صدر سابقا للباحث المغربي في التاريخ محمد المنصور كتاب موسوم بـ «المغرب قبل الاستعمار… المجتمع والدولة والدين (1792-1822)»، يمكن اعتباره بمثابة دراسة تاريخية قيمة اعتمدت على كم كبير من المراجع والإحالات، إذ تغطي إحدى أخصب الفترات في تاريخ المغرب والتي كان لها ما بعدها على صعيد الدولة والمجتمع المغربيين، وهي فترة حكم كل من المولى محمد بن عبد الله (1710-1790) وخلفه المولى سليمان (1760-1822) على امتداد النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر، لما عرفته من تحولات سياسية واجتماعية هامة وغير مسبوقة، وفيما يلي سنحاول تحليل أبرز مضامين الكتاب والإضاءة عليها:
إضاءة تاريخية على مورفولوجيا وواقع المجتمع المغربي
من حيث توزيع السكان مجاليا، كان معظم سكان المغرب خلال الفترة المشمولة بالدراسة وإلى غاية بدايات القرن العشرين يعيشون بالبوادي (حوالي 90 في المائة من السكان)، بينما لم تكن تغطي المدن سوى نسبة ضئيلة من الكثافة السكانية وقتئذ. وتبعا لذلك، لطالما شكلت القبائل الإطار الأساسي للتنظيم الاجتماعي في مغرب ما قبل الحماية، بحيث كانت تمنح الفرد شعورا بالانتماء لتشكل بذلك أحد ثوابت هويته. وفي هذا الصدد، ينفي المؤلف عن القبائل المغربية صفة الانغلاق والجمود، إذ لم يكن الانتماء يتحدد على أساس عرقي أو سلالي بقدر ما يتم قبول انضمام كل من يوافق على ربط مصيره بمصير القبيلة المعنية.
ويمكن تاريخيا تصنيف القبائل المغربية اعتمادا على معايير مختلفة كالانتماء اللغوي (قبائل أمازيغية في مقابل قبائل عربية) أو نمط العيش (قبائل مستقرة ضدا على قبائل تعتمد على نمط الترحال)، إلى جانب معيار لا يقل أهمية وهو طبيعة العلاقة مع المخزن (قبائل موالية في مقابل قبائل عاصية). غير أن الكاتب ينتقد التضخيم الذي طال ثنائية بلاد «المخزن» وبلاد «السيبة» في كتابات الأنثروبولوجيين والمستشرقين الغربيين ذات الأغراض الاستعمارية، فحتى القبائل الخارجة عن سلطة المخزن، كانت تميز بين سلطة السلطان الزمنية موضع الرفض والاعتراض التي يجسدها موظفو المخزن (قواد، عمال…)، ومكانة السلطان الدينية والروحية التي كانت توقرها باعتباره وارثا للبركة الشريفة.
وينسحب ما سبق على تضخيم التنافر القائم بين سكان القرى والمدن، إذ يقر المؤلف بوجود نوع من الاعتماد المتبادل بين هاذين المجالين الحيويين، فسكان البوادي كانوا في حاجة إلى تصريف وتسويق منتجاتهم الزراعية للحصول على مورد عيشهم من خلال تغطية الحاجيات الاستهلاكية للمدن من المواد الأساسية للعيش، ناهيك عن إقبال سكان البوادي على اقتناء ما ينتجه صناع وحرفيو المدن. هذا دون إغفال البعد الثقافي والروحي لتلك العلاقة المركبة، فقد كانت بعض المدن والحواضر المغربية تستقبل مجموعة من الطلبة القادمين من العالم القروي الراغبين في تحصيل العلوم الشرعية، وفي المقابل، لطالما استقطبت الزوايا والطرق الصوفية أتباعا لها من ساكنة المدن.
ومن جهة ثانية، يمكن التمييز بين المدن العريقة ذات الإشعاع الديني والثقافي والتي عرفت تواجدا مهما للجالية الأندلسية بعد محنة المورسكيين (كالرباط وسلا وفاس وتطوان)، بحيث ظلت على الدوام قبلة للعلماء والتجار والحرفيين، والمدن المخزنية التي كانت تحتضن أجهزة المخزن من إدارة وجيش كالمدن الساحلية الشمالية (طنجة وتطوان). أما على مستوى الفئات الاجتماعية، تجب الإشارة إلى التصنيف الدارج الذي يميز بين خاصة الناس التي تحيل إلى العلماء والشرفاء والوجهاء وشيوخ الزوايا والتجار وموظفي دار المخزن…، وعامة الناس (الفلاحين والحرفيين وصغار التجار) المغيبة عن المشاركة في تقرير الشؤون العامة.
أما فيما يخص قلب السلطة المركزية، أي السلطان، فقد كان يتوفر على اختصاصات غير محدودة تغطي على سبيل المثال لا الحصر قيادة الجيش والسياسة الجبائية للدولة، دون إغفال إدارة العلاقات الخارجية. كما تعددت وظائف السلطان وفي طليعتها حفظ الدين والشرع اعتبارا للمكانة الدينية للسلطان. ومن هنا، كان السلطان يقدم على تعيين القضاة والمحتسبين وتنظيم خطة الإفتاء، وترجيح كفة الشرع على حساب العرف القبلي (في هذا الإطار، من الصعب إنكار الطابع الديني لـ «الحركات» والحملات العسكرية التي كان يقودها السلاطين ضد القبائل الأمازيغية)، دون إغفال واجب الجهاد والدفاع عن حوزة دار الإسلام. ومع ذلك، فإن سلطات السلطان كانت تحدها بعض الحدود كشروط عقد البيعة بخاصة إذا بويع السلطان في موقف ضعيف، إلى جانب مراقبة العلماء وواجب استشارتهم.
سياسة الانفتاح على التجارة البحرية وتداعياتها
إذا كانت الفلاحة قد شكلت ولا تزال المورد الأساسي لعيش سكان البوادي، فإن الصناعة لطالما اعتبرت مصدر عيش جزء كبير من السكان الحضريين، وقد امتاز الصناع المغاربة ببراعتهم وشطارتهم، وهو ما تدلل عليه الشهادات الموثقة للأجانب الذين فتنوا بالمنتجات الصناعية المغربية. غير أنه يسجل بأن بنية القطاعات الاقتصادية الأساسية (الفلاحة والصناعة والتجارة) ظلت في جوهرها تقليدية ولم تواكب التحولات التكنولوجية التي عرفتها أوروبا.
ويمكن التمييز بين صنفين أساسيين من التجارة المغربية، فثمة من جهة تجارة رسمية دارت بين المخزن وبعض القوى الأوروبية كبريطانيا بهدف تأمين واردات المغرب من الأسلحة والعتاد العسكري لقاء تموين قواتها العسكرية المتمركزة في جبل طارق، وتجارة غير رسمية تمت بين التجار المغاربة والأجانب انطلاقا من الموانئ التجارية وفي مقدمتها ميناء الصويرة. وفي هذا المقام، يجب التنويه بأن بريطانيا شكلت الحليف الأساسي للمغرب أثناء الفترة المدروسة بحكم التواجد القوي لأسطولها بالبحر الأبيض المتوسط ومخاوف من غزو نابليوني وشيك للمغرب، هذا قبل أن تتراجع أهمية المغرب عند الإنجليز بعد نهاية الحروب النابليونية (1803-1815)، إذ لم يعد الممون الأساسي للقوات العسكرية البريطانية بمضيق جبل طارق، لتحاول قوى أخرى شغل ذلك الفراغ وتعزيز علاقتها مع المغرب أبرزها فرنسا.
لقد شهدت فترة حكم المولى محمد بن عبد الله (1710-1790) التي امتدت من سنة 1757 إلى غاية وفاته طفرة نوعية في التوجه الاقتصادي للبلاد لجهة الانفتاح على التجارة البحرية مع القوى الأوروبية اعتمادا على الموانئ والمراسي المغربية. وكان الهدف الأساسي لتلك السياسة يتجسد في تنويع موارد بيت المال والتخفيف من تبعية المخزن للقبائل من حيث تحصيل الجبايات المفروضة عليها، فقد كانت هذه الأخيرة تعبر عن تمردها على سلطة المخزن من خلال الامتناع عن أداء ما يتوجب عليها من تكاليف لبيت المال، مما كان يضطر السلطان إلى تعبئة جيشه وقيادة حملات عسكرية «حركات» لإخضاع تلك القبائل العاصية.
وعليه، أسفرت سياسة الانفتاح التجاري التي نهجها المولى محمد بن عبد الله عن تداعيات مهمة، فقد أفضت إلى انقطاع مجموعة من التجار المغاربة عن تجارة القوافل التقليدية (كتلك المتوجهة إلى المشرق وبلاد السودان) وتوجههم إلى التجارة البحرية، بحيث جاب التجار المغاربة أرجاء أوروبا لتسويق منتجاتهم. غير أن ذلك لم يسهم بالضرورة في تكوينهم لثروات مهمة بفعل ضعف الرأسمال المادي من جهة، وسطوة الاعتبارات والقيود الدينية مما يفسر رفضهم التعامل بالكمبيالة وانعدام الخدمات المصرفية والتأمين من جهة ثانية.
وفي المقابل، يمكن اعتبار اليهود المغاربة الذين امتهنوا النشاط التجاري المستفيد الأكبر من سياسة الانفتاح لما عهد عنهم من حس تجاري مرهف، بحيث غادر العديد منهم المناطق الداخلية التي كانوا يقيمون فيها وتوجهوا صوب الموانئ البحرية (الصويرة على وجه الخصوص)، إذ تمكنوا بفضل ذلك من تكوين ثروات هائلة. كما احتفظ العديد من التجار اليهود بعلاقات جيدة مع المخزن السلطاني، فقد كان السلطان يعهد إليهم ببعض أمواله لاستثمارها في تجارة التصدير والاستيراد. غير أن هذه الوضعية المتميزة أثارت حفيظة بعض الفقهاء المغاربة وعامة الناس لما رأوا فيها من خروج عن وضعية أهل الذمة التقليدية، بخاصة وأن بعض اليهود المغاربة أمسوا متشبعين بنمط العيش الغربي بفعل الاحتكاك مع أوروبا.
ومع تولي المولى سليمان خلف محمد بن عبد الله للحكم سنة 1792، ستعرف أوائل فترة حكمه تراجعا عن سياسة الانفتاح التجاري التي نهجها والده، بحيث سينهج سياسة حمائية انعزالية تمثلت في فرض قيود على تصدير المنتجات المغربية، دون إغفال تقييد سفر الرعايا المغاربة إلى البلدان الأوروبية، وهذا كان يعزى إلى توجهاته الدينية السلفية التي عززها موقف العلماء المتحفظ من الاتجار مع «دار الكفر» والإقامة فيها من ناحية، إلى جانب الاعتبارات الموضوعية التي كانت وراء انحسار التجارة البحرية والمبادلات مع الخارج مثل الحروب النابليونية التي تسببت في اضطراب الحركة البحرية، فضلا عن الكوارث الطبيعية التي عرفها المغرب (أبرزها طاعون 1799-1800 الذي قضى على حوالي نصف سكان المغرب).
وقد ساهمت السياسة الجبائية التي نهجها المولى سليمان في التخفيف من وقع تلك السياسة الانعزالية وهو ما انعكس إيجابا على النشاط التجاري ووفرة السلع والمنتجات في الأسواق المحلية، إذ تم تخفيض رسوم الاستيراد المفروضة على التجار المغاربة، وإعفاؤهم من أداء المكوس، إلى جانب إبطال الاحتكارات المخزنية لبعض المواد. غير أن تخفيف العبء الضريبي على المدن في مقابل تشديده على البوادي، سيعزز اعتماد المخزن على دخل غير قار مرتبط بمدى انتظام التساقطات المطرية، وهو ما سيتأكد مع القحط الشديد الذي ضرب المغرب ابتداء من سنة 1815 وأدى بالمحصلة إلى مجاعة دامت حوالي سنتين. ومما زاد الطين بلة التوترات بين المخزن والقبائل المتمردة التي أسفرت عن شل الحركة التجارية في بعض الطرق الحيوية. وكنتيجة لذلك، سيعيد المولى سليمان إحياء سياسة الانفتاح التجاري على أوروبا لوقف تقلص موارد بيت المال بعدما أصبح مقتنعا بعمق وصواب نهج والده القائم على تبني التجارة البحرية كمصدر أساسي لدخل الإيالة الشريفة.
صراع المولى سليمان مع القوى المحافظة
لعبت القوى الدينية المحافظة دورا أساسيا في مغرب ما قبل الحماية بالنظر للنفوذ الروحي الذي كانت تتمتع به في أوساط العامة وأروقة الحكم. وفي طليعة تلك القوى، نجد فئة العلماء بوصفها المؤتمنة على حفظ الشرع وموضع استشارة السلاطين في الشؤون الدينية والعامة، بحيث كان تحصيل العلوم الشرعية يعد مدخلا أساسيا لاكتساب الوجاهة الاجتماعية، وهو ما ينطبق أيضا على فئة الشرفاء المنتسبين إلى آل البيت الذين كان يغذي نفوذهم تأثير الحركة الصوفية بالمغرب التي استندت إلى تبجيل الرسول وذريته، ولذلك اهتم السلاطين الذين تعاقبوا على حكم البلاد بالتقرب إليهم واستمالتهم عن طريق إغداق الامتيازات المادية عليهم وتكريس طقوس الاحتفال بالمولد النبوي، بالنظر للنفوذ الاجتماعي الذي كانت تكتسبه تلك الفئة.
غير أن علاقة المولى سليمان مع القوى المحافظة الأساسية داخل المجتمع المغربي (الشرفاء، الزوايا والطرق الصوفية، لفيف من العلماء ذوي النسب الشريف…) كان يطبعها النفور المتبادل. وبمنأى عن الاعتبارات الدينية، لطالما رأى السلطان العلوي في تلك القوى عائقا أمام سياسة المركزة الشديدة التي اتبعها. وقد جاءت فتنة فاس (1820-1822) لتتوج وتخرج إلى العلن ذلك الصراع الكامن، حيث سيقدم ثلة من وجهاء وشرفاء المدينة مصحوبين ببعض العلماء والتجار على التصريح بخلع المولى سليمان وتنصيب سلطان منافس له (المولى إبراهيم) لتدخل البلاد في دوامة من الاضطرابات التي تعكس مصالح وإرادات متنازعة.
وقد ساهمت جملة من العوامل المتداخلة في حدوث فتنة فاس، من أبرزها مواقف المولى سليمان واقتناعاته الدينية، فبالرغم من كونه ظل متشبثا بالمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، إلا أنه أبدى تعاطفا ملحوظا مع بعض جوانب الدعوة الوهابية، لاسيما من حيث إدانته للبدع والانحرافات الدينية التي تحدث داخل الزوايا والطرق الصوفية التي تضرب بحسبه جوهر الدين الصحيح، مع أن موقفه هذا لم يخل من خلفيات سياسية تروم تحجيم النفوذ الروحي المتعاظم للزوايا الذي كان ينازع المكانة والشرعية الدينية للسلطان. والحال أن تجذر الأيديولوجيا الصوفية والشريفية بالمغرب أبطل مفعول مواقف السلطان وتوجهاته الدينية كما يشير إلى ذلك مؤلف الكتاب، وظلت الدعوة الوهابية موضع رفض وإدانة من عامة الناس وخاصتهم على السواء.
وعطفا على ما سبق، تطفو على السطح عوامل أخرى مثل إحياء سياسة الانفتاح التجاري بعد سماح السلطان بتصدير بعض المنتجات المغربية في خضم أزمة الجفاف والمجاعة وارتفاع الأسعار مما سبب معارضة دينية وشعبية قوية لذلك الإجراء، فضلا عن قرار المولى سليمان القاضي بتفكيك الأسطول البحري المغربي سنة 1817 بسبب تقادمه ولإبداء حسن النية إزاء القوى الأوروبية مما عده البعض تخليا عن واجب الجهاد البحري ضد النصارى، هذا وصولا إلى واقعة زيان 1819 حيث منيت جيوش السلطان بهزيمة مذلة على يد قبائل المنطقة، مما أصاب المخزن السلطاني بالعجز والشلل وترك المدن الكبرى وفي طليعتها فاس عرضة للنهب وانعدام الأمن، بحيث توفرت الأجواء المثالية لقيام حركة التمرد التي تزعمتها القوى المحافظة ووصل صداها إلى مدينة تطوان.
غير أن ما يسمى بفتنة فاس، وعلى عكس ما كانت تأمله القوى المحافظة، أدت إلى ضخ دماء جديدة في المخزن السليماني، إذ سرعان ما خرج المولى سليمان من عزلته التي أملتها الهزيمة وشرع في تعبئة حلفائه فور علمه بتنصيب سلطان منافس له، قبل أن ينجح في إخضاع خصومه وتثبيت حكمه.
وبغض النظر عن التفاصيل والوقائع التي تعج بها الفترة المدروسة، يخلص الكاتب إلى وجود دينامية تاريخية تؤطرها قوامها النزوع إلى مركزة السلطة والانفتاح على التجارة البحرية مع الخارج. والواقع أنه يصعب الفصل بين المظهرين كما يقر المؤلف، ذلك أن التوجه نحو التجارة الخارجية كان يتوخى تكريس المركزية من خلال ضمان استقلالية المخزن من حيث الموارد المالية، هذا ناهيك عن التحولات الاجتماعية والثقافية التي أسفر عنها ذلك التوجه والمتمثلة في احتكاك فئات اجتماعية بنمط العيش الغربي مما أضعف نسبيا من نفوذ القوى المحافظة بالمجتمع المغربي.
< بقلم: صلاح الدين ياسين