شكل توالي السنوات فرصة كبيرة وأرضية خصبة أججت فكرة الخطاب الإنساني الكوني، أكثر من القومي الطائفي، انتصرت في هذا العصر المعاصر فكرة الحاجة للتعدية في كل شيء، ولعل رمضان يشكل لحظة مهمة وفاضحة في الغالب لمسار عجلة الحريات العامة والحوار المعقلن بين الديانات، إن على مستوى المجتمع الواحد أو على مستوى المجتمعات عبر العالم، وخاصة الإسلامية منها، ومنه أعتقد أن رمضان يشكل زمنا حقيقيا لقياس الحس الديني، لكن الواقع أن رائحة الأطباق المتعددة أزكمت الأنوف وأثرت على التفكير الهادئ للعقل، فقد امتزجت روائح المطابخ بروائح التفاعلات الاجتماعية خارج المطبخ في سياق تفاعل المقدس بالمدنس، ومن تداعيات هذا الأخير الإفطار العلني مقابل الصوم، لأن الصوم في بلدنا ليس فقط طقسا من الطقوس الدينية، إنه أمر وطني يجب أن ينفذه الجميع، قد نكون مغالين بعض الشيء إذا قلنا بأن الصوم عندنا مجرد عادة، على اعتبار دوركايم للدين كونه سلوكا نكتسبه اجتماعيا، أي صوم شهر كل سنة بدون اعتقاد راسخ بالمعنى الديني لمفهوم الاعتقاد، ثم كليفورد كيرتز الذي يعتبر أن الدين شأن ثقافي له مجموعة من الدلالات والرموز تختلف من مجتمع إلى آخر حتى ولو كانت تشترك في نفس العقيدة.
فيمكن القول إن رمضان واجب ديني، لكن هذا الواجب من المنظور الديني يستثني غير المسلمين، بل وأكثر من ذلك يستثني من كان على سفر ومن كان مريضا والمرأة في وضعية الحيض، هذه الاستثناءات يجيز لها الدين الإفطار، ولكن للدولة و بعض أفراد المجتمع ومنهم الشيوخ رأي آخر، فهي تعاقب من يتجرأ أو يعتقد بأن الصوم عقيدة وليس أمر، وهنا يصبح للدين معنى ثانوي، أي تنميط السلوك الاجتماعي وفق التمييز بين ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله، كما يفقد الدين مع هذه الممارسة دلالته الروحية والمتمثلة في العقيدة، ففي المتن القانوني المغربي (الجنائي) إذا ولدت في المغرب يفرض عليك شرعا وقانونا أن تكون مسلما (وهنا أؤكد كلام الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد كيرتز)، وما يشكل الحرية الفردية يشكل مسألة خطيرة تزحزح عقيدة المسلم، وبهذا يبدو أن المسلم المغربي يعجز عن تحصين نفسه لذلك تحصنه الدولة.
بعد كل هذا يبدو الأمر عجيبا أو غريبا أحيانا، حيث يبدو أن التدين يقسو على الفرد، ويكون الفرد في إطاره مذنبا وقاصرا وضعيفا، وبهذا نزيح الفرد عن الفاعلية الدينية، لأن هنا لم يخدم المسلم المغربي، بل اعتبره كائنا غير متحكم في نفسه وعاجز عن تحكيم شهواته، بالتالي تم ربطه بالقانون والشرع.
وعلى اعتبار ذلك، إن هذا ما ينفر الأفراد عن الدين لعدم إشراكه المعقلن في كل العمليات الدينية ولعدم فهمنا الصحيح للدين، وهذا يظهر أننا لم نستوعب بعد أن المواطنة أعظم وأشمل وأسمى من العقيدة، يتساءل الكثيرون لماذا ثقافتنا ثقافة دينية محضة وغير فلسفية أو جمالية أو إنسانية، وعلى ذكر الإنسانية فأعتقد أن المرجعية الإنسانية التي أسس لها الدستور المغربي سنة 2011، تنتفي حين يتعلق الأمر برمضان، إن الاستعمال السيئ للدين ولد وافتعل صراعا بين الصائم وغير الصائم، وهناك لسوء الحظ من أطلق على الصنفين صراع الحداثيين والتقليديين، أو المتدينين والعلمانيين فهذا في اعتقادي تسويق سيئ للقضية وتزيد من حدة البون الاجتماعي بين الأفراد أنفسهم وبين الأفراد والدين من جهة مقابلة، فلكي يحافظ رمضان على القيم التي خلق لأجلها وجب عليه الخروج من هذه الدائرة الضيقة للفعل والممارسة بفعل خطاب ديني متحجر، فهناك من المسلمين المغاربة أنفسهم من يتخذه حجة لتبرير عصبيته أو عدم القيام بعمله على أحسن وجه بحجة أنه صائم ويتخذ رمضان عذرا لعدم الامتثال لقيم الحق والواجب، وهناك العديد روائحهم كريهة، لأنه تم تسويق خطاب يحرم معجون الأسنان والروائح الزكية واعتبارها مفطرة ومكروهة، هنا يختلط الديني بالاجتماعي والمقدس بالمدنس منتجا لسلوكات تسيء لرمضان أكثر ما تحسن إليه، فإذا كانت هذه تداعيات رمضان فإنه يشكل عبئا على الكثيرين، في السابق لم تكن قضية الأكل العلني مطروحة بشدة، لكن اليوم باتت راسخة وتتأكد كل سنة نتيجة حراس الدين والعقيدة المبالغين في خطاب التشديد والتحريم، فالآخر عندما يوجه إليه ذاك الخطاب يعتبر نفسه كتلة مذنبة معرضة للتهديد والقتل، وليس عنصرا يحميه الدين بقيمه الفاضلة.
يجب اليوم أن نعترف أن المغرب أصبح متعددا، والتعددية كانت دائما مدخلا لممارسة الحرية والمواطنة، كضمان للتعايش السلمي، إن الأشخاص ينفرون من الدين حين يشاهدون الشيوخ القائمين على دينهم يدعون للآخر بالقتل والهلاك، ويتوعدونهم بجهنم، معتبرين أنفسهم منزهين من الخطأ فقط لكونهم مسلمين، وهذا يبني لدى المسلمين أنفسهم وعيا وجوديا سلبيا قاتلا للجماليات داخل الإنسان، ناهيك عن الآخر المختلف الذي ينصت إليك ولخطابك العنيف.
فلكي تتوسع دائرة الدين في سياقنا يجب أن نسوق له قيما كونية إنسانية حاضنة للفرد على اختلافه الفكري واللغوي والجنسي.. وخالقا للنقاش وفاسحا المجال للاستدلال، مانحا للأفراد قيم الحب والسلام وليس الخوف والترهيب، يجب أن نربي الناشئة على حب الله وليس على الخوف منه، فالخوف لا يصنع إنسانا سويا، فأينما توجد الحرية والحب يتواجد الإبداع.
وفي سبيل الختم أعتقد أن المجتمع المغربي يتميز إلى حد ما ببعض القيم الجميلة لا يمكن نكرانها، من قبيل التكافل الاجتماعي، وقبول الآخر، ولعل السياسة الخارجية المغربية مؤخرا أبانت على ذلك لا سيما فيما يتعلق بالتسامح الديني وغيرها من القيم الاجتماعية الحميدة، لكن رغم ذلك فالشارع المغربي يحتاج إلى مزيد من التوسيع في هذه القضايا، وكذا الاندماج الاجتماعي بين الديني والسوسيوثقافي والاقتصادي وغيرها من المجالات التي ستصنع إنسانا متكاملا لا معاقا.
< بقلم: إبراهيم أوهريش