يبدأ اليوم السبت رمضان في بلادنا، ويشرع المغاربة في صيام الشهر الفضيل، على غرار كافة المسلمين عبر العالم، ونبارك لشعبنا ذلك، وندعو لكل أهلنا بموفور الصحة والعافية.
رمضان هذه السنة يحل في ظروف استثنائية يحياها العالم بأسره جراء تفشي فيروس:”كوفيد-19″، ما أدى إلى حالة إغلاق واسعة في البلاد، وإقرار حظر تجول ليلي، علاوة على استمرار إغلاق المساجد، وسريان أحكام حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي داخل المنازل.
كل هذا سيجعل طبعا رمضان بلا عاداته الجماعية المألوفة، سواء الصلوات الجماعية للتراويح، أو الزيارات المتبادلة بين العائلات وولائم الإفطار والعشاء بين الأقارب، أو الموائد المقامة للمحتاجين، وبالتالي ستغيب هذا العام طقوس ومظاهر التعبد الجماعي والخروج بعد الإفطار للتفسح في الشارع وتبادل الزيارات.
ليس القصد هنا بعث نقاش فقهي وديني حول هذه التغيرات التعبدية التي فرضها”كورونا”، فذلك حسمه بلاغ المجلس العلمي الأعلى الذي صرح أن الحفاظ على الحياة من جميع المهالك مقدم شرعا على ما عداه من أعمال، بما فيها الاجتماع للنوافل وسنن العبادات، أي أن الانتصار للحياة وحفظ الأنفس وصيانتها مقدم على أداء العبادات.
ولكن القصد من الإشارة، أن رمضان هذه السنة من شأنه، برغم هذه الظروف الصحية والمجتمعية الصعبة، أن يعيد الناس إلى التأمل في القيم الأساسية، وممارسة العبادات باعتبارها علاقة روحية ونفسية وإيمانية بين الفرد وربه، وذلك من دون حرص على المظاهر والطقوس الشكلية التي كانت تصير أحيانا هي الرئيسيّة وتسبق حتى دلالات العبادات نفسها.
أمام المسلمين اليوم فرصة التمعن في القيم والمقاصد النبيلة مثل: الصدق، الإخاء، التضامن والتكافل الاجتماعيين، الإحساس بالحاجة والمعاناة عند الآخرين، تفادي الإفراط في الاستهلاك أو التباهي الأناني بذلك، الوعي بقيمة العائلة والأسرة وضرورة حب الوطن والتعبئة لخدمته والدفاع عنه وحماية وحدته واستقراره، التخطيط للمستقبل والاستعداد للعمل، ومحاربة الغش والفساد والرشوة وباقي السلوكات المسيئة، الإقبال على العلم والمعرفة والقراءة ومحاربة الدجل والشعوذة والخرافة…
هذه كلها قيم يحث عليها الدين، ويمكن لأيام رمضان هذه السنة أن تتيح فرصة إعادة تملكها واستيعابها والتمعن فيها، والحرص، فيما بعد الأزمة، على العمل بها مع الذات، ومع المحيط وفي العلاقات الاجتماعية والمهنية وغيرهما.
هذه هي الدروس الحقيقية التي يجب استثمار صيام رمضان هذه السنة للوعي بها والإصرار على الالتزام بها، أما التيه في مناقشات فقهية عقيمة والدوران في حلقة مفرغة، فلن يجعل الصيام منتجا، فيما بعد، لقيم وسلوكات صالحة للبلاد والعباد.
إن الصيام في الإسلام اقترن منذ كان برخص واستثناءات للمرضى ولغيرهم، وأيضا باقي العبادات، وليس فقط النوافل والسنن، ومن ثم، فإن بعض التفسيرات الغارقة في التشدد لا معنى لها، ومن أراد حتى أن يعتكف، فذلك يمكنه القيام به داخل بيته، والأهم أن يدرك الناس معاني التعبد ومقصدياته، وأن يعملوا مستقبلًا على استثمارها لتتحول إلى سلوكات وقيم حياة في المجتمع، وفِي العمل، وفِي العلاقات…
إن الشهر الفضيل يعتبر، وعلاوة على كل ما سلف، مناسبة لتقوية التقارب والتواصل داخل الأسر، وتكريس الفهم المشترك والتعاون…
وهو أيضًا فرصة لاكتساب عادات وسلوكات حميدة على غرار الإقبال المنتظم مثلا على قراءة الكتب والصحف والمجلات وإنماء المعرفة، وربما تعلم مهارات جديدة…
رمضان يساعد كذلك هذه السنة على اكتشاف عقم طروحات المتطرفين وأفكار الخرافة والشعوذة، والتأمل في إقبال الناس على نصائح العلماء والأطباء لفهم مخاطر ” كوفيد-19″وطرق الوقاية منها، أي أن مروجي الدجل والتفسيرات الغبية للوباء افتضح خواؤهم وعقم أفكارهم.
رمضان هذه السنة يجب أن يدفع مسلمي البلدان العربية جميعهم للتفكير في واقعهم وأوضاع بلدانهم، وفي تخلفهم الحضاري والديمقراطي والعلمي، وفي التحديات التي أنتجها الوباء وستطرح عليهم في مرحلة ما بعد هذه الأزمة.
إذن، رمضان هذه السنة، برغم إجراءات تقييد الحركة وحالة الطوارئ الصحية، هو يقدم لنا جميعا بعض الفرص الإيجابية، ولعل أهمها التفكير في القيم الإنسانية، وفي تغيير عدد من سلوكاتنا وعاداتنا السلبية، وتمتين انخراطنا كلنا في بناء مستقبل وطننا وشعبنا بجدية وصدق وبعد نظر، وأيضا هو يتيح لنا المناسبة لإعادة تملك الدين السمح والمنفتح، ورفض تفسيرات المتطرفين والمتشددين، وبداية ذلك تكون اليوم من خلال التشبث الصارم بالبقاء في المنزل واحترام قواعد الحجر الصحي وشروط الوقاية والاحتراز، واعتبار الأصل في الدين هو حفظ النفس وعدم الإلقاء بها إلى التهلكة، وبأن ذلك مقدم على باقي الأعمال، بما فيها التعبد الجماعي والقيام بالنوافل والسنن.
رمضان مبارك كريم لشعبنا ولكل المسلمين.
محتات الرقاص