آليات تدبير نزاعات الشغل الجماعية

بعد مرور سنتين على بداية العمل بمدونة الشغل، نظمت وزارة العدل، بتعاون مع وزارة التشغيل والتكوين المهني، بالمعهد العالي للقضاء، ندوة حول موضوع “مدونة الشغل بعد سنتين من التطبيق”. وقد تناول الكلمة لتأطير هذه الندوة على التوالي كل من السادة، الوزير الأول الأسبق إدريس جطو، وزير العدل الأسبق المرحوم محمد بوزوبع، ووزير التشغيل والتكوين المهني الأسبق مصطفى المنصوري، والمدير العام للمعهد العالي للقضاء سعيد بناني، ومدير الشغل بوزارة التشغيل والتكوين المهني عبد العزيز عظوم، بالإضافة إلى عدد من الأساتذة والخبراء والمختصين التابعين للوزارتين، وإلى الفرقاء الاجتماعيين، والذين تناولوا الموضوع من مختلف جوانبه، حيث ساهمت بعرض باسم المكتب التنفيذي للكونفيدرالية الديمقراطية للشغل حول “آليات تدبير نزاعات الشغل الجماعية”.
وقد قام المعهد العالي للقضاء بنشر أشغال هذه الندوة في العدد التاسع من سلسلة الندوات واللقاءات والأيام الدراسية لسنة 2007 . جل ما جاء في العرض الذي قدمته لا يزال يحافظ على راهنيته وإن كانت هناك جوانب تم إيجاد الحلول لها أعيد نشره من جديد.
لا بد لي في البداية وباسم الكونفدرالية الديمقراطية للشغل أن أثمن مبادرة لقاء كل الأطراف المعنية بمدونة الشغل، خاصة الجانب المتعلق منها بتدبير النزاعات الجماعية، والآليات المعتمدة لفض النزاعات، وذلك بعد أكثر من سنتين على إخراجها إلى حيز الوجود.
إن الظرفية الاقتصادية التي يمر بها المغرب في ظل المنافسة الشرسة تفرض علينا اليوم اعتماد ثقافة الحوار والتفاوض بما يمكننا من خلق شروط توافقات تهدف بالأساس إلى تنمية وتطوير العلاقات المهنية والحفاظ على المكتسبات والحقوق العمالية.
واليوم، ونحن ننظم هذه الندوة، فإننا، ككونفدرالية ديمقراطية للشغل، نرى أن عدم تطبيق مضمون مدونة الشغل من شأنه أن يحدث اختلالا قويا وخطيرا في العلاقات المهنية، لذلك فإن مطالبنا هي تعبئة الجميع لترجمة النصوص والبنود الواردة في المدونة وتنزيلها على أرض الواقع.
وليس المهم أن تكون لنا آليات تدبير نزاعات الشغل الجماعية لذاتها، ولكن الأهم أن تتوفر الإرادة لدى الجميع لتطبيق القانون، خاصة وأننا إذا رجعنا إلى الواقع نجد أن جل النزاعات الجماعية التي تحدث يعود سببها إلى عدم تطبيق قانون الشغل، غير أن إشكاليات عدم تطبيق قانون الشغل ظلت تعترضها معضلة نظرة بعض أرباب العمل السلبية إليه، وإلى قانون الضمان الاجتماعي، بل إلى القانون الاجتماعي في شموليته.
ولمدة سنوات طويلة ظلت هذه النظرة مع الأسف هي السائدة لدى هؤلاء المشغلين، إلا أن الشروط التي توفرت بعد 1990 بفضل نضالات الطبقة العاملة أدت إلى تقدم النقاش في الاتجاه الإيجابي حيث تم تأسيس بعض الأجهزة والهياكل من طرف الجهات الرسمية لتأطير النقاش في القضايا الاجتماعية واقتراح الحلول، ومنها : المجلس الوطني للشباب والمستقبل، والمجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي، حيث تم تنظيم بعض الندوات التي توصلت إلى خلاصات هامة من الناحية النظرية ومنها : الندوة التي نظمها المجلس الوطني للشباب والمستقبل حول (الحوار الاجتماعي بالمغرب) بتاريخ 17 مارس 1994، والمناظرة التي نظمها المجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي يومي 18 و 19 أبريل 1996 حول موضوع : (الحوار الاجتماعي والتنمية والديمقراطية)، كما أن استمرار توفر هذه الشروط أدى إلى التوقيع على التصريح المشترك لفاتح غشت 1996 حيث أعطى هذا التصريح أهمية خاصة لآليات تدبير نزاعات الشغل الجماعية إذ تضمن عدة بنود تؤكد على ضرورة تفعيلها، وهو ما أكد عليه من جديد اتفاق 23 أبريل 2000 واتفاق 30 أبريل 2003، حيث تم التوصل إلى التوافق على مدونة الشغل والتي اعتمدت بالأساس على ظهير 19 يناير 1946 المتعلق بالمصالحة والتحكيم مع إدخال تعديلات وإضافات أساسية عليه، مع العلم أن هذا الظهير هو الذي كان جاريا به العمل رغم الانتقادات التي كانت توجه إليه وقد كان يطبق كإطار للعمل في الجانب المتعلق بالمصالحة دون التقيد بما يتضمنه بشكل حرفي ولم يكن يطبق في الجانب المتعلق بالتحكيم نظرا لغياب تراكمات في العلاقات المهنية بين أطراف الإنتاج ولغياب الثقة المتبادلة وهو ما ساد لسنوات طويلة، نظرا لغياب المفاوضة الجماعية بشكل منتظم بين أطراف الإنتاج.
ومع مجيء مدونة الشغل التي خصصت الكتاب السادس منها لتسوية نزاعات الشغل الجماعية والذي تضمن جميع المراحل التي تمر منها النزاعات الجماعية تبتدئ من مفتشية الشغل، ثم مندوبية الشغل، فاللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة برئاسة عامل الإقليم ثم اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة برئاسة وزير التشغيل، فالمرور إلى مسطرة التحكيم التي لم يتم تفعيلها بعد.
كما أن المدونة شددت العقوبة على الطرف الذي لا يحضر أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة أو أمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة أو أمام الحكم أو أمام الغرفة التحكيمية، وإذا امتنع عن تقديم الوثائق التي تطلب منه وهو عنصر جديد له أهمية كبيرة نظرا لكون عدة نزاعات لا يتم إيجاد الحلول لها بسبب إصرار أحد الأطراف على عدم الحضور وهو ما جاء في المادة 585 التي نصت على ” يعاقب بغرامة تتراوح بين 10000 و 20000 درهم عن مخالفة مقتضيات المادتين 583 و584 إلا أنه مع الأسف لم يتم تفعيل هاتين المادتين لحد الآن.
وأعتقد أن الخلل الموجود لا يتعلق بالمسطرة القانونية لآليات تدبير نزاعات الشغل الجماعية كما جاءت به المدونة، وإنما يوجد الخلل في التطبيق إذ يتطلب التقيد بما نصت عليه المدونة شكلا ومضمونا ومن هنا ندلي بالملاحظات التالية:
1- الإشكال المتعلق بعدم احترام الآجال القانونية لاجتماعات هذه اللجان في جميع مراحلها حيث لاحظنا في بعض النزاعات أن المدة وصلت إلى سنة، وكان بالإمكان أن تنتهي في شهر بجميع مراحلها، وأمام طول مدة النزاعات يصبح مستعصيا إيجاد الحلول لها.
2- الإشكال المتعلق بتركيبة هذه اللجان بالنسبة للجنة الإقليمية للبحث والمصالحة بدلا من أن يترأسها عامل الإقليم وفق ما ينص عليه القانون يكلف بها بعض الموظفين الذين لا يتوفرون على النفوذ الذي يمكنهم من إنجاز هذه المهمة وخاصة إذا كان النزاع مستعصيا ويمكن ذلك في النزاعات العادية كما أن متابعة عامل الإقليم بشكل مباشر إلى جانب الموظف الذي يتم تكليفه يساعد على إيجاد الحلول ويعطي لهذه اللجنة المكانة التي تستحقها، كما أن اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة بالنسبة للنزاعات التي يستعصي إيجاد الحلول لها يجب أن يترأس اجتماعاتها وزير التشغيل شخصيا وفق ما هو منصوص عليه في المدونة.
3- الإشكال المتعلق بالنزاعات التي تتعلق بعدم احترام حق الانتماء النقابي، في هذه الحالة يتطلب تفعيل بعض النصوص القانونية التي جاءت بها المدونة وبالأخص ما يتعلق بإعطاء حق ممارسة العمل النقابي داخل المقاولة فيما يتعلق بإخبار مندوبية الشغل بتأسيس النقابة وهو ما سيساعد على تطويق النزاعات فور حدوثها مما يمكن مندوبية الشغل إذا ما لاحظت احتمال حدوث نزاع أن تتدخل قصد تجنبه.
4- الإشكال المتعلق بعدم اشتغال مجلس المفاوضة الجماعية الذي تم تأسيسه، إلا أنه لحد الآن لم يجتمع، ومن شأن ذلك أن يفعل الاتفاقيات الجماعية علما بأن الاتفاقيات الجماعية لها دور كبير في إيجاد الحلول للنزاعات سواء منها الموجودة أو التي يمكن العمل على إبرامها.
5- الإشكال المتعلق ببعض النزاعات التي تعرفها بعض الوزارات المتعلقة بأجراء القطاع العام الذين لا يسري عليهم قانون الوظيفة العمومية، والذين نلاحظ أنه لا يتم احترام قانون الشغل في حقهم ويتطلب أن تعرض هذه النزاعات على اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة على أن يترأسها بالضرورة وزير التشغيل، وإذا تعذر الحسم فيها يتم عرضها على اللجنة الوطنية ثلاثية التكوين وفق ما نص عليه التصريح المشترك لفاتح غشت 1996.
6- الإشكال المتعلق بالنزاعات المتعلقة بعدم تطبيق قانون الشغل، فهذا النوع من النزاعات يستوجب أن يتم التعامل معه بوضوح وشفافية عندما يعرض أمام لجنة الصلح، لأن الإخلال بالقانون يمس الجميع وليس طرفا دون آخر، وهو ما سيساعد على تطبيق القانون مع العلم أن أغلبية المؤسسات التي يتم فيها تطبيق القانون يأتي عن طريق تدخل النقابة.
وهو ما يستوجب وضع برنامج لتطبيق جميع مقتضيات مدونة الشغل بما سيساعد على التقليل من نزاعات الشغل لأن أغلبية النزاعات كما أشرنا إلى ذلك يعود سببها إلى عدم تطبيق قانون الشغل، ولحد الآن رغم مرور أزيد من سنتين على بداية العمل بالمدونة لا زالت أغلبية المقاولات التي تشغل أكثر من 50 عاملا لم تؤسس لجنة المقاولة، ولم تؤسس لجنة الصحة والسلامة، ولم يتم تعيين الممثل النقابي وما زالت المقاولات التي تشغل أكثر من عشرة عمال لم تعمل على وضع النظام الداخلي، خاصة وأننا نلاحظ أن ظاهرة عدم تطبيق قانون الشغل تزداد استفحالا، وذاك ما يتمثل في :

عدم احترام الحد الأدنى للأجر
عدم توفر المراقبة الطبية
عدم احترام ساعات العمل القانونية
اتساع ظاهرة تشغيل الأطفال دون مراعاة ما ينص عليه القانون
عدم توفير بطاقة الشغل
عدم توفير بيانات الأجر
المزيد من تدهور أوضاع المرأة العاملة بسبب عدم تطبيق القانون في حقها
توسع ظاهرة عدم التصريح في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو التلاعبات في التصريحات،
عدم تفعيل المادة 511 من مدونة الشغل التي تساعد على إثبات علاقات الشغل
تكاثر عقود الشغل المحددة المدة في حالات العمل المستمر.
أضف إلى ذلك غياب تشغيل المجلس الأعلى لإنعاش التشغيل والمجالس الجهوية لإنعاش التشغيل لما لها من دور هام في المساهمة في تطوير الحوار والتشاور بين أطراف الإنتاج.
7- الإشكال المتعلق بضعف جهاز تفتيش الشغل
إذ يتطلب دعم جهاز تفتيش الشغل وفق ما ينص عليه اتفاق 30 أبريل 2003 الذي أكد على الإسراع بإقرار مشروع المرسوم المتعلق بالقانون الأساسي لهيأة تفتيش الشغل.
إحداث مناصب مالية تسمح بمد الجهاز بالموارد البشرية الكافية لمواكبة توسع النسيج الاقتصادي والازدياد المطرد للمؤسسات الخاضعة لمراقبة تفتيش الشغل.
8- الإشكال المتعلق بالقضاء الاجتماعي حيث نعاني كطبقة عاملة من طول فترة التقاضي التي تستمر عدة سنوات، وهو ما يستدعي إحداث محاكم اجتماعية متخصصة على غرار القضاء الأسري والمحاكم التجارية.

> بقلم: عبد الرحيم الرماح

Related posts

Top