تاريخ الطيران بالمغرب.. إصدار جديد لحسن لغدش

«إن لحظة الأرشيف هي لحظة دخول عملية التأريخ غمار الكتابة.».. من خلال هذه الجملة التي تعود لِبول ريكور (“التاريخ والذاكرة والنسيان”، منشورات إسي، مجموعة بوان)، نفهم أهمية الوثيقة في إيراد الأحداث التاريخية. وانتقاء الوثائق ووضعها في مجموعات وتصنيفها هي عمليات تخضع غالبا لوجهة نظر معينة، لأن أي استحضار للماضي هو انتقائي ويبقى رهينا بالوضعية الحاضرة. والماضي عندما ينظر إليه انطلاقا من الحاضر يكون ملطفا ومعدلا ويشكل لخدمة المستقبل، وبعبارة أخرى، يكون قد تم توجيهه.

في الجزء الأول من «تاريخ الطيران بالمغرب» يختار حسن لغدش أن يرصد الزمن من خلال نظرة الآخر، لأن الوثائق الوحيدة المتوفرة مصدرها الأرشيف الفرنسي. فمن خلال وثائق فوتوغرافية وأخرى أيقونية، وشهادات مأخوذة عن مراسلات، سعى حسن لغدش إلى استرداد كرونولوجي لتاريخ الطيران فوق الأرض المغربية. فما مدى سداد هذه المقاربة الوثائقية؟ وما هي إسهاماتها في وضع تاريخ للمغرب المعاصر؟

الإشكالية التي وقع عليها اختيارنا ستنصب على تأويل العناصر المفصحِ عنها وإبراز المسكوت عنه في التاريخ. وبالتالي، فإن كان المؤلِّف يمتنع عن أي تأويل فهو يترك الوثائق رغم ذلك تتكلّم، فيصبح على القارئ أن يلتقط معنى الأحداث ويعيد وضعها في سياقها بغية فهمها.  

يمكننا أن نلاحظ من الوهلة الأولى بأن إعادة تشكيل الوثائق تندرج ضمن سلوك موضوعي خاص بأخصائي الأرشيف. غير أنه عند اعتبار الوثيقة أثرا، أي دعامة مفتوحة على التأويل، يمكن أن ندعي أن الاسترداد يستلزم إعادة بناء سياق وتأطير، وفق منظور استردادي، لوضعيات وأحداث يندرج مداها في امتداد التاريخ أو في زمنه الممتد. وتتجلى خصوصية هذا الكتاب في كونه يسلِّط الأضواء على جزء مهمش من تاريخ المغرب، لأنه من دون الطيران كان التاريخ الكولونيالي سيتخذ مجرى آخر. إضافة إلى ذلك، فإن تاريخ الطيران المدني والعسكري كما عرِض في هذا العمل ليس تاريخا للابتكار التقني، بل هو تاريخ لأناس يعملون للتحكم في الأجواء والسيطرة على أناس آخرين. لأنه، كما يؤكد باستيد (مدخل « évènement » في موسوعة أونيفيرساليس، الصفحتان 45 – 74)، «ما من حدث إلا ويكون لأجل الإنسان ومن لدن الإنسان». وبهذا المعنى، كل حدث يحيل على سلوك، وعلى سايكولوجيا وإيديولوجيا محددتين. وهكذا فبعيدا عن تاريخ إنجاز تقني، فتفعيله في أرض غير مواتية هو الذي يكتسي أهمية كبرى. يتعلق الأمر هنا بالتنويه بالوضعية الصدامية التي تبرزها الوثائق: يمكن أن نميز فيها بين فضاءين ثقافيين سوسيو – سياسيين يتصارعان. فضاء غربٍ غازٍ يجرب تقنيات غزو جديدة، وفضاء شرق يخضع بصعوبة، غير أنه منبهر بقوة الآخر.

في هذه الرؤيا الاستردادية يقترح علينا حسن لغدش مجموعة من الوثائق النصية والإيكونوغرافية ويعطيها جدارة أحداث حاسمة في تاريخ المغرب. صحيح أن النظرة المهيمنة هي وجهة نظر المستَعمِر، وجهة نظر الأجنبي المنتصر، غير أن حضور المستعمَر يمكن أن يكتسي دلالات متعددة. فما يقال دليل وأثر للمسكوت عنه. هكذا فساكنة المغرب غالبًا ما توصف بــ «العصابات المغربية» أو بــ «المجموعات المتمردة» ويتم التحامل عليها لأنها مقاومة ومعادية لوجود الآخر على أرضها. ولهذا يجب تأويل كل وثيقة وفق معنيين: فهي علامة انتصار وأثر تهديد أو خطر محدق. فاختبار تجديد تقني في بيئة صعبة (الحرارة، وتقلبات المناخ، والتضاريس، وتمرد الساكنة…) يرتبط باستراتيجية سياسية تصبو إلى الهيمنة.

في هذا المعنى، يمكن التعليق على اختيار بعض الصور الفوتوغرافية وبعض الشهادات من الفترة المعنية لتوضيح ما يمكن تسميته بالوظيفة الاستكشافية للأثر الوثائقي، ويمكن فرز مجموعتين من الوثائق دالتين:

– المجموعة الأولى تنصب على سلوك الساكنة المغربية. فتارة يتم تقديمها على أنها حشود مرعوبة ومنبهرة بهذه الآلات الطائرة التي لا تفهم كيفية اشتغالها – ليوطي نفسه يؤكد على هذه القوة المرعبة للطائرة –، وتارة أخرى يعتبر السكان كأعداء شرسين يجب الحذر منهم كما يشهد على ذلك تعرض ربانين للقتل سنة 1913، القبطان هيرفي رئيس مركز الدار البيضاء والميكانيكي العريف رولاند. وذلك ما فرض المزيد من تطوير البحث في مجال الملاحة الجوية ومتابعة التكييف التقني للطائرات مع البيئة. ومن جانب آخر، كانت الطائرة أيضا، كسلاح حربي، حاسمة في تهدئة البلد، خاصة الريف الذي قصفه الإسبان بغاز الخردل للقضاء على مقاومة عبد الكريم الخطابي.

– المجموعة الثانية تنصب على رد فعل سلطات المخزن على إدخال الطيران إلى المغرب. ورد الفعل هذا يتميز بحذر زائد، وأيضا بنوع من إدراك مجرى التاريخ. إدراك استراتيجي تجلى من خلال وضع سرب أمريكي في خدمة السلطان (سرب لافاييت المسمى أيضا السرب الشريفي). وهذا دليل على استقلالية نسبية منحت للسلطات المغربية تجاه الجيشين الفرنسي والإسباني. صحيح أن المغرب خاضع لنظام الحماية، لكن المخزن ما زال يتمتع ببعض الصلاحيات تسمح له بالتحرك. ولا أدل على ذلك من حضور السلطان محمد الخامس في مؤتمر أنفا بجانب الحلفاء.

إن تاريخ الطيران كما قدمه حسن لغدش يدعنا نقرأ بين السطور إرادة تحديث نابعة من وعي بالتأخر التكنولوجي للمجتمع المغربي.

هذه الإرادة ستتأكد مباشرة بعد الاستقلال، بما أن فرسا ستقوم بعد سنة 1956 بتكوين أربعين طيارا مغربيا بالمدرسة الجوية. وستكون هذه نقطة انطلاق لمغربة الطيران المدني والعسكري. وينوي حسن لغدش توضيح تطور سيرورة التحديث هذه في جزء ثان من الكتاب.          

يمكننا إذن أن نخلص إلى أن المغرب، وهو الفضاء الذي انتشر فيه الطيران منذ بداية القرن العشرين، ورث بنية تحتية من المطارات طورها ليتبوأ مكانته بين الدول الحديثة. علاوة على ذلك فإن الطيران ساهم بشكل كبير في رسم التصاميم الحضرية والطرق كما يشهد على ذلك العديد من الخرائط والصور الجوية التي تنهض بدور توضيحي في الكتاب.

وختاما يمكننا أن نؤكد أن عمل الأرشفة والتوثيق الذي أنجزه المؤلف بعناية يسترد جزءا من التاريخ بطريقة تجعلنا نعيش كل لحظة في إشراقتها ونكون على وعي تام بالتطور التدريجي للتجديد التقني الذي صاحب الغزو الكولونيالي والذي وجد في المغرب فضاء للتجريب ونقطة عبور نحو إفريقيا والأمريكيتين. وقراءة هذا العمل، وتأمل مختلف الوثائق التصويرية خاصة، تأخذنا إلى ثنيات تاريخ لطالما ألهم كتابا كبارا من طينة سانت إكزوبيري. تاريخ يحكي حلم الناس، وشجاعتهم وقوتهم، ولكنه يحكي ضعفهم أيضا. وسنكون قد رأينا أيضا كيف تم، عبر وثيقة الأرشيف، استرداد سلوك الناس، مشاعرهم العدائية وطموحاتهم، خستهم وعظمتهم. والمسكوت عنه يكشف عن نفسه من خلال وضعية الطيارين أمام المصوِّر، أو من خلال رسالة قائد يحث على احترام بعض متطلبات المهنة. هذه العناصر التاريخية البسيطة هي التي تصنع الحدث والتي تمنح للمقاربة التوثيقية التي اعتمدها حسن لغدش جدارتها.  

Related posts

Top