«كلام الجسد» كتاب جديد للشاعر المغربي محمد بنيس
الجسد مصنع الكتابة. من دونه تفتقر الكلمات إلى خلاياها العصبية. تتحوّل أدوات تدور في الفلك البعيد للمعنى. لا جاذبية تشدّها إلى حيث ينبغي أن تستفيق من حالة الموات إلى قيامة الحياة. والأرجح أن لا لغة مشبعة بعمقها الانساني ما لم تمر بالضرورة في قنوات الجسد. هناك في ذلك المختبر الذي لا يتوقف لحظة عن إعادة تشكيل اللغة، وابتكارها، واكتشافها بشروطه الصعبة، يولد التعبير مبرأ من شبهة التجريد والتهمة بالعقم أو إنجاب الأجنّة المشوّهة. تصورات من هذا القبيل يثيرها بإسهاب وإلحاح وعناد كذلك، الشاعر المغربي محمد بنيس في كتابه الحديث بعنوان «كلام الجسد» الصادر في الآونة الأخيرة عن «دار توبقال للنشر» في المغرب. عشرون مقالاً وأكثر يتكبد صاحبها مشقة ملحوظة في صوغها مستهدفاً الجسد في معركته الداخلية وجغرافيته المعقدة وعالمه المخيف من أجل أن يستنطقه في لعبة الكتابة. يستنفر في ذلك، على الأغلب، تجربته الذاتية بالكامل، تحديداً في مقاربة اللغة الشعرية التي دأب عليها منذ زمن طويل. غير انه لا يستبعد، في الآن عينه، تجربته اليومية، وقد أدمن عليها، في التفكير المتواصل بما يمكن أن تسفر عنه هذه المسألة من تماس مباشر مع احتمالات الجسد المختلفة. يسعى بنيس، في هذا السياق اللاهث، إلى محاورة الجسد في غيابه وحضوره، في تدخله الدائم في قدر الكتابة والتعبير، وتسلله القسري إلى حيث تنعدم الفروق بين اللغة ومساربها المختبئة عميقاً في دهاليز الجسد وانفاقه السرية. يستحضر الجسد من دائرة الغموض إلى بقعة الضوء، وهو يظن بذلك انه يرفع عنه غبناً تاريخياً لا يستحقه، أو أنه يفسح له في المجال كي يدلي بشهادته أمام محكمة اللغة والتعبير. وكأنه بدا من قبل ضحية لشهود الزور الذين استخدموه طويلاً، فاستنفدوه، ثم ألقوا به في مزبلة التاريخ. على هذا الاساس، يبدو الجسد في الكتاب، هاجساً يقلق صاحبه، هماً ينبغي التصالح معه لكي تتم التسوية النهائية مع هذا العبقري الذي يقدم خدماته مجاناً على الأرجح.