الطابق الرابع

> بقلم: أمينة شرادي

 التقيتها بالأمس كروح خفيفة، تسبح برجلين خفيفين كالظل دون أن تحدث ضجيجا. ملفوفة في ثوب أبيض وعتيق، لا يناسب مقياسها الصغير الواهن. بدت لي كغصن شجرة طري، انتزع نزعا من موطنه الأصلي حتى سالت دموعه. لما رأتني، مسح وجهها الخجل. غيرت اتجاه نظراتها الصامتة. أشاحت بوجهها عني حتى سقط غطاء رأسها الصغير وتدلت ضفائرها باحثة عن فسحة استراحة بعد اعتقال طويل. كلمتها لأسمع صوتها وقلت لها:
– مساء الخير..
 أجابتني بصوت غير مسموع كأنها تهاب شيئا ودفعت من فمها جوابا خافتا كأنها تفشي سرا، فهمت بعدها أنها ترد التحية. وانسحبت بهدوء كريح يوم صيفي. تقاوم عناد درج السلم المرتفع، لتقضي بعض الحاجيات المطلوبة منها.
 في اليوم التالي، كنت أستعد للخروج. كانت ترافقني ابنتي الصغيرة، التقيت بها من جديد. ابتسمت لها حتى ترتاح روحها أكثر. كانت تحاول إغلاق باب العمارة الضخم واتجهت بناظريها إلى السلم الشامخ أمامها كأنها تستعطفه حتى يلين وينحدر وتصعد الى الدور الرابع. صراعها مع الدور الرابع استحال الى كابوس يومي زاد من محنتها وحاصر جسدها الصغير. جعلت من يديها قناعا على وجهها، وانتظرت في صمت رهيب مروري من أمامها. رمقتها ابنتي الصغيرة بعينين مرحتين وحاولت التشبث بها، ردت الابتسامة البريئة في سكون واستحالت لأميرة صغيرة متوجة بوشاح أبيض. مكسوة بثوب أبيض. تطلق العنان لكل طفولتها الكامنة بداخلها، ارتسمت ابتسامة مضيئة على شفتيها أنارت ملامح وجهها الطفولي. سألتها وهي تستعد للإجهاز على السلم العنيد:
ما اسمك؟ صمتت. ثم نطقت بصوت جد خافت كأنه همسة ليلية تهدهد النجوم في سمائها. فعلمت ان اسمها “فاطمة”.
وانسحبت بسرعة من أمامي تجر جسدها الواهن كأنها تأخرت عن موعدها.
توالت الأيام متشابهة كأيام “فاطمة”. نزول وصعود، صعود ونزول …يومها كان الجو مشحونا ببرودة قاسية كبرودة البلاد الأوروبية، خرجت مسرعة في ساعة مبكرة. فاجأني جسدها الصغير في الطابق السفلي. تنتظر أحدا من أهل البيت العلوي.قابعة في مكانها لا تتحرك، كأنها في حالة استنطاق. تحتمي من صقيع الصباح البارد بيديها الصغيرتين. رجليها تكتفنهما رعشة قاسية يستنجدان بجوارب بالية وحذاء تغير لونه الأصلي من كثرة استعماله. كانت تحمل حقيبة صغيرة وسطلين كبيرين: كانت تستعد للذهاب إلى الحمام الشعبي. بدت وسطهم كغصن تائه في البراري استوطنته الأشواك وأتت على كل شيء جميل فيه. لا تتكلم. تنظر وتنتظر في سكون. قلت لها “صباح الخير” دون أن أنتظر جوابا. فجاءني صوتها مرتعشا، مضطربا، صامتا لا يسمعه أحد.
 رغبت في الحديث معها. كانت تحاول النظر الي. فاستقرت عيناها على عيني، ابتسامة غريبة ودموع خائفة. تحرك رجليها يمنة ويسرة كأنها فوق نار ملتهبة. احترمت صمتها وخجلها وخوفها وهروبها وخرجت. علمت فيما بعد، أنها رحلت إلى بيت آخر، في الطابق الرابع، وهي بعد طفلة تحلم باللعب والصدر الطيب.                                      

Top