أقانيم الموت والحزن والغربة في ديوان”للأزهار رائحة الحزن”

صدر للشاعر المغربي إبراهيم قهوايجي ديوانا شعريا موسوما بـ (للأزهار رائحة الحزن) عن مطبعة سجلماسة، مكناس2007، من الجحم المتوسط ويضم ست عشرة قصيدة تنوعت مواضيعها بين الألم و الأمل، ألم اللحظة المعيشة التي تشير إلى الضبابية في الرؤية والنظرة المتشائمة، وأمل المستقبل الذي يوحي إلى الرغبة في الانفراج والطموح في غد متفائل ملؤه المحبة والإخاء.
ولعل بوابة الديوان المتمثلة في الغلاف والعنوان أكبر دليل على الرؤية المتشائمة، فلا عجب أن نصطدم ببوابة الحزن الظاهرة على العنوان الذي انزاح من لغة الوضوح والتقرير إلى لغة الإيحاء الاستعاري المشحون بعدة دلالات أنسنت الأزهار وجعلتها كائنات بشرية تفوح من ملامحها رائحة الحزن، وتزداد الاستعارة شدة عندما يتحول الحزن إلى نبات له رائحة نشمها مثلما نشم رائحة الأزهار.
كما أن لوحة الغلاف التي دعمت العنوان تتجه هي كذلك في مسار دائري، يمكن قراءته من الأسفل إلى الأعلى، أي من الانفراج إلى الكآبة أو من الأعلى إلى الأسفل من الكآبة إلى الانفراج، بمعنى التوجه بالرؤية إلى العالم من مستوى القتامة والحلكة إلى مستوى انفراج النفس والولوج إلى عالم الحياة والمستقبل الزاهر، حيث تتحول رائحة الأزهار من حالتها الحزينة إلى حالتها المستبشرة والآملة في حياة أجمل ومستقبل أفضل.
والديوان يطرح فيه الشاعر مجموعة من الأسئلة المفصلية المتوجهة في اتجاه الأمل، لكنها أسئلة تمر من بوابة الألم، ألم الواقع المعيش وألم المستقبل المظلم، وهكذا تتسع الدائرة إلى مواضيع وتيمات إقليمية وقومية وإنسانية.
وقد عبر الشاعر عن شجاعة المجرب والخابر في مجال الكلمة وفي اتخاذ الموقف الواضح، وصب في قصائده كل هذه المعاناة بحرفية الشاعر الذي يمزج بين المتناقضات:
( في أحشاء البيت
يتفجر الفرح الحزين
وأبحث فيه وفيّ عن بقايا رجل
لا يتلاشى في أفق الغيوم
نكتشف أننا نشقى
ونرشق بقايانا للريح
فتفتح فينا المآتم
مواسم العشق و التكريم..) الديوان ص28
انطلاقا من هذا المنظور، فالشعر تعبير عن المشاعر سواء أكانت في حالة الفرح أم في حالة الحزن، وهو بذلك يعتبر حالة انفلات شعوري من الوعي إلى اللاوعي الدفين في ذوات المخلوق البشري، وهذا ما يميز الشعر عن باقي الخطابات الأخرى، التي تعتمد على العقل أكثر من المشاعر لأن العقلنة ضربة قاضية على الإبداع الكوني إذ تُجرده من روحانيته الرؤيوية وتأخذه إلى مادية صامتة وجامدة في محدوديتها، لهذا وجب النظر إلى ديوان قهوايجي في بعده الحسي الجمالي أكثر من بعده الفكري والتسلسل المنطقي، لأن البحث عن خيوط الديوان وتتبع مسارها سيفضي بالقارئ إلى المتاهة، لأن الديوان تتداخل فيه المشاعر وتتوتر بشكل كبير إلى درجة التماهي مع ذوات الآخرين بنوع من الصوفية التي تنكر الذات المبدعة من أجل الكشف والبوح عن الذات المتلقية.
فالقارئ مجبر في ديوان ( للأزهار رائحة الحزن ) على التمعن جيدا في القصائد للولوج إلى ذات الشاعر ومعرفة خباياه وأسراره، إلا ويبقى القارئ غارقا في سلسلة من المتاهات الفكرية، والشاعر من خلال رؤيته البعيدة يحمل القارئ مسؤولية المشاركة في تسطير وبلورة الحلول والرؤى الممكنة إلى العالم.
والمقاطع الشعرية في الديوان تعرف كيف تأخذ الشاعر من عزلته الفكرية إلى خلوته الحسية التي يرسم من خلالها واقعا متميزا له خاصية معينة بمفرداتها وجملها وفضائها:
( أنا لا أكتب شعرا
كي أدفن في قلوب العذارى فتنة
بل أرسم حرفا كي أحيا بين الأموات) الديوان ص69
والأموات في نظر الشاعر هم الذين يفتقون ملكة الحس الشعري والتعبير الجميل عما يحس به الإنسان من آمال وآلام جربها في حياته ونقلها أدبا، لأن ما يميز الشاعر عن عامة الناس هي هذه اللغة الحسية المعبرة التي تخترق الفكر متجهة إلى عالم الخيال والجمال، ولهذا فإن الشاعر عندما يعبر عن ذاته، فإنما يعبر عن ذوات الآخرين، ينقل أحاسيسهم ومشاعرهم، فيتألم بألمهم ويفرح بفرحهم، ولذلك صدق من قال: “إن الشاعر مرآة قبيلته”، ونحن نقول في وقتنا المعاصر: إن الشاعر مرآة العالم ينقل تجربته إلى الانسانية ككل، لكن نقله للواقع وللمعاناة ليس بشكل حرفي، وإنما بطريقة إبداعية ترقى بالواقع من واقعيته الآلية إلى الواقع المتخيل الممزوج بالشعرية التي تعطي للعمل الأدبي قيمته الأدبية.
إن القارئ لديوان الشاعر إبراهيم قهوايجي لابد له من التسلح بأدوات الفكر النوراني عند الحلاج وجلال الدين الرومي الذي قيل عنه:”جلال الدين ليس نبيا لكن عنده كتاب”، وأنا أقول إبراهيم قهوايجي ليس نبيا لكن عنده ديوان امتزجت فيه الكلمة المعجمية بلمسة الشاعر الروحية التي ترفع القارئ من عالم الواقع إلى عالم الخيال:
( هذي القبور شاهدة
على خرائط الحب
أرواحها مشكاة تزين السماء
سنرحل إلى مدى القمر
وهناك
نقطف من وجنته
برتقال تراب آخر
يعلن انسحابا وشيكا
من طيف المكان
كشمس تمعن في الغروب
كلما جاءها المخاض من جديد) 64/65
هنا في هذه القصيدة تتداخل الكائنات وتتمازج المخلوقات البشرية والكونية وكأنها مخلوقات من جنس واحد، استطاع الشاعر بعث الروح فيها، وجعلها تتكلم كما يتكلم الانسان وتتحرك فيها المشاعرالأنثوية كما تتحرك في المرأة عند المخاض، وهذا التداخل بين المخلوقات سمة تميز بها زعماء الصوفية الذين خلقوا لأنفسهم عوالم خاصة تبعدهم عن عالم الواقع المادي الذي يتصف بالفناء، إن الشاعر يريد أن ينقش قصائد خالدة على صفحات الذاكرة، يريد أن يمزج بين ما هو مادي بما هو روحي، يريد أن يشتغل على مبدإ المزج بين المتناقضات، بين الأمل والألم، بين البشر والحجر، بين الحياة والموت. هذه الثنائيات الضدية التي تعطي للمقاطع الشعرية في فضاء القصيدة مجالات متعددة للتفكير وفرص كثيرة لاستنباط المعنى الراسخ بين سطور الديوان من خلال تعدد القراءات.
فالقارئ المتمعن في الديوان يشعر بأن القصائد الشعرية تتكون من مجموعة من المقاطع التي تتضخم وتتقلص بحسب القبض والبسط، ويتحسس المتلقي في تيماتها المختلفة بأنها توحي بصراع أقانيم ثلاثة: الموت والحب والغربة، وما يجمع هذه الأقانيم الثلاثة هي لمسة الحزن الغالبة على الديوان، بل هي العنوان العام الذي تصدر الديوان.
إن الشاعر إبراهيم قهوايجي عندما تطرق في الديوان إلى تيمة الموت، كان ينظر إليه باعتباره المخلص من العذابات، عذابات الحب (الأقنوم الثاني) وعذابات الغربة ( الأقنوم الثالث). فموت الجسد لا يضر ما دام الشاعر يعلم من خلال رؤيته الروحية أن مآله الاندثار وأن لذة الأجسام ليست أزلية، فلا سعادة إلا بخلود الروح في إدراكها لحقيقة الأشياء أو الموجودات، وأن الحياة الحقيقية هي الموجودة في الجنة الخالدة:

( حين رأيتك تبتهل للموت العاجل
هرعت إليك
وأنت محاصر
بالهواء البخيل على رئتيك
بكيت ليل وحدتي
وبعد هنيهة
قال صوت
الطائر الذي لم يكلمني
طار إلى جنة الأعالي) 44 /45
فالقارئ يشعر بحدة الصراع بين الأقانيم الثلاثة، كل أقنوم يحاول أن يطغى على الآخر من أجل توليد الفعل المستمر وهو فعل الحياة، التي تفتح للشاعر باب الأمل ولا تبيح لأي أقنوم أن يسبق الآخر.
فالحياة العادلة الظالمة، تتدخل في النهاية لتعدل بين الناس عندما تواري الجميع تحت الثرى.

Related posts

Top