الفرنكوفونية ورهان الهوية والتعددية الثقافية في المغرب

 في لغة وكلام الشباب في المغرب اليوم، في اهتماماتهم الموسيقية والثقافية عموما، يلاحظ حضور متزايد للغة الإنجليزية ولثقافتها. 

 إنها إحدى مظاهر تصاعد تأثير “القوة الناعمة” الأنجلوسكسونية في الفضاء اللغوي المغربي نتيجة العولمة. لقد بدأت الإنجليزية كلغة أجنبية ثالثة بعد الإسبانية تتقدم تدريجيا على حساب الفرنسية، رغم أن حضور هاته الأخيرة ما يزال قويا ونافذا في الإدارة والاقتصاد وغيره، في ظل جغرافية لغوية وثقافية تتميز بالتعدد والتنوع الكبيرين. 

 لكن هذه التعددية لا تنفي أن العربية تبقى هي اللغة الأولى الأكثر تداولا. وقد كشف التقرير الخاص بالإعلام الاجتماعي في المنطقة العربية للعام 2017 الذي أصدرته كلية محمد بن راشد للإدارة الإلكترونية، مثلا، أن نسبة رواد “الفيسبوك” المغاربة من مستعملي لغة الضاد تتزايد حيث بلغت 69 في المائة، في حين تراجع عدد مستعملي اللغة الفرنسية في هاته الشبكات من 75 في المائة إلى 67 في المائة.

 يتميز المغرب بموقع جغرافي استراتيجي، جعله محط أطماع قوى أوروبية كبرى في القرن 20 وهو ما تسبب في خضوعه لتقطيع استعماري فريد من نوعه في العالم، بحيث أن شمال وجنوب البلاد استعمرتهما إسبانيا. والوسط خضع للاستعمار الفرنسي. أما مدينة طنجة فعرفت حماية دولية تقاسمتها عدة دول كبرى.  وعلى مدى التاريخ، تعاقب على العيش في المغرب وعمرانه شعوب وأعراق مختلفة من رومان وأمازيغ وعرب وأندلسيين. كما يتوافد عليه اليوم الآلاف من المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء الذين حصل 20 ألف منهم مؤخرا على بطائق رسمية للإقامة. هذا المسار التاريخي خلق تعددية وتنوعا لغويا متميزا. وينص الدستور المغربي على أن العربية والأمازيغية هما اللغتان الرسميتان للبلاد ويدعو إلى حمايتهما. كما ينص على “تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم” وذلك من أجل “الانفتاح على مختلف الثقافات”. وقد أبدع العديد من الكتاب المغاربة والعرب في الفرنسية وحصلوا على جوائز معروفة مثل “الغونكور”. ومن بينهم اللبناني أمين معلوف، والمغربي الطاهر بنجلون، والجزائري محمد ديب. كما أن هناك أدبا مغربيا متطورا باللغة الإسبانية في شمال البلاد وفي أوساط الجالية المغربية المقيمة بإسبانيا.

 وإذا كان الروائي الجزائري الراحل كاتب ياسين قد اعتبر أن الفرنسية هي بمثابة “غنيمة حرب” في إشارة إلى الاستعمار الفرنسي لبلاده، فإن الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو الذي يكتب بالفرنسية أيضا يقول: 

“درست اللغة الفرنسية بسبب عثرة من عثرات التاريخ أو الجغرافية بالأحرى. لو أنني ولدت شمال المغرب لكنت درست ثرفانتيس” (1). ويعتبر كيليطو، رغم تعلقه بالفرنسية، أنه لا يمكن التخلص من العربية لأنه تربى عليها وهي حاضرة في كتاباته بحيث يقول مستعيرا قولة للكاتب اليهودي العالمي فرانز كافكا:  “إنني أتكلم جميع اللغات ولكن بالييديش”. كما يستشهد بقولة للأديب الروماني الفرنسي إميل شيوران، الذي عاش وخبر بعمق التنقل بين لغتين، “والتجربة الرهيبة” للكتابة بغير اللغة الأم، جاء فيها: “إن استبدال اللغة هو، بالنسبة للكاتب، بمثابة كتابة رسالة غرام باستعمال قاموس”. لكن كيليطو يرى أن وضعية التعدد اللغوي بالمغرب تطرح بعض السلبيات، حيث يوضح: “نعيش وضعية الازدواج اللغوي بقدر ما نعيش وضعية يتساكن فيها شكلان للأحادية اللغوية. ولا شك أن كل هذا سيطرح على مؤرخ الأدب المغربي صعوبات جمة في المستقبل”. 

 

الفرنكوفونية والعامية واللاتينية:

في الجزائر وضعية الفرنكوفونية لها أيضا خصوصيتها ومعيقاتها. فأحد أكثر كتاب الفرنسية موهبة وشهرة اليوم، وهو كمال داوود، يذهب إلى حد إنكار أن الجزائر دولة عربية. ففي جواب عن سؤال حول ما إذا كان يعتبر نفسه كاتبا ينتمي إلى العالم العربي، يقول: “عن أي عالم عربي تتحدثون؟ إن العالم العربي هي مجرد تسمية توافق عليها المستشرقون. ليس هناك شخص واحد في العالم العربي يتكلم بالعربية: فكل بلد له لغته الخاصة. ولكل بلد تاريخه الخاص” (2). 

هذه الدعوات إلى وجود خصوصية لغوية لكل بلد عربي هو ما جعل مثلا الكاتب المغربي الفرنكوفوني فؤاد العروي يضع مقارنة تاريخية بين اللغة اللاتينية والإيطالية من جهة، وبين الفصحى والعامية المغربية من جهة ثانية. بحيث أنه ينصح بتتبع نفس المسار الذي جعل الإيطالية واللغات الأوربية تنفصل عن اللاتينية قبل عدة قرون. فاللغة العامية أو الدارجة في المغرب تحتاج، برأيه، إلى القيام بثورة مماثلة لتستقل عن الفصحى. واستشهد بمثال العالم الإيطالي الشهير غاليليو الذي كتب باللغة الإيطالية وتخلى عن اللاتينية. ويذهب العروي إلى درجة إبراز أن ثورة جاليليو اللغوية هاته كانت ضد الكنيسة وضد التقاليد المتزمة في إشارة ضمنية إلى أن العربية الفصحى هي لغة التزمت. 

ويعارض عدد من المفكرين في المغرب هذا التوجه نحو التدريج حيث يقول حسن الصميلي عضو المجلس الأعلى للتربية والتعليم، إن الفصحى والدارجة يتكاملان ويعكسان، علميا، ما يسمى ب:  diglossia أي الإزدواجية اللغوية وهي برأيه “ازدواجية لغوية قائمة على شكلي لغة واحدة متكاملة الوظائف”. و هذا ينطبق مثلا على أشكال أو لهجات اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية أو اللهجات الأمازيغية في المغرب وفي عدة دول. كما عبر المفكر الكبير عبد الله العروي الذي يكتب بالعربية والفرنسية عن انتقاده القوي لهذا التوجه وحذر من عواقبه التي تهدف إلى فصل المغرب عن محيطه العربي الطبيعي. ويقول عدد من الأخصائيين إن هاته الدعوات للعامية معرضة للفشل كما فشلت سابقا دعوات مماثلة عرفتها لبنان في السابق مع الشاعر سعيد عقل.

وفي نفس السياق برز في المغرب جدل قوي مؤخرا حول لغات التدريس في التعليم بين أنصار العربية وأنصار الفرنسية. وفي هذا الصدد، انتقد عالم اللغة عبد القادر الفاسي الفهري سياسة وزارة التعليم بسبب تطبيقها، حسب رأيه، توجها يقضي بالعودة إلى الفرنسة الأحادية للتعليم بالمغرب (3) وذلك بعد القرار الذي اتخذته الوزارة لتدريس المواد العلمية بالفرنسية بحجة تسهيل تلقي المعرفة بالمدرسة. وكانت هذه المواد قد تم تعريبها وصارت مكسبا منذ سنوات طويلة. حيث اعتبر الفاسي الفهري أن هذا التراجع عن التعريب يتعارض مع الدستور ومع ما جاء في تقرير الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم. ويرى أن توجه الوزارة هذا ليس منعزلا وأنه جزء من تيار فرانكوفوني عالمي ينظر له المفكر الفرنسي جاك أطالي مستشار الرئيس السابق فرانسوا ميتران الذي أنجز في 2014 تقريرا بعنوان: “الفرنكوفونية وحب الفرنسية محركان للتنمية المستدامة”.

“الفرنكوفونية تعايش الطاقات الكامنة لجميع الأجناس”

يشير تقرير أطالي إلى أن حوالي 220 مليون شخص يتكلمون الفرنسية عبر العالم. بحيث أنها تشكل الفضاء اللغوي السادس في العالم. ويحذر التقرير الذي يرسم التوجهات الاقتصادية والسياسية للفرنكوفونية من أن مستقبل الفرنسية مهدد. بحيث يحلل بالتدقيق وبالأرقام كيف أن دولتين تتكلمان نفس اللغة يمكن أن تكون لهما مبادلات تجارية تتجاوز بأكثر من 65 بالمائة المبادلات بين دولتين لا تتكلمان نفس اللغة. وهو رقم للتأمل العميق بالنسبة للدول العربية ومبادلاتها التجارية البينية الضعيفة. ويعتبر أطالي إن الإمكانيات الاقتصادية للفرنكوفونية إذا استغلت جيدا يمكنها أن توفر حوالي مليون منصب شغل. ويتضمن تقريره عدة مقترحات ويدعو إلى إنشاء “اتحاد اقتصادي للدول الناطقة باللغة الفرنسية”.

على المستوى السياسي، تشكل المنظمة الدولية للفرنكوفونية إطارا يجمع الدول الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية. وهدفها هو “تطوير اللغة الفرنسية والتعدد اللغوي والثقافي” وهو ما يفيد بأنها لا ترمي، رسميا، إلى الهيمنة على باقي اللغات والثقافات. كما أنها تسعى إلى منع وتسوية النزاعات ونشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعموما يخضع الانتماء إلى هاته المنظمة لاعتبارات سياسية مختلفة ومتباينة. والدليل على ذلك هو أن من بين الدول العربية الأعضاء، نجد مصر، المغرب، لبنان وسوريا.. أي الدول التي سبق استعمارها من قبل فرنسا، لكن هناك بعض الاستثناءات بحيث أن الجزائر ليست عضوا رغم أنها كانت مستعمرة فرنسية، ورغم الحضور الكبير للغة موليير في هذا البلد، وهو غياب سببه عدم تصالح البلدين حول طي صفحة الاستعمار. 

 وإذا كانت اللغة هي روح الأمة وحاملة قيمها، فإن الفرنكوفونية تحيل، تاريخيا، على قيم الحرية والمساواة والأخوة التي كانت شعار فرنسا منذ الثورة في القرن الثامن عشر. ويرى أحد كبار منظري الفرنكوفونية الشاعر السينغالي الراحل سيدار سانغور أن الفرنكوفونية هي “الإنسانية التامة التي تنسج خيوطها حول الكرة الأرضية، وهي تعايش الطاقات الكامنة لجميع القارات ولجميع الأجناس”. لكن هناك تباينا في القراءات والتقييمات للفرنكوفونية يجعل بعض الأصوات داخل إفريقيا جنوب الصحراء، مثلا، تعتبر أن هاته المنظمة مؤسسة تهدف فقط إلى خدمة المصالح السياسية الفرنسية وخدمة اللغة الفرنسية على حساب اللغات الأخرى. وهو سوء تفاهم جعل أحد مسؤولي هذه الدول يدعو، مؤخرا، إلى ما أسماه “قطع حبل السرة” مع فرنسا. 

ويرى الشاعر المغربي محمد بنيس الذي ترجمت الكثير من أشعاره إلى الفرنسية، من جهته، أن الانفتاح على تعلم اللغة الفرنسية مسألة إيجابية وحيوية، لأنها تغني اللغة الأم وتشكل مدخلا أساسيا إلى العصر والحداثة. ولكنه يرفض التوجه الفرانكوفوني الذي يدفع في اتجاه تعلم الفرنسية على حساب العربية بغرض إلغائها.

خدمة الثقافة العربية وتصحيح قيمها الإنسانية:

تعرف اللغة العربية عبر العالم اليوم تقدما ملحوظا لعدد الناطقين والمهتمين بتعلمها، لكن هذا الاهتمام لا يكون دائما من منطلق وخلفية إيجابية بحيث قد تكون موجة الإرهاب التي يعرفها العالم، وتدفق المهاجرين السوريين على أوربا هربا من الحرب، حاملين معهم ثقافتهم ولغتهم، إحدى دواعي هذا الاهتمام. وقد صار عدد متزايد من الأخصائيين في الحركات الإسلامية يتعلمون العربية من مرجعية أكاديمية لفهم أفضل لواقع منطقة الشرق الأوسط. وفي نفس السياق، قررت الحكومة الفرنسية لأول مرة أن يتم تعميم تدريس اللغة العربية في مدارسها. وهو ما يشكل في الواقع فرصة تاريخية لانتشار العربية في أوربا وعبر العالم، ومناسبة للعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الثقافة العربية الإسلامية، ولشرح قيمها الإنسانية وإشعاعها. وهي مهمة يتحمل مسؤوليتها الجميع من سياسيين ومثقفين وفاعلين اقتصاديين وجمعيات. مهمة ترتبط بالقيام بنقد ذاتي يقوم على تعزيز فكر الانفتاح على الثقافات الأخرى ومحاربة مظاهر الانغلاق، وتطوير البحث العلمي والترجمة. كما أن تصحيح هذه المفاهيم مرتبط أيضا بتراجع الطرف الآخر أي الدول الغربية عن موقف التعالي الثقافي والسياسي وعن استغلال تفوقها العسكري لفرض هيمنتها على العالم. وهو ما أنتج التيارات المحافظة والشعبوية التي بدأت تتطور وتتقوى سياسيا في أمريكا وفي أوربا. إن انتصار الديمقراطيات الغربية، وإن كان قضى على سلبيات الدكتاتوريات الاشتراكية، قد جعل، حسب المفكر الفرنسي تزفيتان تودوروف، أن “الديمقراطيات قادرة على ارتكاب تجاوزات قريبة من تجاوزات الدول الدكتاتورية” (4). والدليل على ذلك، حسب تودوروف، هي الحرب على العراق ويوغوسلافيا وحروب أفغانستان وسوريا، ثم تعقد وتفاقم أزمة الشرق الأوسط. ويؤكد تودوروف قائلا: “إن الديمقراطيات الليبرالية اليوم، مثل سابقاتها، تحتاج إلى صورة عدو لا يكون إنسانيا تماما لمواجهته وللقضاء عليه إذا اقتضى الحال، (لأنه لا توجد حرية لأعداء الحرية !)، ولكن عوض الرأسماليين والبورجوازيين، صرنا نجد الإرهابيين والإسلاميين.”

 لقد كانت فرنسا في خدمة التعددية عندما بلورت فكرة “الاستثناء الثقافي” التي سمحت قبل 20 سنة للاتحاد الأوربي بأن يتبناها خلال مفاوضات إنشاء “المنظمة العالمية للتجارة”. ويقضي هذا الاستثناء بأن يكون للمنتوج الثقافي والسمعي البصري والسينمائي وضع خاص لحمايته من التبادل الحر كباقي السلع. وهو ما تجسد في وضع قوانين أوربية تسمح بتمويل ودعم السينما، وتجبر قنوات الإذاعة والتلفزة على بث وتقديم نسب محددة، تتراوح ما بين 40 أو 60 بالمائة، من المنتوجات السمعية البصرية الأوربية لدعم هذه الأخيرة في مواجهتها للمنافسة الأمريكية ولقوة إنتاجها السينمائي والموسيقي. وقد سمحت هاته الإجراءات بالحفاظ على الهوية الثقافية الفرنسية وعلى التعدد الثقافي في أوربا والعالم. وجعلت السينما الفرنسية مثلا إحدى أكثر السينمات شعبية ونجاحا في أوربا.

 إن الانفتاح على الفرنسية وعلى لغات الآخر أساسي باعتبارها إحدى نوافذ للتعرف على الآخر وعلى ثقافته، وباعتبارها جزء من تاريخ عدد كبير من البلدان العربية ومن إرثها الثقافي والإنساني المتعدد عبر التاريخ. لكن الاختلال في العلاقة وعدم توازنها قد يولد نتائج عكسية، بحيث أنه قد يتحول إلى مس بالهوية وبمبادئ التعددية اللغوية والثقافية التي تنص عليها المواثيق والقوانين الدولية. كما قد يؤدي إلى ردود فعل عكسية تشجع على الانغلاق والتزمت. وتحتاج العناية بالعلاقة مع لغة الآخر وتطويرها إلى تقوية آليات الحوار الثقافي المتوفرة حاليا مثل معهد العالم العربي بباريس الذي ينبغي تعزيز إمكانياته وتقوية أدواره. وهو ما يمر، بشكل عام، عبر وضع استراتيجيات لغوية رصينة ومبنية على استشارة علماء اللغة والمثقفين وفق منهجية تقوم على الحوار المفتوح والتشاركي والديمقراطي.

المراجع:

• كتاب عبد الفتاح كيليطو “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء.

•مجلة لوبوان الفرنسية. عدد 9 فبراير 2017.

•انظر دراسة له في جريدة “أخبار اليوم” المغربية. 21 مارس 2016.

•تزفيتان تودوروف. مقتطف من كتاب “الفنان”. جريدة لوموند الفرنسية. 9 فبراير 2017. (ترجمة الكاتب).

بقلم: محمد مستعد

Related posts

Top