أدب الرحلة والتخييل

ما فتئت تعقد لقاءات حول أدب الرحلة: مقالات، مداخلات، تحقيقات، محاورات.. كلها تدور حول هذا الأدب، لكن نصوصه، خاصة الحديثة والمعاصرة، تكاد لا تذكر، ليس إهمالا لها ولا مبالاة بها، كما قد يبدو، ولكن بالنظر إلى كونها قليلة، تشكل الندرة، بعض هذا النزر القليل لا تتوفر فيه خصائص أدب الرحلة.
وبالتالي نجد أغلب المحاور التي يتم تناولها في الملتقيات العديدة المقامة حول أدب الرحلة، تنصب على النصوص التراثية، من قبيل رحلة ابن بطوطة وغيرها.
إن علاقة القارئ بهذه النصوص تختلف عن علاقته بالنصوص الحديثة، وإن كانت تدخل في الخانة ذاتها.
إذا كان يقرأ نصوص أدب الرحلة التي أنتجت منذ قرون خلت، دون التشكيك في صدقيتها؛ فإن قراءته للنصوص الحديثة نجدها محاطة بتوجس وحذر شديدين، خصوصا مع التحولات التي طرأت على مستوى التصورات والمناهج النقدية.
ولهذا القارئ العذر في ما يشعر به إزاء نصوص حديثة محسوبة على أدب الرحلة، خصوصا عندما يلمس في أكثر من موضع حضور نسبة من الخيال في هذه النصوص بالذات.
ينضاف إلى ذلك أن عدة وسائل وأدوات باتت تتيح للكاتب أن يؤلف نصا عن مدينة ما رغم أنه لم سبق له أن حل بها.
يمكن له أن يقوم برحلة وهو مستلق على أريكته الوثيرة، بفضل ما تعرضه محركات البحث الالكترونية، لم يعد الجسد بحاجة إلى أن يتحرك لكي يكشف الأشياء والناس وعاداتهم، الأدهى من ذلك أن المؤهلات الفكرية والذهنية بدورها في الطريق نحو التعطيل.
إن ما يكتب اليوم ضمن خانة أدب الرحلة، لا يعدو كونه شبيها برحلة جول فيرن حول العالم في ثمانين يوما، علما منا بأن هذا الأديب الفرنسي لم يكن رحالة بالمطلق.
الفرق بين هذا الأديب وهؤلاء، هو أن الأول كنا صريحا في تحديد نوعية ما يكتبه، أي أدب الخيال العلمي، في حين أن العديد من كتابنا المعاصرين الذين يريدون إيهامنا بأن ما يكتبونه ينتمي إلى أدب الرحلة، يكتمون الحقيقة، حقيقة أن نسبة كبيرة من إنتاجهم لا يخرج عن كونه تخييلا، وكان أجدر بهم أن يجنسوه في إطار الرواية.
إن ما يبعث على النفور من قراءة إنتاج كاتب ما، ليس مرده إلى رداءة هذا الإنتاج في حد ذاته، بل تشبث أصحابه بوضعه في خانة لا ينتمي إليها؛ فأدب الرحلة له شروطه وخصائصه، كما للرواية تركيبتها الخاصة، ولا مجال للخلط بينهما ومحاولة خداع القارئ.
اليوم لم يعد ضروريا أن يسافر الكاتب إلى مكان ما، سواء كان قريبا أو بعيدا، لكي يصوره، يكفي أن يناديه من موضع جلوسه؛ لكي يراه مستقرا عنده قبل أن يرتد إليه طرفه، وهذا من فضل التكنولوجيا الحديثة.
وبالتالي فإنه من الطبيعي جدا أن ينعكس ذلك على طبيعة تلقي ما ينتج حديثا من نصوص يصنفها أصحابها في خانة أدب الرحلة.

عبد العالي بركات

[email protected]

Related posts

Top