الرواية المغربية الأمازيغية في شرنقة الهوية -رواية “إكضاض نْ وِهران” نموذجا-

تُقدّم رواية “طيور وِهران” للحسين بويعقوبي نفسها على أنّها رواية “هجرة”، لا مِن حيث عنوانها، ولا من حيث صورة غلافها الجميلة، ولا حين التعريف بمؤلّفها على غلافها الخلفيّ: “بعد حصوله على الإجازة في التاريخ.. هاجَر إلى فرنسا”، ولا أيضاً من حيث تصنيفها كذلك، في كتاب “قراءات في الرواية الأمازيغيّة” الصادر عن منشورات تيرّا سَنة 2014.
إلاّ أنّ واقع الحال، للأسف الشديد، وفي وقت تعيش فيه الرواية المغربيّة الأمازيغيّة تراكُمَها النوعيّ والكميّ، وتعيش بداية عقدها الثالث، يأبى هذا الواقع المفروض والمرفوض إلاّ أن تظلّ قابعة في شرنقتها بوضع عصاً غليظة في عجلة التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع الأمازيغيّ، ما جعل الرواية لا تبارح خندق الانشغال الهويّاتي، ولا تحتضن قضايا المجتمع، ثم لا تنخرط في أفق الكونيّة وتنهجس بالهمّ الجماليّ، ناهيك عن النبش في الطابوهات وملامسة المسكوت عنه وسبر المُهمّش.
ولا أدَلَّ على ذلك من اعتماد السارد في روايتنا “الرؤية من فوق” بالمفهوم الباختيني. يَصنع أوّلاً بطله بالمفهوم التقليديّ، فيمنحه صلاحيَّاتٍ، أو حتى سلطة يعلو بها على قرائن عديدة (شخصيّات) يُحيطها به، يراقبها عن كثب، لا يبتعد عنها قيْد أُنمُلة.
فبَطل روايتنا “إيدر”، لابدّ وأن يكون على الدوام على صواب، في قَبوله ورفضه، وفي تخميناته وقَراراته، عارفاَ بكلِّ شيءٍ تمهيداً لجعله الناطق الرّسميّ للبطولات الأمازيغيّة :
ـ عندما شكّك رفيقه في الحافلة بأنّ الصديق الذي حدّثه عنه، و قال بأنّه سينتظره في باريس، قد يخذله.. فتذهب شكوك سعيد هَبَاءً عندما يُحدِّث الصديق “إيدر” في الهاتف، و يكون هذا الأخير على صواب : “أَوَا لاباس، الناس ليسوا سواسية، ما قال صاحِبِي الحافلة ليس صحيحاً.” ص.10.
ـ عندما شكّك سعيد في محتوى حقيبتين يَحملهما “إيدر”، و يَعبُر بهما الديوانة لامرأة تحمل رضيعاً : “فماذا حدث [يقول إيدر]، جميل و صنعناه.. مرّرنا الحقائب..لا تدَعوا أحداً يَفعل خيراً” ص.36.
ـ ثمّ في جعل السارد بطله خارج المشاركة في “فضيحة النجاة”: “أنا أيضاً فكّرت في المشاركة، لكن عُدت فقلت مع نفسي، هذا فيه “أموكريس”(1)… كان الله بجانبي، لم أذهب إليهم.” ص.52.
بداية من الصفحة الثامنة (100 صفحة في النصّ)، سيَطرح السارد علَناً مُعضلة الهويّة على شكل حِوار بدأ طريفاً و ساخِراً بين سعيد و “إيدر”، لكن سرعان ما سينتهي ب”إيدر” إلى تلقِّي صفعةٍ هوّياتيّةٍ قويّة من بني جِلدته: “الله يهديك [يقول سعيد]، لا فرق، مِثل العربيّ مِثل الأمازيغيّ، كلّنا عرب، كلّنا نقول لا إله إلاّ الله.”.
فيَنعقد لسان “إيدر”.
ثم إنّ الجهل والتجاهل للهويّة الأمازيغيّة لا يقتصر فقط على العرب و ثلّة من الأمازيغ أنفسهم، ولكنه سيمتدّ أيضاً إلى غير المغاربة ممّن عايشوا الأمازيغ في المغرب رَدحاً طويلاً من الزمن، ما من شأنه أن يُضاعِف شُغل وانشغال “إيدر” بالتعريف بهذه الهويّة، وبالتالي ابتعاد روايتنا عن موضوعها الأساس.. الهجرة.
فهذه الشابّة اليانعة الفرنسيّة الفاتنةُ الجالسة مع “إيدر” في إحدى المقاهي الباريسية، تقول له وهما يتعارفان :
ـ انا إسمي “ميلاني”، يبدو أنّك عربيّ. مِن أين أنت ؟
فيقول لها :
ـ أنا مغربيّ، ولكنّني لست عربيّاً.
فترُدّ عليه باندهاش واستغراب :
ـ ومن تكون ؟ أليس المغرب بلد العَرب، يتحدّثون فيه بالعربيّة، وهو من الشرق ؟ ص.59.
ينعقد لسان “إيدر” ثانية فينسى إشباع عينيه في هذا الجمال الساحر الجالِس أمامه. فيطرح السارد سؤال الرواية :
“يريد اليوم [إيدر] ان يَعرف من أعطى للآخر هذه الفكرة الخاطئة، هل أهالينا هم الذين أعطوْها للنصارى، أم النصارى هم الذين أعطوْها لأهالينا.. يُردّدونها جميعاً دون أن يفكِّروا فيها.” ص.60.
مُختصَر القول، أنّ النّص الذي نعالجه هنا، هو نص هوّياتي بامتياز. ولا عَجب.
و لكن أيضاً، وخارج مأزق إشكال الهويّة، يَحفل هذا النصّ بتحليلٍ عميقٍ لإشكاليّة الهجرة لا يجب نكرانه، فالكاتب مهاجر سابق، ثم إنه انتروبولوجيّ باحث خَبَر عن كثب العوالم السفليّة والعُلويّة للهجرة، و أيضاً، وأساساً، أبَان وهو أمازيغيّ، عن قدرة عجيبة في الحكي، أبَان خلاله عمّا تختزنه الأمازيغيّة من بلاغة راقية فغاص في الوصف العميق والدقيق، واستدلّ بأمثال أمازيغيّة وعُمقها الدّلاليّ طواها النسيان…
كلّ ذلك بأسلوب سلِس، ممْتع، ممزوج بالدعابة وغيرَ قليل من السخرية السوداء على المتنكّرين لهذا الموروث الغنيّ.
يصف الكاتب جَمال الفرنسيّة “ميلاني”، على لسان “إيدر”: “لم يعُد يعرف ما إذا كانت هذه الجالسة قبالته إنسانة أم جَمالَ “حمّو أُونامير” (2)، الحاجبين كالبدر، الأنف، الفم، الجبهة، الشعر المسدول على الكتفين مثل إيموزار (3)، لو لم تقصه لاتصل بالأرض. لا شك في أنّ صانعها صرَف عليها وقتا طويلا”. ص58-59.
بعد سنواتٍ سيَعود “إيدر” إلى القرية الشاطئيّة “سيدي بوتماخيرت”، مكان ولادته، ليرى ما إذا توقّف الزمان هناك قليلا، لكنه سيُصدَم عندما يجد الطريق إلى قريته معَبَّدة لا حُبّاً في أهل القرية، ولكن بدافع سَطوة المخزن على الأراضي وبيعها للنصارى يبنُون عليها “فيلات” يشتغل فيها أهل القرية حُرّاساً (إنضَافن).
امتدّت الأيادي أيضاً إلى “أفتاس”(4)، و بيوتات الصيّادين، وإلى رمز مجد القرية وعزّتها.. بقايا مَركب “الدّا علي نايت بوحشوش”.. البحّار الأسطورة الذي تقام له سنويّاً الولائم وأعراس البحر.. لم يَعُد شيء من ذلك !؟
بدورها، لم تَسلَم بئرُ الدوّار، أحاط بها المخزن حائطاً و وضع عليها حارساً. من يريد الماء فليَدْفع.
فصار الثلاثيُّ الذي يشكِّل هويّة أهل القرية، الأرض – الماء – السّمك، في أيادي أخرى.
و عاد “إيدر” إلى فرنسا و قد أخذ على عاتقه أن يكون لسان أهل “سيدي بوتماخيرت” في المَهجر لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه.
و تنتهي الرواية بقول السارد:
“أنا ما زلت أقرأ”
في إعلانٍ صريحٍ بأنّ الهويّة الأمازيغيّة لازالت بحاجة إلى حِبر كثير.

هوامش :
ـ 1: مَقلب.
ـ 2: أسطورة من تراث الأمازيغ، ذو جمالٍ باهر.
ـ 3: كلمة أمازيغيّة تعني الشلاّلات، و مفردها أمازر.
ـ 4: دليل و مرفأ للصيّادين.

> بقلم: رشيد أبو الصبر

Related posts

Top