزيا، وقائلا على لسان ابنتها صوفيا إنها رحلت على إثر عملية جراحية غادرة، إذ دخلت المستشفى لعلاج التهاب حاد بالمعدة، لكن الداء اللعين كان قد انتقل إلى الكبد، فخرجت من هناك إلى الأبد!
.. ..
لم يسعد الحظ طويلا الصديقة العزيزة أولغا فلاسوفا بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتعاون الدولي الحائزة عليها في قطر عن ترجمتها رواية الطاهر وطار “الحوات والقصر” إلى الروسية. وكنت حينها أتبادل معها أحلى التهاني وأغلى الأماني، قبل تتويجها بالجائزة، التي أخبرتني أنها رشحتني لها، وتأسفت لي كثيرا لوصول ملف ترشيح آخر ترجماتي: “رجل مضحك وقصص أخرى” لدوستويفسكي، عن طريق الصديق الناشر بسام كردي مدير دار “المركز الثقافي للكتاب” ولكن بعد فوات الأوان بشهور قليلة، بل أكدت لي أنها ستذكّرني وترشحني أيضا مرة أخرى إذا كانت الروسية ضمن لغات جائزة الترجمة في دورتها القادمة.
..
أسعدني الحظ بمعرفة أولغا فلاسوفا، لأول مرة، قبل أن أراها، ذات مهرجان، بطشقند، أسريت إليه بالروح فقط، وعرج الجسم هنا، بسبب رخصة بيروقراطية رخيصة لمغادرة التراب، فأتاني ملف اشتراكي فيه مكتوبا عليه اسمي بخطها الروسي، عن طريق حبنا الرئاسي الأول، في اتحاد تحاب الكتاب، الأديب الكبير الأستاذ محمد برادة. وكانت سعادتي مضاعفة، حين علمت انها سألت عني، في إدارة جريدة “البيان”، حين أتت إلى “الدار البيداء”، خاصة لزيارة الكاتب الكبير الصديق محمد زفزاف، كما أن الحظ لم يسعدنا معا أيضا، يوم جاءت إليها مرة أخرى، عشية الإياب إلى الديار، فاستضافها باسم اتحاد تحاب الكتاب، شاعر “الحب مهزلة القرون” الصديق محمد عنيبة الحمري، وأهدى لها وللناقد يفغيني سيدوروف، ولمن معهما في الوفد السوفييتي أكياسا من البرتقال المغربي “ماراكانسكي أبيلسين” الذي لم يكن محبوبا ومطلوبا ومكتوبا في الأدب الروسي ومشروبا مع ماء الحياة فحسب بل كان منتظرا طويلا في الطوابير من أجل شرائه وإهدائه لأعزّ الصَّحب والشَّرب والرًّكب عبر جميع ربوع “الإسِّيسير”.
.. ..
زارت أولغا المغرب “الذهبي الغروب” مرارا وتكرارا، وربما كان أحب إليها أو أقرب لديها من أي بلد آخر، بل كان قابَيْ قوس من أن يصير لها البعيد مزارا والقريب دارا. وفي بيتها الموسكوفي العائلي رأيت المغرب البرتقالي من أجمل ذكرياتها المحفوظة والمعروضة في سلايدات وفيديوهات بالأسود والأبيض والألوان. وكم من وجوه وعيون وأسماء مغربية كانت تنادمنا وتقاسمنا أشهي طعام وكلام وألذ شراب وكتاب. مرة، كدت أن أطلب منها يد إحدى الرفيقات المترجمات الجميلات، بحضور سميي وأحد أصدقائي الكتاب إ.ن. خلال مهرجان موسكو للطلبة والشباب. كنت آتي إليها، خجولا دائما، مرة في الأسبوع على الأقل، وفي كل المناسبات السعيدة الأعياد، بباقات الورود والأزهار الفردية “الشتوكات” _القطع والأعداد، وفقا لمختلف المواقف والمخاطبات. لم أر غير والدها مرة واحدة، ومن الضيوف كثيرا، منهم الطالبة ابنة كاتبنا الكبير الأستاذ أحمد اليبوري، والشاعرة الكبيرة الشهيرة ريما كازاكوفا، ووجوها أخرى كثيرة وشهيرة، خاصة من الوفود الزائرة لاتحاد الكتاب السوفييت، حيث كان مقر عمل أولغا فلاسوفا، و بيتها الآخر العائلي، الذي كنت أحل ضيفا عزيزا فيه باستمرار، مدعوا ومستقبلا ومودعا ورفيقا كاتبا وطالبا في معهد “تابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي” _”بري تسيكا بيسيس”. ولذلك، حينما زار أكبر وفد ثقافي لاتحاد تحاب كتاب المغرب، رغم أني حينها عضو في مكتبه المركزي، كنت إلى جانب أولغا من أول مستقبليه وآخر مودعيه.
.. ..
للصديقة العزيزة أو لغا فلاسوفا، أياد سابغة بيضاء، يمكن العد منها ولكنها لا تعدد، ليس على الأدب العربي مغربا ومشرقا فحسب، بل حتى على شتى الأقارب والأجانب الزائرين والعابرين من الكتاب والطلاب، الذين كانوا يجدون في ” بيت أولغا” على حد قول قصيدة لي عنها بهذا العنوان في ديوان “زهرة الثلج” -1998 -:
“نقطة للعبور إلى أيّ ركن قصيّ،
من الأرض يبحر مركبة في الفضاء”
وفي أول رواية لي بعنوان “ماتريوشكات/عرائس روسية” – 2015-فصل كامل لم أذكر فيه عنها غير القليل الجميل. ومن الصعب بالتالي إذا لم يكن من قبيل المحال حصر فضلها أو رد جميلها، سوى بالامتنان والعرفان لها بالجمال الإنساني. ومن أجمل ما كتب عنها مغربيا على سبيل المثال قصيدة للشاعر الصديق عبد الرفيع جواهري، وقصة قصيرة للكاتب الكبير الصديق محمد زفزاف. ومثل ذلك مشرقيا كذلك إحدى روايات جمال الغيطاني: “رسالة في الصبابة والوجد” قرأتها في المغرب، لكن عندما رأيتها في مكتبتها وتصفحتها لاحظت بعض الحواشي عليها بخط يدها وقلم الرصاص، فاستعرتها منها وحين أعدت قراءتها اكتشفت من حواشيها أنها بطلة فيها مع شخصيات أخرى لم أكن أعرف أنهم الثلاثي الشهير: الطاهر وطار وأليكس لاغوما ومحمود أمين العالم.
.. ..
وداعا أولغا فلاسوفا..لروحك المحبة والسلام، وستبقى ذكراك حية، كما قال عنك الجميع وعلى حد تعبير وتقدير هذه الخاتمة من كلمة العزاء والرثاء والوفاء للصديق أوليغ بافيكين: ستبقى أولغا فلاسوفا في ذاكرة كل من عرفوها، رفيقة طيبة، لطيفة وعطوفة، ومستعدة دائما لمد يد المساعدة للقريب والبعيد، وقد كانت ولا زالت حية في ذاكرة الجميع، وأما محبة وصديقة حقيقية مخلصة وسيدة خبيرة ماهرة في فنها من الدرجة الأولى…
25 يناير2020
****
أولـغــا
عندما تُذكرين
أرى
بيتَ أولغا يشع ضياء
كشمس الأصيل
يشع عليّ
بيتها المغربيّ
بيتها المغربيّ الجميل
بيتها الدافئ العائليّ
نقطة للعبور إلى كل ركن قصيّ
من الأرض يبحر مركبةً في الفضاء
ويحطّ مساء
على ضفة المغرب الذهبيّ الغروب
وفي غابة من نخيل
يشع كشمس الأصيل
بيتها الموسكفيّ
بيتها الموسكفيّ الجميل
بيتها الدافئ العائلي
وعن كثبٍ في البعيد
يشع عليّ
كل وجه حبيب
يشع عليّ
كنافورة من ضياء
دافقاً
« بالصداقة بين الشعوب»
ومن قلب موسكو يشع صفاء
وجه أولغا الحزين
حين لا تُذكرين ! ..
من ديوان «زهرة الثلج» 1989
إدريس الملياني