الاقـــتـــصـــاد الأخــــضــر فـي الــــــمـــنــطــــقـــــــة الـمـغـاربـيــة

هناك من الحقائق الجيوسياسية ما يستعصي على الزمن، ولعل واقع “الاندماج المغاربي” الذي لا زال يراوح مراحل التردد الابتدائية، من هذه الحقائق المرة. لكن ذلك لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يمنعنا من المثابرة واقتراح الفكرة تلو الفكرة من أجل فتح آفاق جديدة للتكامل المغاربي. وبما أن الإبداع يكون، في كثير من الأحيان، وليد الإكراهات، فإنه من المشروع بالنسبة لنا كمغاربييـن أن نواجه صعوباتنا، خصوصا الاقتصادية والاجتماعية منها، دون أية رقابة على قدراتنا الابتكارية، في وقت أصبح فيه تشخيص واقع اقتصاداتنا معروفا لدى جميع الأوساط؛ ويمكن تلخيصه من خلال: الضعف الهيكلي للنمو، والمعدلات المقلقة لبطالة الشباب، والضغط الديمغرافي القوي والمتواصل على الثروة، ذلك دون تفصيل للمؤشرات الماكرو-اقتصادية لكل بلد من بلداننا والتي لا تبعث على الارتياح. فمن الواضح إذن أن النماذج الاقتصادية التي اعتمدتها تباعا الحكومات المغاربية قد وصلت تقريبا إلى حدودها المنطقية، وبالتالي أصبحت تحتاج إلى إصلاحات جذرية أو على الأقل إلى تقويمات استعجالية. وفي هذا الصدد، وجب التفكير بسرعة في تثبيت الاقتصاد الأخضر على “لوحات قيادة” الدول المغاربية، حتى يشكل لديها مقاربة اقتصادية خلاقة ومتجددة، استشرافا لتطورات الوضع الدولي واحتراما للتوازنات البيئية.
في هذا الصدد، آثرنا من خلال هذه المساهمة أن نحاول تقييم مكانة الاقتصاد الأخضر في النماذج التنموية للدول المغاربية الرئيسية: المغرب والجزائر وتونس، وإبراز آفاق التعاون المتاحة في هذا المجال على أمل تحقيق تكامل حقيقي ومفيد لمستقبل شبابنا المهني ورخاء شعوبنا المستدام.

الاقتصاد الأخضر: ضرورة حتمية

لقد توجهت دول كثيرة من جميع أرجاء العالم إلى إقرار الانتقال السريع والمكثف نحو اقتصاد وتنمية مستدامين. وهو قرار فرضته عوامل عدة؛ أهمها الاستنفاد المطرد والمخيف للموارد الطبيعية، والتغيرات المناخية المتتالية، وتسارع التدهور البيئي وآثار ذلك على الأمن الغذائي والصحي وفرص الشغل والبنيات التحتية… ومما يدل على راهنية هذا المعطى هو أن أكبر دولة منتجة للنفط في العالم، وهي المملكة العربية السعودية، قد أطلقت استراتيجية متكاملة للانتقال الطاقي والتحول الاقتصادي على كافة الأصعدة، درءا لمخلفات نفاد الثروات الأحفورية.
أما فيما يخص بلداننا المغاربية، فإنها تواجه واقعا معقدا أصبحنا عاجزين عن إخفائه: ندرة مقلقة للموارد الطبيعية وخصوصا المائية منها، نقص هيكلي على مستوى الموارد الطاقية والأمن الغذائي، وتعرض دائم لمخاطر التغيرات المناخية المدمرة. وإذا أضفنا إلى ذلك عجز السياسات الاقتصادية والاجتماعية على تلبية انتظارات المواطن من حيث خلق وتوزيع الثروة، وإحداث فرص الشغل وضمان السكن اللائق والصحة العمومية بجودة كافية، فإن الوضعية الاجتماعية-الاقتصادية المغاربية تميل شيئا ما إلى العتمة. وعلى الرغم من أن بلداننا قد وضعت حدا نسبيا للفقر المطلق، تبقى بطالة الشباب واقعا مستديما، والفوارق الاجتماعية والمجالية في تزايد مستمر: حيث أكثر من 60٪ من الفقراء يقطنون في المناطق القروية أو الجبلية (العزلة، الجفاف، العجز الاجتماعي …)؛ وهم يمثلون نسبة كبيرة من الساكنة المغاربية التي لازالت تعيش أوضاعا هشة إن لم نقل خطرة. كما أن نسب الشباب العاطل في تفاقم مخيف حيث يتجاوز 20٪ في بعض الحالات لدى حاملي الديبلومات، وخاصة الشابات المؤهلات من بين هذه الشريحة الواسعة.
لقد أضحت التحديات التنموية لبلداننا المغاربية كبيرة ومركبة ومستعصية، ونجد أنفسنا إذن في حاجة إلى فاعلية اقتصادية كفيلة بخلق تناغم بين انتظارات الشعوب والمتطلبات البيئية والأولويات الماكرو-اقتصادية. ويبدو أن حكوماتنا على بينة من هذا المعطى، وذلك ببعثها لإشارات تدل على ضرورة إبداع مناهج تنموية جديدة؛ حيث أدركت ولو بعد حين أن تبني مقاربة شاملة وإدماجية ووقائية لمواردنا الطبيعية المحدودة أصبح في حكم المستعجل، وقامت باتخاذ مجموعة من القرارات الاستراتيجية في هذا الاتجاه. إلا أن انخراط بلداننا المغاربية في مثل هذا التطور لن يتحقق إلا بشكل تدرجي، وذلك لأخذ الوقت الكافي لاستيعاب آثاره المؤسساتية والمجتمعية، حسب السياق الخاص لكل دولة وأولوياتها التنموية. ومن المفروض منطقيا أن يتبوأ الاقتصاد الأخضر مكانة محورية تجسيدا لهذا التحول في نماذجنا الاقتصادية والتنموية، وذلك لأسباب متعددة سبق التطرق لمجملها، يبقى توفير الطاقة التحدي الأبرز من بينها كهدف استراتيجي لهكذا توجه. ومع ذلك، فإن الهاجس الاجتماعي، في حالتنا المغاربية، يجب أن يظل أهم محرك لبناء استراتيجيتنا الاقتصادية الخضراء، حيث إن مناصب الشغل الممكنة في القطاعات الاقتصادية ذات الصلة وجاذبيتها لدى الشباب والنساء تظل محفزات قوية للمضي قدما في هذا المنحى، دون أن ننسى أن تجويد الصحة العمومية ومحاربة الفقر ورأب الاختلالات الاجتماعية وتحسين واقع المجال القروي تشكل تحديات كبرى متصلة مباشرة بالوضعية المقلقة لمواردنا الطبيعية، والتي وجب على دولنا المغاربية مجابهتها بقوة وعزم كبيرين.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن العديد من الأبحاث والدراسات الحديثة، والتي أصدرتها منظمات دولية متعددة (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، البنك الدولي، البنك الإفريقي للتنمية، منظمات التعاون الدولية)، قد أظهرت بشكل ملموس أن الانتقال الإيكولوجي لاقتصاداتنا المغاربية يمكن أن يشكل رافعة تنموية فعالة ومنتجة للثروة وفرص الشغل، إن هي تمحورت حول القطاعات الخضراء المنتجة والتحويلية والخدماتية، وذلك من خلال إطلاق ديناميكيات استشرافية استثمارية متنوعة، قادرة على تحسين الإنتاجية، والاستخدام الفعال للموارد الطبيعية والقدرة التنافسية للمقاولات، وبالتالي تطوير الثروة الجماعية. ويمكن أن يشمل ذلك أطيافا اقتصادية واسعة: كإنتاج الطاقات المتجددة، والنجاعة الطاقية، والصناعات الخضراء، وتدبير النفايات الصلبة ومعالجة المياه العادمة، والنقل، والسياحة البيئية، والفلاحة والصيد المستدامين، وحتى الصناعات الكيميائية والبتروكيميائية يمكنها أن تنضم إلى هذا الصنف إن تم تحفيزها، من طرف السلطات العمومية، على تبني سلوكيات إيكولوجية وإعطاء الأهمية اللازمة للأبحاث العلمية التطويرية ذات الصبغة البيئية. ومع ذلك، تظل مفاتيح نجاح هذه الاستراتيجية بأيدي العديد من المتدخلين: السلطات العمومية بصفتها المسؤول عن إعداد الإطار القانوني والإصلاحات المؤسساتية المشجعة على الاستثمار والابتكار في هذا القطاع. ثم الجسم الصناعي (الخاص والعام) الذي يجب أن ينخرط بشكل كامل في تغيير أساليبه وآلياته الإنتاجية. وأخيرا، فإن سلوك ومواقف المواطنين ستكون عاملا حاسما في تطوير الاقتصاد الأخضر ومواجهة التحديات المرتبطة به، بدءا بالمؤسسات العمومية ومسؤوليها الذين من واجبهم أن يعطوا القدوة بتطوير سلوكياتهم الإيكولوجية.
وبناء على ذلك، نرجو أن يعطي التشخيص المركب الآتي صورة ولو موجزة عن واقع الاقتصاد الأخضر ببلداننا المغاربية الرئيسية، من أجل مقاربة أوضح لآفاق التنمية المشتركة والاندماج الاقتصادي المغاربي.

المغــــــرب
يحتل المغرب، البلد المستضيف للدورة الثانية والعشرين لمؤتمر الأطراف بشأن تغير المناخ “COP22” في نونبر 2016، مكانة دولية رائدة في مجال الانتقال الطاقي وحماية البيئة. ويمثل الإقرار الرسمي للميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة منذ سنة 2010 وإصدار قانونه الإطار سنة 2014 تجسيدا عمليا لهذه الحقيقة، ناهيك على رفع دستور 2011 للتنمية المستدامة إلى مستوى الحق المكفول لكل المواطنين، إضافة إلى بلورة الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة (2015-2020) كمشروع مجتمعي نموذجي ومبتكر للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
في هذا الإطار، أعطى المغرب أولوية قصوى لثلاثة قطاعات خضراء: إنتاج الطاقات المتجددة، النجاعة الطاقية ومعالجة النفايات بجميع أشكالها، وبالتالي يكون قد وضع الاقتصاد الأخضر بشكل منطقي ونهائي في صلب استراتيجياته البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
فعلى مستوى تطوير إنتاج الطاقات المتجددة، اختار المغرب استراتيجية الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتحقيق قدرة إنتاجية للطاقة الشمسية تصل إلى 4000 ميغاواط في أفق سنة 2020، مع إمكانية تجاوز ذلك بكثير بحلول سنة 2030، ووضع لذلك إطارا مؤسسيا خاصا: الوكالة الوطنية للنجاعة الطاقية (ANEE)، والوكالة المغربية للطاقة المستدامة(MASEN) ، وشركة الاستثمارات في مجال الطاقة (SIE)، ومعهد البحث في الطاقة الشمسية والطاقات المتجددة.(IRESEN)  ويهدف ذلك إلى تنسيق الجهود من أجل دعم الاستثمارات المتنوعة الأحجام في القطاع.
ويعتبر مشروع نور-1 التي تم إنجازه في ماي 2016 اللبنة الأولى لمنظومة متكاملة من البرامج الضخمة المزمع تنزيلها في هذا السياق، بغية تغطية 42% من الاحتياجات الوطنية عبر إنتاج الطاقة الشمسية في أفق سنة 2020. كما يطمح المغرب أن تشكل الطاقات المتجددة (الشمس والرياح والمياه) 52% من استهلاكه للطاقة الكهربائية الذي يشهد تزايدا سنويا يفوق 7% . فيما تشير التقديرات إلى أن فرص الشغل المحتمل إحداثها بفضل التركيز على مجال الطاقة المتجددة قد يفوق 23.000 منصب بحلول سنة 2020، إضافة إلى توجه المغرب لأن يصبح بلدا مصدرا للطاقة النظيفة في آفاق قريبة.
وفيما يخص النجاعة الطاقية، يهدف المغرب من خلال ترسانة متنوعة من القوانين والإجراءات والبرامج إلى ترسيخ مبدإ النجاعة الطاقية على جميع المستويات وذلك للحد من استهلاك الطاقة الأولية بنسبة 15٪ والعمل على انبعاث أقل من 320 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في أفق سنة 2030. وترتكز هذه الرؤية كذلك على إشراك قطاعات متنوعة كالبناء والصناعة والنقل والزراعة والإنارة العمومية. وينتظر من هذه الدينامية أن تحدث 520.000 منصب شغل في قطاعات رئيسية للاقتصاد المغربي، من خلال مجموعة من الآليات التحفيزية لتشجيع استخدام التكنولوجيات الحديثة ذات البعد الإيكولوجي (الفحص والتدقيق الصناعي الطاقي، استعمال السخانات الشمسية والمصابيح ذات الاستهلاك المنخفض…).
ويحتل قطاع تثمين النفايات الصلبة مكانة ذات أولوية بالنسبة للمغرب الذي يطمح إلى معالجة 20٪ من النفايات بحلول سنة 2020 وإحداث 150.000 منصب شغل. ويعتبر إدماج القطاع غير المهيكل، وتحسين الآليات المؤسسية، وإشراك القطاع الخاص المحاور الرئيسية للبرامج المغربية المتعلقة بتدوير النفايات، إضافة إلى المساهمة الفعلية للجماعات الترابية، مع ترسانة من المحددات القانونية، يظل أحدثها القانون القاضي بمنع صنع الأكياس من مادة البلاستيك واستيرادها وتصديرها وتسويقها واستعمالها (نهاية 2015).

الجـزائـر
تظل الجهود المبذولة من طرف الحكومة الجزائرية، على مستوى تحفيز الاقتصاد الأخضر والنجاعة الطاقية على وجه التحديد، مشجعة وطموحة، لكنها غير كافية نظرا لطبيعة الاقتصاد الوطني الجزائري، والذي يستند أساسا إن لم نقل حصريا على صادرات النفط والغاز، حيث إن نسبة 50٪ من الناتج الداخلي الإجمالي تظل صناعة النفط والغاز مصدرها الرئيسي. فيما تعتبر القطاعات الصناعات الجزائرية الأخرى مستهلكة بشكل كبير للطاقة؛ كالبناء ب 42٪ من الاستهلاك النهائي، وصناعة الإسمنت بـ60٪ من الاستهلاك الإجمالي الصناعي للطاقة. وهذا يدفع بالكثافة الطاقية الجزائرية أن تكون أكثر مرتين من كثافة دول منظمة التعاون الاقتصادي. وعلى صعيد آخر، يشكل التلوث الناجم عن التوسع الحضري والتمركز الاقتصادي على طول الساحل خللا بيئيا متزايدا، تقدر كلفته بأكثر من 2٪ من الناتج الداخلي الإجمالي. لذلك، ارتأت الجزائر أن تجعل من الاقتصاد الأخضر نقطة ارتكاز للتنمية والتقدم التكنولوجي ضمن المخطط الخماسي للنمو الاقتصادي (2015-2019). كما تمت بلورة استراتيجيات قطاعية متنوعة تهدف إلى التأقلم مع التغيرات المناخية المعيشة. وتركز الجزائر كذلك على تطوير التعليم والتكوين في المهن الخضراء من أجل تحفيز التشغيل في هذا المجال؛ حيث يتم الإدماج التدريجي لمسالك متخصصة داخل الجامعات (الطاقات المتجددة، النجاعة الطاقة، تدبير الموارد المائية، والمناخ).
وبالتالي فإن الجزائر على وعي تام بأهمية التوجه الاقتصادي نحو الاستثمار المكثف في النجاعة الطاقية، وذلك من خلال تنفيذ البرنامج الوطني الجديد للنجاعة الطاقية (PNEE 2015-2030)؛ والذي يهدف إلى تخفيض الاستهلاك الطاقي بنسبة 9٪، والعمل على انبثاق سوق وطني مستدام للنجاعة الطاقية. ومن بين مرتكزات هذا البرنامج الطموح نجد العزل الحراري لـ100.000 مسكن سنويا، وتوزيع 10 ملايين من المصابيح ذات الاستهلاك المنخفض، وتحويل 1.3 مليون سيارة وحافلة إلى استعمال الغاز السائل في أفق سنة 2030. وتعمل الدولة على دعم هذا البرنامج عبر الصندوق الوطني للتحكم في الطاقة (FNME)، ووضع الأطر القانونية الملائمة، واعتماد إجراءات تحفيزية للمستثمرين.
أما فيما يخص الطاقات المتجددة، فقد قامت الجزائر بتقويم ملموس للبرنامج الوطني لتطوير الطاقة المتجددة (2015-2030) من أجل تحقيق نسبة 37٪ من الطاقة الإجمالية، أي 25 غيغاواط. وبالتالي فإن إنتاج الطاقة الشمسية، بفرعيها الحراري والضوئي الفولطي، سيتطلب استثمار حوالي 60 مليار دولار. وتركز الدولة كذلك على تنمية الطاقات الريحية وإدخال مصادر الكتلة الحيوية، والتوليد المشترك للطاقة والطاقة الحرارية الأرضية. وبغية دعم هذه الاستراتيجية، فقد تم إنشاء الصندوق الوطني للطاقة المتجددة والتوليد المشترك (FNERC) من خلال فرض ضريبة 1٪ من عائدات النفط. كما تم إقرار آليات تحفيزية متنوعة من بينها خفض الرسوم الجمركية والضريبية على قيمة المعدات في مجال الطاقة المتجددة والنجاعة الطاقية. كما عملت على تطوير الإطار المؤسسي من خلال إحداث مركز تطوير الطاقات المتجددة (CDER)، والمعهد الجزائري للطاقات المتجددة (IAER) ، وعدة وحدات للأبحاث المتخصصة.
وتولي السلطات الجزائرية اهتماما متزايدا بمحاربة التلوث وخصوصا قطاع تدبير النفايات الصلبة. فقد وضعت الحكومة هدفا طموحا من أجل تدوير 40٪ من النفايات (في عام 2016) مقابل 6٪ في السنوات القليلة الماضية. من أجل ذلك، وضعت الدولة ترسانة من الآليات المتمثلة في المنح، وإصلاح الإطار القانوني، وتقوية إجراءات التوعية بالقطاعين العمومي والخاص وتطوير الشراكات بينهما. كما انخرطت الجزائر في مشاريع ذات قيمة مضافة منذ سنة 2015 أبرزها مصانع للمعالجة الحرارية للنفايات وتحويل البلاستيك وإعادة التدوير، ووفقا للحكومة تقدر القيمة المضافة لقطاع تثمين النفايات بحوالي 3.5 مليار دينار سنويا (30 مليون أورو).

تـونـس
لقد أفضى التعديل الأخير للدستور التونسي إلى بلورة استراتيجية وطنية جديدة للتنمية المستدامة 2014-2020 أعطت للاقتصاد الأخضر دورا بارزا في التنمية المستدامة للبلد. وقد ترجمت الحكومة التونسية ذلك بوضعها للاستراتيجية الوطنية للاقتصاد الأخضر 2016-2036، والتي تتضمن قانونا خاصا بالاقتصاد الأخضر وخطة وطنية لدعم الإنتاج والاستهلاك المستدامين، وتطوير التدبير الناجع للموارد الطبيعية، والتنمية المتوازنة للمجال، وتعزيز قدرات التأقلم مع التغيرات المناخية، وتشجيع قطاعي النجاعة الطاقية والطاقات المتجددة. كما قررت تونس إدماج كافة المهن الخضراء في الاستراتيجية الوطنية الجديدة للتشغيل 2014-2017. وتجدر الإشارة على أن القطاعات الأكثر مساهمة في خلق مناصب شغل خضراء هي تدبير المياه وتدوير النفايات، والزراعة، والخدمات، والطاقات المتجددة، والبناء.
أما فيما يخص النجاعة الطاقية، فإن تونس تتبوأ المركز الأول عربيا حسب المؤشر العربي لطاقة المستقبل (AFEX) لسنة 2015 (المغرب في المركز الثالث والجزائر في المركز السابع).  ويأتي هذا الأداء المتميز نتيجة وعي رسمي مبكر منذ 1990 بضرورة تقوية النجاعة الطاقية والخفض من كثافة الاستهلاك الوطني للطاقة بنسبة 26٪ سنة 2010. كما أشركت تونس في هذه المقاربة القطاعات الأكثر استهلاكا كالنقل والصناعات من خلال تنفيذ عقود-برنامج رامية لترشيد استهلاك الطاقة. إضافة إلى ترسانة تنظيمية هامة وإجراءات ملموسة متعددة كالبرنامج الوطني للنجاعة الطاقية PNEE، وقانون التدبير الطاقي وصندوق التحول الطاقي (FTE)، وتشجيع التكنولوجيات الحديثة المخفضة للاستهلاك الطاقي المنزلي والصناعي.
على صعيد آخر، أقرت تونس مخططات طموحة لإنتاج الطاقات المتجددة كالبرنامج التونسي للطاقة الشمسية 2014-2030 والذي يهدف إلى زيادة حصة الطاقات المتجددة إلى 30٪ أي 3815 ميغاواط في أفق سنة 2030، بدل 275 ميغاواط. إضافة إلى إجراءات عملية مختلفة على صعيد الاستثمارات والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وقانون جديد لإنتاج الكهرباء من مصادر طاقية متجددة (2015). كما تبقى تونس رائدة تقنيا وتجاريا فيما يخص تكنولوجيات تسخين المياه بالطاقة الشمسية بأكثر من 650.000 متر مربع، نتيجة تطوير تقنيات صناعية وطنية.
أخيرا، تواجه تونس حالة من الهشاشة المستعصية على مستوى قطاع تدبير النفايات. وعرفت سنة 2011، حيث الحراك التونسي في أوجه، تزايدا غير مسبوق في أعداد المطارح العشوائية أو غير القانونية. ويتم حاليا تجميع 5٪ فقط من النفايات الصلبة و0.5٪ فقط يتم تدويره. لذلك يجب توجيه الجهود نحو وضع سياسة وطنية متكاملة ومندمجة للحد من هذه الظاهرة المؤثرة على بيئة وصورة تونس الدولية. وتجدر الإشارة إلى أن الدولة التونسية سبق واعتمدت استراتيجية وطنية لتدبير النفايات (2007-2016)، بغية تشجيع قطاعات التدوير والتثمين، إلا أن الجهود تظل محدودة نظرا لإحجام القطاع الخاص عن الاستثمار بسبب النقائص المؤسسية والتنظيمية والمالية. لذلك، فإن الإصلاح يجب أن يشمل الإطار التنظيمي والجبائي مع إدماج حقيقي للقطاع غير المهيكل.

تحديات مغاربية مشتركة
يتضح إذن من خلال المعطيات التي أمامنا الحجم الكبير للتحديات التي تواجهها بلداننا المغاربية الثلاثة. وهي تحديات يمكن مقاربتها من زوايا تحليلية اجتماعية واقتصادية وبيئية. كما يمكن الوقوف على الطابع العرضاني والمشترك للواقع المغاربي الاقتصادي وخصوصا الشق الأخضر منه، مما يؤسس لطموح مشروع مبني على ضرورة توحيد الرؤى والعمل على تقاسم الخبرات التشريعية والتقنية المتعلقة بهذا القطاع المستقبلي. ولن تتحقق الفاعلية المرجوة للبرامج التنموية الوطنية بدون التفكير في التقائية الاستراتيجيات المغاربية، وبلورة مشاريع نموذجية مشتركة في أفق إعطائها الزخم الضروري لتصبح المحرك الأساس لأي نموذج تنموي مغاربي مشترك ومندمج.
على الصعيد السوسيو- اقتصادي، وعلى الرغم من التباينات الممكن ملاحظتها بين بلداننا المغاربية الرئيسية الثلاثة على المستوى المؤسسي والهيكلي، تميل السياسات الوطنية المغاربية عامة إلى تشجيع الطابع الاستهلاكي بشكل مبالغ فيه، وإهمال الاستثمارات الإنتاجية والاجتماعية، وتكريس التفاوتات المجالية. إضافة إلى قصور كبير على مستوى سياسات الاستهداف والحماية الاجتماعيين، ناهيك عن بطالة الشباب وتفشي إمكانيات الشغل الهشة كما تطرقنا لذلك سابقا بشكل مفصل. كما ترتكز نماذجنا الاقتصادية بشكل محرج على الاستيراد المكثف للمنتجات الحيوية كالمواد الغذائية والطاقية ذات القيمة المضافة العالية، ​​وعلى إنتاجية صناعية غير كافية وذات قيمة تكنولوجية ضعيفة، وعلى هيمنة تصدير المواد الأولية والقطاعات غير المهيكلة وضعف القدرة التنافسية للمقاولات، خصوصا الصغيرة والمتوسطة منها، مع محدودية الولوج إلى التمويل البنكي والخبرات والتكنولوجية الحديثة.
أما على المستوى البيئي، تواجه بلداننا المغاربية صعوبات بيئية متعددة تتطلب وعيا جماعيا أكبر من طرف الحكومات والقطاع الخاص والمواطنين بضرورة تكثيف المجهودات وترشيدها. ولا يمكن لأي بلد منعزل مواجهة هذا الواقع دون تعاون دولي فعال. فنحن أمام نظم إيكولوجية هشة، ومواردنا الطبيعية تؤول إلى النفاد، خصوصا المائية منها، واحتياطاتنا من الموارد الطاقية غير المتجددة في تدن بنيوي، دون إغفال المخاطر المرتبطة بالتغيرات المناخية المتسارعة وبالتفاقم المهول للتلوث البيئي.
نقف إذن كمغاربيين أمام تشخيص لمشاكل متشابهة. وعليه، فمن واجب دولنا أن تتقاسم الردود وتتشارك في الرؤى والحلول. فإذا اتجه المجتمع الدولي منذ ثلاثين سنة نحو التضامن والتعاون المتعدد الأطراف من أجل مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، فمن الأجدر لنا نحن كمغاربيين ألا نحرم شعوبنا من تقارب استراتيجياتنا لمواجهة التحديات المتعلقة بتدهور بيئتنا المغاربية المشتركة.
    
آفاق التكامل الاقتصادي.. حاجة ملحة إلى ابتكار المشترك
في منطقتنا المغاربية، يعتبر الاقتصاد الأخضر أكثر النماذج التنموية حاجة إلى الشجاعة السياسية والصرامة العلمية والواقعية السوسيو-الاقتصادية. لأن رهان العصر هو مسألة اندثار أو بقاء للبشرية أمام ما يتهدد العالم من مخاطر بيئية. وبالتالي، فالساكنة المغاربية معنية بمدى وعي حكامها بهذه المعطيات الحساسة. فلا يمكن لنا إذا أن نتحمل ترف التشبث بمواقف تجووزت تاريخيا بسبب تحديات معولَمة. وبالتالي فمسؤوليتنا الجماعية والتاريخية لابد أن تدفعنا للمضي قدما نحو الاندماج المغاربي الاقتصادي كضرورة ملحة، نظرا لقصور اقتصاداتنا الوطنية المنعزلة عن بعضها البعض لأسباب سياسية وأمنية يمكن تجاوزها.
علينا إذا أن نوجه اقتصاداتنا وبسرعة نحو القطاعات الخضراء لتعزيز قاعدة مشتركة للاستثمار وتبادل الخبرات. وسيكون بإمكان المغرب والجزائر وتونس حينئذ تقديم نموذج طلائعي عبر بناء تكتل جهوي في مجال الطاقة المتجددة وحماية البيئة سيحظى باعتراف دولي واسع. فما المانع من تطوير مناطق مشتركة لإنتاج الطاقة المتجددة على الأقل حول حدودنا؟ وهل قمنا بتقييم ما يكمن توفيره من موارد مائية مغاربية إن أطلقنا ديناميكيات وآليات مشتركة لتقاسم الفائض المائي في المناطق الحدودية؟ وهل بإمكاننا التفكير في تجويد بيئتنا المشتركة إن نحن وضعنا مخططات مغاربية لتدبير وتثمين النفايات الصلبة والمياه العادمة…؟
إن بناء الاتحاد المغاربي عبر بلورة جهات منسجمة ومتكاملة اقتصاديا هو مستقبلنا والحل الأمثل لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المشتركة لشعوبنا. قد يظهر هذا التصور في الوقت الحالي كضرب من الخيال عندما ينظر المرء إلى واقع حدودنا، لكن مسؤولية حكامنا أمام الأجيال القادمة تتطلب درجة عالية من التبصر والابتكار السياسي والاقتصادي والمؤسسي. فحدود بلداننا البرية آيلة لامحالة نحو الإلغاء بحكم السيرورة التاريخية للأمم، مع الحفاظ طبعا على السيادات الوطنية، كيفما كانت الهندسة المؤسسية الوحدوية المغاربية مستقبلا. والرهان الذي سيطرح بإلحاح حينئذ هو أي نموذج تنموي للمناطق الحدودية المشتركة؟ فهل سنعمل وقتها على بلورة مخططات مغاربية لتنمية هذه الجهات من أجل الصالح المشترك لساكنتها بغض النظر عن جنسياتهم؟ أم سنتمادى في تجاهل الإمكانيات الهائلة لمجالات ترابية شاسعة على الرغم من تجانسها التاريخي وتكاملها الاقتصادي؟ سيظهر حينها وبشكل جلي أن المنهجية الأولى هي الأكثر وجاهة وموضوعية. وسيمثل الاقتصاد الأخضر بكل قطاعاته أكثر الحقول ملاءمة للتنمية المجالية المستدامة اقتصاديا وبشريا.
كما يعتبر الساحل المغاربي، المتوسطي والأطلسي، مجالا اقتصاديا حيويا بامتياز لبلورة برامج مشتركة للحفاظ على الثروة البحرية، والتفكير مغاربيا في تطوير القطاعات الصناعية والخدماتية البحرية على غرار النموذج الأوربي. فمن واجبنا أن نعمل سويا على مكافحة تلوث المياه البحرية دون أي عائق أو خلاف سياسي. ونظرا لكون حدودنا البحرية مفتوحة مغاربيا، فما الذي يمنعنا من استغلال مشترك لكل المقومات الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية لساحلنا المغاربي؟
من جميل الصدف أن تحتضن منطقتنا المغاربية أكبر تجمع دولي لحماية الأرض من التغيرات المناخية والمخاطر البيئية، حيث ستستضيف مراكش أواسط نونبر 2016 الدورة الثانية والعشرين لمؤتمر الأطراف بشأن تغير المناخ “COP22”. وهي مناسبة مثالية لتدارس مستقبل التكامل المغاربي على جميع الأصعدة في ضوء التحديات البيئية الواجب علينا مواجهتها جميعا، وفرصة للحكومات المغاربية للتعبير عن ذكاء جماعي وتاريخي عبر توحيد الرؤى وتقريب المنهجيات وتبادل الخبرات وفسح المجال للإنتاج الطاقي المشترك والحماية الجماعية للبيئة المغاربية. وسيمكن ذلك بلداننا من إنتاج نموذج تنموي مشترك فريد من نوعه من حيث النجاعة الاقتصادية والآفاق الواسعة لإنتاج الثروات وتوفير العمل للمغاربيين قاطبة.
إن خصوصياتنا الطبيعية والاقتصادية متكاملة بشكل جلي، ومميزاتنا الاجتماعية والثقافية هي الأكثر انسجاما بين كافة المناطق عالميا. ولقد أصبحنا ملزمين بتحمل مسؤوليتنا التاريخية أمام الأجيال الصاعدة حتى نجعل من الواقعية الاقتصادية والبيئية البوصلة الأساسية لقراراتنا السياسية المصيرية. فلنعمل على ابتكار المستقبل المشترك عبر بناء اقتصاد أخضر مغاربي قوي، ولنجعل من خلق ثروات مستدامة أولوية قصوى لصالح المغاربيين كافة. فالمخاطر البيئية تفرض علينا حكمة أكبر وتطلعات شعوبنا المغاربية تتطلب من حكوماتنا تبصرا أوسع. فليكن موعد مراكش، مدينة التاريخ المغاربي، ومؤتمر الأطراف COP22، فرصة لتحقيق الآمال المغاربية المشروعة.

> بقلم: ربـيــــع الوفـــودي (*)
(*) باحث في العلوم الاقتصادية والجيو-سياسية، ورئيس مؤسس لاتحاد الشباب الأورو-مغاربي بالمغرب.

Top