وقفت بجانب المقهى المقفلة.. وهي تلتفت يمينا ويسارا.. تضع يدها من حين لآخر على فستانها القصير الذي تداعبه الرياح بلطف.. تبدو مرتبكه وعليها ملامح التوثر.. تنظر بتركيز كبير ناحية العمارة المقابلة لها والتي يسكن بها حبيبها الذي انقطعت اخباره مند أسبوعين.. فأتت بلهفة المحب وشوق العاشق لتسرق لحظة من الزمن… زمن حطت به طيور الظلام لتحوله إلى بقايا رماد…
المنطقة شبه خاليه لا ترى عينك بها سوى عساكر تجوب الشوارع بلباس أسود يثير الرهبة والخوف.. ولا تسمع بأذنيك غير صوت أحذيتهم القوية وكأنها تحاول ضخ الدماء على الأرصفة من جديد.. لقد تفشى المرض بمدينتها بشكل مروع.. ليلبس شبح الموت عباءته السوداء فيعانق الحب ويعصره بين ضلوع المحبين ويجعله كقطرة ندى على قيتارة بأوتار ممزقة ولحن نشاز…
تحدت جلنار الوضع وتمردت على الواقع.. لترى حبيبها.. وتسأل عنه. فهو لم يعد يجيب على هاتفه ولا حتى عن رسائلها…. ووسط أفكارها المزدحمة.. لاحظها أحد العساكر فتقدم نحوها ليسألها عن سبب تواجدها بالشارع وخروجها من البيت.. نظرت إليه بهدوء وهي تلامس الماسك الموضوع على فمها وأنفها ليسمع حديثها جيدا، فأخبرته أنها تنتظر نزول أخيها من العمارة ليحضروا قنينة الغاز وبعض الأغراض الضرورية للبيت… اقتنع العسكري. فملامحها الطيبة لا توحي بالشك أو الكذب.. وبينما العسكري يرحل من أمامها بدا طيف حبيبها يتجلى أمامها.. فعلا هو… إنه هو يخرج من باب العمارة… أخدت تلوح له بيديها الاثنتين.. وشعرها العسلي المنسدل يرقص عكس اتجاه الريح.. ملابسها تنتفض.. ابتسامة ترسم على محياها الذي عاش خوف النكبة وعاش حزن الفراق.. عاش هول الفاجعة… فجأة أنزلت يديها ببطئ.. فحبيبها يتقدم نحو الشارع وبيده طفل صغير وتمسك يده الأخرى امراة في الأربعينيات من عمرها.. وبجانبها طفل آخر… صعقت جلنار. لم تفهم ما يحصل. رمقها.. مر.. بجانبها على عجل وتنكر لها.. كأنه لا يعرفها.. كأنه ليس حبيبها أدهم… كأنه رجل آخر بملامح أخرى… ظلت واقفة لبرهة تصارع الصور… تحاول ربط الماضي بالحاضر….. عادت أدراجها وأفكارها تنهش روحها الممزقة.. تسأل نفسها أتراه كان متزوجا وأنا لا أعلم!!!!….. أله أولاد وأنا لا أعلم!!!!…… اتصلت به فور عودتها للمنزل والدموع تغزو عيونها الجميلة… فأجابها هذه المرة.. دون تردد فقدومها لمكان سكنه كان مشهدا غير متوقعا منها.. أخدت تستفسره… تتحدث بسرعة… دون أن تتنفس… دون انقطاع… تتسارع دقات قلبها.. رجفة بيدها… دموع تفيض من قلبها الحزين.. تركها تكمل حديثها… أخيرا أخبرها أنه متزوج وله طفلان وبأنه أخفى الأمر عنها فقد خاف رحيلها عنه فور معرفتها بالحقيقة وأنه الآن قرر الرجوع لزوجته لأنها إنسانة طيبة لا تستحق الخيانة وأن إهمالها له كان فقط من فرط عملها كممرضة وأنه اكتشف حبه لزوجته التي دام زواجهما ستة عشر سنة… أخذت جلنار تتوسل إليه فقد كانت تحبه بصدق.. وقدمت له جسدها وشرفها.. لأنها وثقت به ولا تجربة لها مع غيره.. أخبرته أنه من الممكن أن تكون حاملا… لم يصدقها واعتبره كيد نساء فأقفل خط هاتفه وهي لازالت تبكي وتتحدث…..
كان أدهم ءانذاك في المستشفى، فدرجة حرارة ابنه الأصغر المرتفعة أفقدته التركيز والتفكير… تقدم الطبيب نحوه ليخبره أن ابنه الصغير يعاني فيروس الكورونا.. ولابد من خبرة لكل أفراد الأسرة التي أكدت إصابتهم جميعا بعد ذلك وكان أغلب الظن أن الأم هي من نقل لهم العدوى جميعا بحكم عملها كممرضة بالمشفى وتعاملها المباشر مع حاملي الفيروس رغم كل الاحتياطات..
توفي الإبن الأصغر سعد. فقد كان يعاني مرض القلب وصعوبة التنفس. وكذا الأم المصابة بداء السكري نوع ب ليتعافى أدهم وإبنه سمير الأكبر فقط…. جرح عميق رسم وترسخ بحبر الدم بقلب أدهم.. الذي لم يقتنع بفراق زوجته وابنه المفضل… الذي يشبه ملامحه… وضحكته الملائكية.. أصبح يعيش الهواجس.. الكوابيس.. يقضي يومه في الشرب وتدخين السجائر… يعتذر للصور….. ويعانق زاوايا البيت… يرش الدمع الساخن من فؤاد ملتهب…
بعد بضع شهور عادت أشعة الشمس… بدأت المدينة تعانق النور… إنه أيلول.. لم تعد هناك إصابات كما كانت من قبل… تمكن الجميع من الخروج… بدأت الحياة شبه عادية رغم كم الألم والموت الذي حصد الأرواح.. فترى الساكنة لا يلبسون لباسا ملونا، كل بلباس قاتم، فكل فقد عزيزا ببيته….
مرت سنة كاملة.. ولازال أدهم يتخبط بين براثن الحسرة، فقد سرق منه هذا الوباء ناسا أعزاء، لم يتمتع بهم. فحتى زوجته التي كان يحبها قضت عمرها بين غرف المستشفى حتى أصبحت علاقتهما في منتهى الفتور. وابنه الصغير الذكي.. كان تارة بين بيته وتارة بين بيت الجدة أو الخالة… لم تكن حياتهم سعيدة البته فقد عاشوا فراق الحياة… وظنوا أنه ستكون للعمر بقية وسيستمتعون ببعضهم ولو بعد حين…. كان أدهم يحاول نسيان إهمال زوجته ببعض الفتيات، لكنه كان يرى فيهن زوجته الغائبة… حتى جلنار الصغيرة.. لم يحبها… لقد أحب فقط حبها له… وتنازل عنها لأنه كان يريد جسدا فقط… لا قلبا نابضا يعثر علاقته مع زوجته….
تعب أدهم ذات يوم، تعب كثيرا… نقل من طرف أخيه للمستشفى على وجه السرعة بعدما ما عاد ليستقر بيبت أمه بعد وفاة الزوجة…. بعد التحاليل اكتشفوا أنه مصاب بسرطان الدم ويحتاج لزراعة خلايا جدعية…. ويمكن لابنه الأكبر سمير أن يتبرع له إن حدث هناك تطابق…. قام الابن بالتحليل فكان غير ناجع، فلا تطابق بينهما.. ظل أدهم برحلة العلاج يقاسي…. تغير جسده الممتلئ ليعود كعود خيزران… وتحولت نظرته الحالمة.. إلى نظرة ضائعة…. أصبح لا يمل عناق ابنه وأمه وإخوته، ويحكي كل ما يخالجه… تغير وفهم كنه الحياة… فهم أنها مجرد مسرحية… دون جمهور.. دون تصفيق.. فهم أنه لحد الآن كان يعيش وراء الستار الأحمر ولم يعانق الركح أبدا، كان مجرد كومبارص يعيد على مسامع الأبطال كلماتهم الضائعة وظن طول حياته أنه البطل الذكي….
بالمستشفى كان أخوه يمكث بجانبه، فقد كان متعلقا به وبئر اسراره.. فسأله ذات مساء عن جلنار… فأخبره أدهم أنه لم يكلمها لما يزيد عن سنة بغية أن تنساه وتجد لنفسها رجلا يقدرها.. ويشبه أحلامها البسيطة… نصحه أخوه بمكالمتها لقسوة تعامله معها… فأخوه كان يستلطفها واحس بالذنب لأنه شارك مع أدهم في التستر على موضوع زواجه واستغلوا براءتها وكتبوا لها بأيديهم نهاية لا تستحقها… سمع أدهم نصيحة أخيه.. اتصل بها من هاتفه.. أجابت من الوهلة الأولى… حكى لها ما أصابه واعتذر عن تصرفه وطلب منها السماح لأنه يحس بالذنب ويخاف الموت وقد يوجد ما يحز في نفسها اتجاهه.. طلبت منه عنوان المستشفى.. بعد ساعة… قدمت وبيدها طفل رضيع صغير جدا منعوها من الدخول به إلى غرفته، فأخدت تراقبه ويراقبها من الزجاج… بعدها دخلت لوحدها فعانقته وهي تبكي..قائلة: “لازلت أراك يا أدهم طفلا صغيرا في الخامسة.”.. ابتسم بحزن فقد كانت دائما تعيد نفس الجملة على مسامعه.. وأمسك يدها وهو يعتذر لأنها لا تستحق شخصا مثله.. سألها عن الطفل الصغير فأخبرته أنه ابنه… دهش كثيرا… أخبرته أنها لم تستطع محاكاته من جديد لقسوة تعامله معها في آخر محادثة بينهما، وأن أمها ساعدتها على الولادة، فهي ابنتها الوحيدة، وأبوها فقدته منذ زمن بعيد… أخبرها أخوه أن أدهم يحتاج لخلايا جدعية متطابقة… وافقت مباشرة على إجراء التحليل لابنها فوجدوا التطابق… انتظروا لبضعة أشهر ليقوموا بالعملية… فعلا نجحت الجراحة… وشفي أدهم بفضل ابنه الصغير الذي سمته كذلك أدهم… بعد فترة طلب يدها للزواج.. ليعيش مع ابنيه معا…. ويعيد ترتيب حياته…. لم توافق جلنار بسرعة… خوفا من مزاجيته.. لكنها أحبت أن تقف بجانبه… ولا تتركه وحيدا… رغم انه تخلى عنها في وقت الشدة والضعف… استغنت جلنار عن عملها.. واكتفت بعمل الزوج الذي كان يتقاضى راتبا جيدا… فقد أحبا أن يصنعا من حياتهما شاطئا جميلا.. وألا يضيعا العمر بحثا عن المال.. قررا أن يعيشا مع ابنائهما في دفئ… وفي راحة….
أخيرا عاد الحب لينتصر بالمدينة، وأصبحت جلنار تأخد فطورها بالمقهى المتواجد قرب العمارة التي درفت بجانبها الدموع يوما ما..
< بقلم: كلثوم بدر