تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
الحلقة 1
أحمد الشرقاوي: ذاكرة موشومة
تكون أحمد الشرقاوي (مواليد أبي جعد 1934) بمدرسة المهن الفنية بباريس سنة 1959، شارك في مرسم «أوجام» بمدرسة الفنون الجميلة بباريس سنة 1960، كما درس الفن في بولندا بمدرسة الفنون الجميلة في فرسوفيا سنة 1961، حينها احتك بالفنان التجريدي البولوني «ستاجوسكي». أقام هذا الفنان الرائد مجموعة من المعارض الفنية داخل المغرب وخارجه، علما بأنه توفي في مقتبل العمر سنة 1967. ترتكز الشخصية الاعتبارية للشرقاوي على إيمانه العميق بأن الفعل التشكيلي مشترك إنساني بإمكانه الغوص في همومه الوجودية ومداراته التخييلية، وهنا يكمن حبل السرة مع المسألة التشكيلية بكل رموزها الدالة. الضوء في أعمال الشرقاوي معادل للفن الذي نعته هيجل بالجني الأنيس الصادق مضيفا: «إن أسمى مقصد للفن هو ذلك المشترك بينه وبين الدين والفلسفة: نمط تعبير عن أرفع حاجيات الروح وأسمى معانيه».
تركيبات وملصقات من الحجم الصغير على قماش القنب (أسلوب كان يعتز به بول كلي)، أشكال ورسومات وأوشام وسمها الشرقاوي بـ «علامات والدتي»، دوائر ومثلثات ونقاط وخطوط منكسرة ومتخيلة، انطباعات وجهه البيضوي، صورة زوجته «لودميلا» وابنه «نور الدين» مذكراته اليومية، افتتان باللون الأبيض كمسافة مشرقة واستغوار للفكر الصوفي من خلال لوحتيه الكبيرتين: «الديوان» و»الحلاج» وذلك في أواخر عمره، حيث استأثر بالبحث عن المطلق والتوليف بين الصوفية والتجريد لمعانقة الحرية والإنسانية: أليس الفن لغة أصيلة للمرئي واستعارة لأنشودة الكلمة الخلاقة؟
أوشام بدوية مغربية وزخارف الريف مشار إليها ومرسومة بالحبر الأسود داخل خرطوشات مخططة. فمنذ سنة 1960، اهتم الشرقاوي بالزخرفة الموشومة أو المرسومة أو المنسوجة. ما بين سنتي 1962 و 1964، تأثر بالأشكال المستديرة ذات الألوان المتعددة وكأنها الأعمال الغنائية المجردة للفنان روجيه بيسيير الذي ولد عام 1888 بمنطقة «لوت أي غارون» بفرنسا وقام منذ 1911 برحلات طويلة إلى إفريقيا الشمالية. في سنة 1965، انكبت أعمال الشرقاوي على مقاربة المرايا المتوهجة والألوان اللامعة التي تبعث من النور كخلفية للوحات القماشية التي قال عنها الباحث ادموند عمران المليح: «حاول دون أي تظاهر أو ادعاء أن ينقل إلى عالم التصوير تجربة إلهام صوفية لاشك فيها» (أحمد الشرقاوي). فعبر هذا الفنان الرائد تعرف الباحث بيير غودبير على المغرب الذي أكد بأن الشرقاوي نموذج لنسيج أصيل وراق بين هويته المزدوجة التي تتأرجح بين الإرث الأمازيغي لأمه وإرث التقاليد العربية الإسلامية لأجداده. متشربا بالفن المغاربي والتصور الصباغي الغربي ومتأثرا بالثقافة الصوفية لجده، وبمدرسة باريس، انشغل الشرقاوي انشغالا كبيرا بالتجريد الغنائي لبيسيير وبول كلي محدثا قطيعة مع الفن الاستشراقي، حيث فتح مع الغرباوي طريق التجديد للمدرسة المغربية منذ عهد الاستقلال، وقد تلقت أعماله إقبالا كبيرا وتشجيعا متزايدا في المغرب من قبل «غاستون دييل» الذي خص له مونوغرافيا، وبباريس من قبل «سيريس فرونكو» و»مونيك دوغوفنان».
من الانتشاء تتبلور أعمال الشرقاوي الصوفية للتعبير عن جوهر الأشياء برغبة متوهجة ومزاجية منفعلة، حيث التحليل الدقيق للمفارقات بين الماضي والحاضر، كتجذير وكإنصات عميق لفن عصره بأعرافه وتجاربه، وإخلاص للذات المزدوجة (أب ينحدر من أسرة صوفية عريقة، وأم تنحدر من قبيلة أمازيغية للأطلس المتوسط). إنه ملتقى الطرق بتعبير الباحث السجلماسي والحلقة الحية بتعبير الناقد خليل مرابط التي تشكل الخط الموحد بين الذاكرة الخافقة للبعض والانشغالات التشكيلية للآخرين في ضوء واقعه المعرفي المتوزع بين التصوير الصباغي والثقافة، مقدما بذلك طابعا مغايرا للصراع الدائر حول التشخيص والتجريد عبر سجل «الثقافة الوطنية». فمنهجيا، يختار الشرقاوي علامته، يؤولها ويحولها من موضعها قبل أن يثبتها على القماش لخوض بدايات جديدة. علامات متوالدة نموذجية ومتعددة الدلالات تؤسس لكتابة النور بالنور بوصفها كثافة غنائية مسكونة بالقلق المعرفي الذي يجد صداه في المواضيع المحددة في عناوين اللوحات إلى درجة أنه أقام سنة 1964 معرضه الباريسي تحت شعار «القرآن». قال في حقه رفيق دربه الغرباوي: «لا لم تغادرنا، ستبقى دائما منبعا ينبض بيننا، وحده الجسد غائب… الروح حاضرة. إذا كانت عيوننا لا تستطيع أن تراك، فإننا نستشعر حضورك بعقلنا». بالفعل، كما أكد الناقد خليل مرابط فمنذ موت الشرقاوي عام 1967 ورثت الممارسة التشكيلية المغربية حضورا مزدوجا ومشرقا يحمل توقيعي الشرقاوي والغرباوي.
إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن