في القلب النابض لمدينة الدار البيضاء، التي عاش وتعايش فيها المغاربة يهودا ومسلمين، يقع كنيس “بيت إيل” في موقع إستراتيجي قرب المدينة القديمة حيث يتواجد الملاح اليهودي. يمكن أن يشعر المارة بقليل أو كثير من الفضول حول هاته العمارة الدينية للمغاربة اليهود.. أو قد يتساءلون عن ماذا يوجد بداخلها؟ مبنى أنيق، يجذب الأنظار، ويعكس هوية الثقافة المغربية في فن العمارة، لكنه معمار مزين بكتابات بالحروف العبرية.. استطاعت جريدة “بيان اليوم” الولوج إلى الفضاء الداخلي لهذا الكنيس أو “البيعة” كما يسميه اليهود، لإجراء ربورطاج حول مكان يعكس جانبا من جوانب حضور تراث المغاربة اليهود في الدار البيضاء.
قاعة أنيقة وألوان متناسقة
فور دخول الزائر من الباب الكبير، سيجد فسحة كبيرة بها أشجار ونافورات ولوحات تقدم معلومات عن تاريخ كنيس “بيت إيل” الذي بني عام 1949، أي في فترة الحماية، ومن خلال تصفحنا للورقة التقنية يتضح أن الكنيس بني من طرف مجموعة من الأسماء تحت إشراف إيلي بيباس .Elie Bibas
بعد تجاوز الزائر لهاته الفسحة والصعود عبر الدرج، لكن قبل الدخول إلى قاعة الكنيس، سيجد بهوا صغيرا توضع به “الكيبا” التي يضعها الرجال اليهود على رؤوسهم، ثم بعض المناديل الخاصة بالنساء اللواتي يضعنها على رؤوسهن، إذ لا يمكن للمرأة دخول “بيت الله” دون أن تغطي رأسها.
الكتابات بالعبرية ونجمة داوود وزخارف مغربية هي أولى العلامات التي تستوقف الزائر عند باب الكنيس المليء بالزخاف باللونين البني والذهبي. هناك، أيضا، في المدخل بعض الملابس التي يرتديها اليهود وهي خاصة بالصلاة تدعى تاليت وتيفيلين.
في الأقصى يوجد باب بني اللون بداخله سفر التوراة (Sefer Torah) ، على يمين الباب ويساره، هناك شمعدانان منتصبان على رخامة سوداء، في الشمعدان، ثمانية شمعات تتوسطها نجمة داوود.
ومما قد يجذب الزائر، أيضا، نظافة المكان وأناقته، كل شيء منظم بترتيب مثالي مع طغيان اللون الأحمر على الزرابي والأفرشة.. وثمة ثريا كبيرة جدا تتوسط الكنيس وتضيء المكان الذي يقف فيه الحاخام، وهو عبارة عن مربع خشبي الشكل، تزينه الشمعدانات. كما يمكن للزائر أن يجد في الجوانب رفوفا صغيرة توضع عليها التوراة وكتب أخرى بالعبرية.
سيبدو للعيان أن ثمة حرصا شديدا على المزج بين ألوان جميلة ومتناغمة في الرسومات التي توجد على النوافذ الخشبية داخل الكنيس، وبالرغم من أن الكنيس يحتوي على عدد من الزخارف في تناسق تام مع الألوان، إلا أنه لا توجد صور.. لأنه في الديانة اليهودية، لا يمكن وضع صور في المكان الذي يعبد فيه الله.
يوم الشبات والصلوات الثلاث في بيت الله
استقبلنا المدير لبيعة بيت إيل، حزوت إسرائيل Israël Hazout، وهو في نفس الوقت قاض بالمحكمة العبرية بالدار البيضاء، ليحدثنا أكثر عن تاريخ هذا الكنيس، حيث قال: “أنا هو حزان الجامع الكبير بالدار البيضاء، وأنا من أقيم الصلوات في هذا الجامع”. قبل أن يضيف: “هذا الجامع يسمى بالعبرية “بيت إيل”، يعني دار الله أو بيت الله. هنا، نذكر اسم الله في الصلوات التي نقيمها في الكنيس، وهي ثلاثة: صلاة الصبح، والمغرب والعشاء. يختار اليهود الأوقات التي تناسبهم للصلاة، ويتم إعلامنا بالساعة التي سيحضرون إلى الكنيس من أجل الصلاة، لكن الأهم أن لا يتم تجاوز وقت الصلاة، يعني ليس قبل ذلك التوقيت أو بعده”.
ويواصل محدثنا شروحاته قائلا: “يوم السبت، هو يوم مميز عند اليهود، لأنه يوم الشبات، حيث تقام صلاة مطولة داخل الكنيس تبدأ في الصبح على الساعة التاسعة صباحا وتنتهي على الساعة الثانية عشرة زوالا، أما صلاة المغرب فتمتد لحوالي عشرين دقيقة، فيما تقام صلاة العشاء، أي في الليل، حوالي ساعة تقريبا”..
لا يقتصر اليهود، خلال يوم الشبات داخل الكنيس، على الصلاة فقط، بل يتم استخراج سفر التوراة، وترديد بعض الأناشيد الدينية التي تدعى “البيوتيم”، وهي أشعار مغناة تكون على شرف أحد الحاخامات الكبار، وتغنى أشعار البيوتيم، أيضا، في الاحتفالات والأعياد الدينية للمغاربة اليهود، ويشترط أن يكون الحاخام ذا صوت جميل. ومن أشهر المغاربة اليهود الذين أبدعوا في البيوتيم نذكر الحاخام ربي دافيد بوزاكلو والحاخام حاييم لوك، والإيقاع الذي يستعمله المغاربة اليهود في البيوتيم هو إيقاع السفارديم.
ولتقريبنا أكثر من تاريخ الكنيس قال حزوت إسرائيل: “هذا الكنيس بالمناسبة يسمى، أيضا، الكنيس الجزائري، حيث عاش بعض الجزائريين اليهود، النازحين بالضبط من وهران، في المغرب في فترة الاستعمار، وهم من أشرفوا على بناء هذا الكنيس سنة 1949. في البداية، كان يصلي فيه المغاربة والجزائريون اليهود، وحينما رحل الجزائريون، أصبح المغاربة اليهود يصلون فيه. وقد قمنا عام 1996 بترميم الكنيس بأكمله، ووضع هاته الزخارف والألوان التي ترونها اليوم”.
الزيارات.. وطقوس الزواج والبلوغ
في الكنيس، أيضا، يزوج الحاخام العروس والعروسة في طقوس دينية قبل الذهاب إلى الحفل الذي يقام خارج الكنيس. هناك أيضا طقوس البلوغ للولد، والذي يكون في سن 13 ويوم عند اليهود، وهي احتفالية تحييها عائلة الولد الذي يتحول من طفل إلى بالغ يمكنه أن يصلي صلاة الجماعة التي تتكون من 10 أفراد، كما يستطيع أن يرتدي تاليت.
بالنسبة للبنات، يبلغن في الديانة اليهودية في سن 12 ويوم، لكن دون إقامة احتفالات. يقول القيم على الكنيس: “أحب أن أشير في هذا الصدد، إلى أن الفتاة حينما تبلغ، وفي كل مرة بعد انتهاء عادتها الشهرية، يجب أن تغطس في صهريج مليء بالماء يكون في الكنيس، ويعتبر هذا الطقس بمثابة طهارة، وإذا لم تقم به يحرم عليها الاجتماع مع زوجها، وهنا أتحدث عن اليهود المتدينين”. واختتم حزوت إسرائيل حديثه بالقول: “جميع الأجانب سواء يهود أو غيرهم الذين يزورون المغرب يأتون لزيارة كنيس بيت إيل، لأنه هو أكبر كنيس وأكثرهم شهرة، لهذا نحرص دائما على أن يكون الكنيس نظيفا”.
الكنيس الرسمي لمدينة الدار البيضاء
من جهته، قال جورج شبات، المكلف بالخيرية أو دار العجزة التي توجد قرب الكنيس: “أحاول أن أتعاون مع الطائفة اليهودية بما أنني أنتمي إليها. هدفنا هو الحفاظ على تراث المغاربة اليهود بتعاون مع رئيس مجلس الجماعات اليهودية بالمغرب، سيرج بيرديغو (…) علاقتي مع كنيس بيت إيل هو أنني أتعاون معهم في التواصل”.
وحدثنا جورج شبات أيضا، بدوره، عن الصلوات بالكنيس مشيرا إلى أنه، في طقوس الديانة اليهودية، أثناء الصلاة، تصلي النساء وحدهن في الجزء الأعلى من الكنيس، فيما يصلي الرجال في القاعة بالأسفل، ما عدا إن كان هناك حدث ما، يمكن أن يصلي الرجال والنساء مع بعض ولكن بشكل منفصل، أي أن الرجال في الجهة اليمنى والنساء في الجهة اليسرى. وبحسب شبات، فإن الرجال يضعون الكيبا فوق رؤوسهم ليستشعروا حضور الإله، مؤكدا على أنه يجب الحرص على ارتدائها يوميا وكذلك في المناسبات الدينية.
يساهم كنيس بيت إيل في تعزيز التنوع الثقافي بالمغرب عموما وبالدار البيضاء على وجه الخصوص، لاسيما وأن اليهود يجتمعون فيه ثلاث مرات في اليوم من أجل الصلوات الثلاث: شحريت، منحة، عربيت. يضيف شبات: “حينما لا يتأتى حضور عشرة أشخاص، يمكن أن نجمع منحة وعربيت في نفس الوقت، أي صلاة الظهر وصلاة العشاء”.
وبالإضافة إلى كون الكنيس مكانا للعبادة، فكما سلف الذكر، يتم الزواج فيه ويحتفل فيه أثناء البلوغ، وفي الصلوات الكبرى مثل صلاة كيبور، أي يوم الغفران “في هذا اليوم، نستقبل السلطات، ونتوجه بالشكر والدعاء لجلالة الملك، والعائلة الملكية، وصارت العادة هي الاجتماع في هذا الكنيس لأنه الأكبر في الدار البيضاء، ويمكن اعتباره الكنيس الرسمي للمدينة. تحضر أيضا وفود من الأجانب لزيارة الكنيس واكتشاف التراث المغربي اليهودي”. يقول جورج.
تحتوي الدار البيضاء تقريبا على حوالي عشرين كنيسا، كل هاته البيع مفتوحة أبوابها للصلاة وفي يوم شبات، لكن بيت إيل هو أكبرهم، وأجملهم وأكثرهم رونقا، ويمكن أن تحتضن قاعته حوالي 250 شخصا. لكن كل هذا ليس مهما، بالنسبة لشبات، بالرغم من أن الكنيس جميل، إلا أن الأهم عند اليهود، هو أنه مكان لعبادة الله.
ربورطاج: سارة صبري
تصوير: أحمد عقيل مكاو