> بقلم: زيناتي قدسية
بدأ الاحتفال بالعاشر من يناير، في كل عام، كيوم عربي للمسرح والذي يصادف تاريخ انطلاق الهيئة العربية للمسرح في مؤتمرها التأسيسي عام 2008، ومنذ ذلك الحين أرست الهيئة تقليداً سنوياً للاحتفال بهذا اليوم، وتشكل رسالة اليوم العربي للمسرح صلب هذا الاحتفال حيث تكلف شخصية من الأعلام المسرحية العربية رفيعة المقام والمنجز بكتابة وقراءة الرسالة في كل سنة.
وقد تعاقب على كتابة وإلقاء هذه الرسالة منذ عام 2008 الفنانون:
< يعقوب شدراوي 2008، من لبنان
< سميحة أيوب 2009، من مصر.
< عز الدين المدني 2010،من تونس.
< يوسف العاني 2011، من العراق.
< سعاد عبد الله 2012، من الكويت.
< ثريا جبران 2013، من المغرب.
< صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي 2014، من الإمارات
< يوسف عايدابي 2015 ، من السودان.
أما صاحب النسخة التاسعة من رسالة اليوم العربي للمسرح والتي تلقى في افتتاح الدورة هو الفنان المسرحي زيناتي قدسية.. وهو فنان فلسطيني من مواليد قرية أجزم، حيفا 1948. شكل في ثمانينيات القرن الماضي مع الكاتب الراحل ممدوح عدوان ثنائيا مسرحيا قدما من خلاله تجارب رسخت في الذاكرة المسرحية العربية، مثل: (حال الدنيا، القيامة، الزبال، رأس الغول، البحث عن صلاح الدين، وغيرها) كما أسسا مسرح (أحوال) عام 2002 في مدينة إربد الأردنية، لينطلق عام 1971 مجدداً من دمشق، ولا يزال يعطي للمسرح في كل المجالات مؤلفاً وممثلاً ومخرجاً ومحكماً.
قدم زيناتي قدسية عددا من الأعمال تتناول المأساة الفلسطينية وأخرج مجموعة من الأعمال الجماعية للمسرح القومي ربما كان أبرزها مسرحيته «رأس الغول» التي زاوج فيها بين أعمال الأديبين محمد الماغوط وزكريا تامر..عمل في المسرح لمدة 35 عاماً. وفي عام 1971 انضّم إلى فرقة المسرح الجامعي المركزية بسورية لمدة أربع سنوات. كما عمل في مسرح الهواة بالإخراج والإعداد والتمثيل. وفي عام 1977 عمل على تأسيس المسرح التجريبي. ثم عين عضوا في نقابة الفنانين في عام 1978. وفي عام 1980 عمل ممثلاً في المسرح القومي. وعمل مديراً فنياً لفرقة مسرح العمال، كاتباً ومخرجاً. وعضو في فرقة المختبر المسرحي. ترأس عدة لجان تحكيم في المهرجانات المحلية والعربية وشارك في العديد من المهرجانات المسرحية العربية والدولية…
وبمناسبة اختياره لكتابة رسالة اليوم العربي للمسرح لهذه السنة، والتي سيلقيها غدا الأحد في افتتاح الدورة الثامنة لمهرجان المسرح العربي التي تحتضنها دولة الكويت، قال الأمين العام للهيئة العربية للمسرح الكاتب إسماعيل عبد الله في ندوة صحفية عقدت قبل أسبوع بالشارقة: «إن الأمانة العامة للهيئة قد اختارت الفنان زيناتي قدسية ليكون صاحب الرسالة التاسعة من رسائل اليوم العربي للمسرح كونه فناناً عربياً متميزاً، ورغم كل الظروف التي يمر بها استطاع بوعيه وفكره أن يؤسس مدرسته في مسرح المونودراما، كما أن له إسهامات فكرية وفنية كبيرة من خلال المسرح الوطني الفلسطيني، سواء على مستوى العروض المسرحية التي قدمها أو على مستوى بناء أجيال ملتزمة لفن المسرح، وما زالت عروضه المسرحية تشكل علامات مهمة في مسيرة المسرح الفلسطيني بوجه خاص والعربي بوجه عام… قدسية صاحب مشروع مسرحي كبير، كما أنه صاحب مواقف وطنية وقومية تؤكد التزامه وجديته نحو هوية للمسرح العربي، في خضم التحديات الكبيرة التي يواجهها هذا المسرح على كافة الأصعدة»..
وفيما يلي النص الكامل للرسالة:
لم يعد أمامنا خيارات.. ولا نملك رفاهية الوقت
إخوتي وأصدقائي…
يا مَن تصنعون الجمال في زمن يُصرُّ فيه المتهافتون على إنتاج القبح.
توقي كبير، و شغفي أكبر، لهذا اللقاء الذي دعتنا إليه الشارقة المشرقة، المدينة – المنارة، مركز الذوق الفني الرفيع، ممثلةً بهيئتنا العربية للمسرح، لنحجَّ كلنا إلى واحة الثقافة والعلوم والإبداع العربي والإنساني، إلى هذا البيت، بيتِنا العربي الكويتي العريق والأصيل، بيت الأمن والسلام.. هذا البيت الذي طالما جمعنا في أوقاتٍ كنا فيها أشتاتاً، واحتوانا بذراعيه الحانيتين ودفء قلبه في أزمان عزَّ فيها اللقاء.. نحن الذين نشكل البقية الباقية التي ما تزال متمترسة على أسوار حصن الجمال، مدافعين عنه ببسالة قل نظيرها.
أصدقائي…
من أمِّ البدايات، أمِّ النهايات. من رائحة الزيتون والكرمة والزعتر التي تعبق من “فستيان” أم سعد، من العاشق، العائد إلى حيفا مُحمَّلاً ببرقوق نيسان.. من روح غسَّان، معلمي الأول، فاتحة وعيي وإدراكي للأشياء والحياة. من “إجزم” قريتي الهاجعة على كتف حيفا وظلال الكرمل كفرخ حمام يستدفئ بجناح أمه.. حيث الولادة.
من “دمشق”، شامةِ الدنيا، أمِّ المدنِ وروحِ التاريخ.. دمشق، ثقافتي، هواي، مرآة روحي، كل التجربة…
ستة وأربعون عاماً في “دمشق”، وقبلها أربع سنوات في عروس الشمال “إربد”.. خمسون عاماً ليست شيئاً في عمر الزمن، ولكنها العمر الحقيقي لتجربتي في المسرح، والحياة إذا شئتم.. منازلة لم تتوقف يوماً، حاولت خلالها أن أمسك بتلابيب هذا الفن الصعب العصيّ، ولم أفلح.. لكنني ومنذ وقت مبكر أدركت أنني مقبل على خوض معركة شرسة قد تطول، ولا أدري لصالح من ستحسم نتائجها.. ومع مرور الزمن واحتدام المعركة أدركت أن المسرح قضية كبرى وتحتاج رجالاً على مقاسها.
أيها الأعزاء: إذا كان للشعوب برلمانات، فإن المسرح هو برلمان الثقافة الشعبية دون منازع. ولكي يتحول المسرح في بلادنا إلى برلمان للثقافة الشعبية حقاً، فإنني، مع الأصوات التي سبقتني، وبعيداً عن تكرار ما قلناه وكتبناه ونظَّرنا له منذ مائة عام ويزيد، أدعوكم للاندفاع بوعي وجرأة وحكمة نحو مسرحنا الجديد والمقاوم.. وأن نحوِّل كل المساحات المتاحة – وأقتبس من الدكتور القاسمي – : “إلى أمكنة للتعبير عن المقاومة التي تبديها الأفكار التنويرية ضد الأفكار الظلامية، وأن نجعل من مسرحنا مدرسة للأخلاق، والحرية”.. انتهى الاقتباس.
نعم أيها الأخوة.. مسرح جديد حر ومقاوم، بدأت إشاراته الأولى تتبدى منذ عشر سنوات.. حرٌ مقاوم.. لأن المسرح بطبيعته حُرّ، ومنذ نشأته الأولى كان مقاوماً، وقدم آلافاً من العروض المسرحية المقاومة بمعناها الحرفي، مقاومة المحتل، الغازي، العدو، المستعمر، وفي كل دول العالم هناك دائماً حضور لافت للمسرح المقاوم وإن اختلفت أساليب التعبير عن روح المقاومة من مسرح لآخر. وما دام هناك فاشيون وديكتاتوريون، وقابليات لنشوب حروب ثنائية أو كونية، وما دام على الأرض أربابٌ يتمسكون بربوبيتهم ويعملون على تخريب العالم وتدمير أمنه عبر التاريخ، وما دامت الآفة الإنسانية الماثلة أمامنا والمتمثلة في البعض الذي يرى العالم أضيق من أن يتسع له وللآخرين، ويريد أن يعيش وحده جاعلاً نهج حياته: “هذا كله لي”.. ما دام كل هؤلاء يعبثون بحياتنا ومصائرنا، فإن المسرح المقاوم يبقى حيَّاً ويعبر عن حرية الإنسان والشعوب وثقافاتها… هذا من جانب.
وفي الجانب الآخر، ليس شرطاً أن يكون هناك احتلال أو غزو عسكري أو مستعمر لننشئ مسرحاً مقاوماً. ففي فترات السلم العالمي، تبدو حاجة البشر لمسرح مقاوم ماسَّة وملحة. وكأن هذا الهدوء والاستقرار الظاهري والاسترخاء المريب تختفي وراءه نُذُرُ التفجرات المباغتة والحروب المدمرة. وما سعي الدول المحموم لامتلاك الأسلحة بمختلف أنواعها، والصراع المعلن والخفيّ على حيازة أكثرها فتكاً وتدميراً تحت مسمى التوازن الاستراتيجي، إلا تهيئة واستعداداً لهذه التفجرات المباغتة. ولذلك، فإن المفكرين والمثقفين والعلماء والشعراء ورجال المسرح في مختلف أنحاء العالم، حين يواجهون القبح بالجمال واليأس بالأمل، وحين ينتصرون للإنسان من أجل حريته وكرامته الإنسانية وحقه في الماء والطعام والمسكن اللائق والصحة والتعليم والحب وإبداء الرأي والدفاع عن حقه في الوجود.. حين ينتصرون لكل هذا، إنما هم ينتمون بشكل أو بآخر إلى الثقافة المقاومة، العلوم المقاومة، الشعر المقاوم، والمسرح الجديد الحر المقاوم.. البعيد عن التقليدية المتزمتة والمرتهنة لمفاهيم لم تعد قادرة على مواكبة متطلبات العصر.. مسرح متحرر من ظلامية الغول الذي ينشب أظفاره ليشد التجربة الإنسانية برمتها إلى الكهوف المظلمة.. مسرح جديد حر، نقيض للحداثات المزيفة وغير الأصيلة والطارئة، والتي أحدثت اختراقات مهولة في حياة البشر على كل المستويات. وأرجو أن لا أُفهم بأنني أدعو للانغلاق والانقطاع عن ثقافات العالم ومنجزاته الإبداعية.. على العكس، أنا من قرية صغيرة من قرى الجليل في فلسطين، لكنني أؤمن بأن العالم قريتي. وأنتمي لأسرة صغيرة، ولكنني أؤمن بأن البشرية أسرتي، وبأنني جزء لا يتجزأ من هذا النسيج الإنساني الرائع. وأؤمن أن على رأس واجبات الإنسان واجباً يدعوه إلى الاهتمام بمشاكل وقضايا العالم، وإلى التفكير فيها والتعبير عنها بنفس الحرارة والولاء الذي يتناول فيه مشاكل وطنه وذاته.
وقد يقول قائل: هل فرغنا من مشاكلنا نحن حتى نولي وجهنا نحو مشاكل العالم؟.. لا لم نفرغ بطبيعة الحال.. بل إننا غارقون في المشاكل والأزمات والكوارث حتى الأذنين.. لكننا لا نبتعد عن أنفسنا حين نقترب من العالم كله.. ولن نكون مبدعين حقيقيين قادرين على الدفاع عن قضايانا الإنسانية العادلة دون أن ندرك المفهوم السويَّ لكلمة “نحن”. لأن “نحن” هذه، ليست، في التحليل النهائي لها، سوى سكان هذا الكوكب جميعاً. وأنت وأنا إنما نبحث مشاكلنا نحن حين نوجه خواطرنا على المشكلة الإنسانية بأسرها.. وإنني أرحب كل الترحيب بمثاقفة إنسانية تكفل لي تمايزي وخصوصيتي الثقافية والروحية، ولا تلغي هوية الأصل أو تعمل على مسخها وتحويلها إلى كيان تابع ذليل.. مثاقفة محكومة بشرطيّ الحرية والتكافؤ.
أيها الأعزاء، نحن اليوم نصعد الدرجات الأولى في سلَّم القرن الواحد والعشرين، ولدينا من الطاقات البشرية والعقلية والإبداعية والمالية ما يمكِّننا من خلق مسرحنا الجديد.. لم يعد أمامنا خيارات.. ولا نملك رفاهية الوقت.. وعلينا أن نكمل ما بدأناه بوعي وجرأة وتصميم أشد.. فكما أن المسرح الحي النابض نقيض البدايات الفاترة، عدو الإيقاعات الميتة، كذلك الحياة، لا تزدهر بالتمطي والاسترخاء.. والحرية وسعادة البشر لا تتحقق بالكسل والتثاؤب، إنما تعمر الحياة وتزدهر بالتحديات والمواجهة وقوة الإرادة.. وأنتم أهل لهذه المواجهة.
ومع كل هذا التهشيم المريع والتوحش الذي نعيشه ونشهده في منطقتنا والعالم، وفي همروجة هذه الانكفاءات السريعة، يكفينا شرفاً أننا ما زلنا نقبض على جمر التجربة.. أجل أيها الجميلون، أنتم القابضون على جمر التجربة، ولأنكم كذلك فأنتم تمثلون الارتسام الأنصع لشرفنا الإبداعي الباقي، ولأنكم كذلك فسنبلغ المرفأ حتماً، وسنحقق كل اجتراءاتنا الباسلة الماهرة.
أخيراً.. هذه الخشبة ابتلعت كل العمر.. خمسون عاماً بالتمام ولا كمال.. أرى كل شيء كما لو كان البارحة أو اليوم.. وكل شيء كان لها.. للتي غنيتُ لها كُل هذا العمر.. وسأظل أغني مع الذين غنوا لها، والذين سيشاركوننا الغناء.. مثلما كان.. وما سيكون.. إلى أن تكون.. حبيبتي التي ستبقى تمتلك السماء.. هي وحدها لها قلبي، هي وحدها تفتح روحي لما لا يمكن سمعُه، هي وحدها والعجائب تندهش إذا مرَّت، هي وحدها، وسيبقى الشرف الإنساني مثلوماً إلى أن تخرج من الجحيم إلى رحاب الحرية، ونتوجها درَّة لتاج العالم.. عالم متجدد أكثر حرية، عالم يقف الناس جميعاً فيه أخوةً متحابين، يطبعون سيوفَهم سِككاً، ورماحَهُم مناجل.. لا ترفع أمةٌ على أمةٍ سيفاً.. ولا يتعلمون الحرب.. فيما بعد.