تقاطعات الإيديولوجي والعقدي في رواية “يوم ينتفض عصفور” للكاتب المغربي محمد شيكر

إنه ومن خلال هذه السردية “يوم ينتفض عصفور” التي تحل رابعا، في السلم التراتبي، بعد الباكورة: “الدجال” عام1988 ورواية “الرجل الذي لا ظل له” عام1991، و”الرافض” لسنة 2002، يتضح ملمح الأساسيات في مشروع محمد شيكر الروائي، الناهضة في الأصل على تيمات النبش في الإيديولوجي وعمق المساءلات السيسيولوجية للديني، في زمن اختلطت فيه المقومات الهوياتية وتشابهت فيه العناصر المجتمعية والحياتية، على قدر النفاق الوجودي المُشرعَن والمتفق عليه، من حقبة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل تابع.
إنه الضياع الإنساني بكل ما يحمله المفهوم من معنى، ما بين محطات الذاكرة وسرد النبوءات.
فلعل أقصى درجات الإقرار بوهم اللغة حسب سياقات المنجز الروائي لمحمد شيكر، في منح القداسة الأولى للزمن ونسب الأفضلية والأولوية له، بدل التكريس لديدن تمجيد المكان، وحتّى لا نقول عجزها،أي اللغة، أضف إلى ذلك جملة من الإنزياحات في التوجه السردي العربي الحديث، سواء أكان ذلك معماريا، أي من حيث الأبنية اللغوية والتفشي الألسني، أو جماليا يخص أسلوبيات الحكي.
كله تحقق في أجدد أعمال شيكر الروائية: كتاب”يوم ينتفض عصفور”، طبعة2021، إصدارات حنظلة للنشر والتوزيع بالبيضاء.
هي مسْرحة للزمكانية التي قد تختزلها كهذه عتبة، وتشي بها تجربة ممتدة ومتطورة ومتجاوبة مع واقع التحديات، ضمن دوائرنظير هذه السرطانية النافذة في الديني قبل السياسي، على الشاكلة التي يتمّ معها تشييء الكائن وتدجينه، وتغريب الروح فيه، وجلب الدمار للعالم.
من ثمّ، ذلكم التشاكل في المنجز، من جهة أولى ،ما بين دوال الذاكراتي وتغليب النزيف الاسترجاعي، لمحاكمة راهن تسلّطت علىه الأنانيات ” السوسيوعقدية” المريضة فشوهته بل سممته، ودوال الاستشراف في محاولة للتكهن بملامح المستقبل العربي، من ناحية ثانية.
فجوهر السرد المباهي بكهذه انشغالات وهواجس خانقة، إنما يستحقه قارئ ناقد، بدرجة أولى.
إجمالا، يمكننا تأويل هذا المنجز تبعا لسياق الواقعية في بعدين أو ضمن حدود إشكاليتين كبيرتين:

الإيديولوجي:

على الرغم من كون الرواية من حيث استحضار الأحداث تبني على تفاصيل العشرية الممتدة ما بين قبيل أواسط خمسينيات وبداية أواسط ستينيات القرن التاسع عشر، فصاحبها لم يشأ خندقتها أو حشرها في مستنقع التاريخانية المترهلة بقيود السياسي،والتي قد تحد من الحرية السردية وتضيق على السارد آفاق سكب عصارة تخضرمه في شرايين منجز باذخ حاول الجمع من خلاله مابين السحرية الواقعية والعجائبي.
نقتبس للروائي قوله:
( .. ” وكيف ستساق هذه المرة؟”.
ذكره بما قال له من قبل. إن الأمر يتعلق باختيار، ولكن بإكراه. دفعه بلده إلى استغلال فطرية وسذاجة أبناء جلدته، لينتهي به الأمر إلى شق عباب المتوسط، لتلفظه الأنوار، وينفره الجميع، لأنه لعنة تمشي على الأرض. إنه لا يصلح للاستغلال، فهو أقل من إنسان. ولا للمصاحبة لأنه يجلب النحس. تدخل الأستاذ لينبهه إلى أنه هو الذي طلب وده، قبل بصحبته. ذكره باحتضان الحاج يونس له. دعاه إلى التخلص من التشاؤم، وذكره بالمقولة المشهورة: ” للي بغا لعسل يصبر لقرص النحل”. ردّ بحسرة: بغيت نشم لعسل ونصبر لقرص النحل” ليخلص إلى القول، إنه مجبر في آخر المطاف، على تحديد موقفه، والحسم في اختيار الشخص الذي سيعمل تحت إمرته. سكت. شجعه على الإفصاح عما يخامره، وكشف اسم هذا الذي لن يجاوره، ولو وضعوا رأسه تحت المقصلة. لم يجب. أحس بعقدة في لسانه. انتابه إحساس المحكوم عليه بالإعدام. أمهله الأستاذ. ومع انحياز الدوشوفو إلى اليمين، استعدادا للخروج من الطريق السيار، أحس وكأنها النهاية، فسارع إلى البوح بما كان يخالجه:
..” لن أتاجر في الدين”.)- 1.
المتاجرة في الدين والتي تجسدها شخصيات كثيرة في الرواية، سواء في لعب أدوار بطولية أو ثانوية،في المغرب كما في بلاد المهجر على حد سواء، الحاج “قريوح” وكشخصية مصغّرة له، “الأحدب” أو” نوتردام” العابث بالعقلية الشعبوية والمخزنية سيان.
كواقع للدجل، هو الذي يفرض هذا المد الجديد من المقاربات المنذورة مثل هذه السردية لها، من ألفها إلى يائها.
يقابله أيضا واقع استغلال ثغرات القانون، استثمار السياسة خدمة للأنانيات المريضة والمآرب الشخصية الضيقة، مثلما هو الشأن مع إحدى شخصيات الرواية المتفننة في تأدية هذا الدور، وتعرية فخاخ العولمة في ما ترتبط به من قيم زائفة ومفاهيم حضارية ملغومة ودمقرطة ثقافية معطوبة.
” الهولندي” بملفه القاني وسجله الإجرامي المطبوع بلعنة امتطاء السياسي، كمافيوزي وتاجر مخدرات ومتجر في سوق الدعارة إلخ…
لعلّ من بين ما تصمت عليه عتبة الرواية، الجمع بين عاملي الزمان والمكان مع منح الأسبقية للزمن.
يوم ينتفض عصفور،فهذا الأخير جبل شاهد على ملاحم التآخي والتوأمة الجزائرية / المغربية ، في مقاومة ودحر المستعمر الفرنسي.
جدلية الحزام الحدودي ” جوج بغال” وحرب التحرير.
مدن المنطقة المنجمية مثلما تقترحها الذات الساردة، المذعنة جملة وتفصيلا لطفولة البطل البعيدة والموغلة جدا، بعد أن تحاول تحريضها وتأجيجها في أعماق الخليل شريك الحياة، الزوجة الوفيةوالتقدمية” وسيلة” التي تشرّبت روح الحضارة الغربية فتبينت صالحها من طالحها،واختمرت نظرتها للذات والغيرية والعالم.
ويظل السؤال الوجدي المؤرق هو:
بعد خلو الحزام الحدودي من ألغام العدو، لم لا يتم تحويل ” جوج بغال” إلى “جوج فاقو”..؟
وبالتالي تطليق نطاق السبات المغاربي وقد طال أمده، وتخطيه إلى صحوة تقوي شوكة الجيران وتربك حسابات وكيد المتآمرين على مستقبل المنطقة مغاربيا وعربيا حتى.
بتوجيهاته الحكيمة، استطاع الأستاذ” بولويز” مساعدة “نوتردام” في حسم قرار الانضمام إلى صف الهولندي، فبدأ كتلميذ له،وساعده الأيمن، قبل أن يذوب الهولندي فيه هو ويصبح صاحب الكلمة العليا في تسيير مشاريع أستاذه، القانوني منها وغير القانوني.
ما يفتأ السارد يؤنسن منظومة ما انتقى لسرديته من عناصر، فيضفي على اللعبة الطابع الغرائبي، مُملِّحا بذلك أسلوب جرده للأحداث في انفتاحها الكبير على نثار الذاكرة، نكتفي تدليلا على ذلك بحواريته مع جبل عصفور الشامخ والعصي على عوامل التعرية والمسخ، على مرّ السنين، كرمز للتلاحم المغربي الجزائري ضد إمبريالية القوى الغاشمة.
نورد له أيضا الحضور شبه الأسطوري لــ ” ليتيم” هذا الحيوان الأليف الذي كاد يتبوأ المراتب الخرافية، لولا أنه عاش كلبا بين ساكنة ” توسيت” متسكعا في دروب القشلة من الجهة الشرقية للمغرب، بل ومحبوبا أيضا، لاعتقاد الجميع أنه جنيا اختار أن ينحاز لجبهة العدالة فيحارب مع المغاربة والجزائريين ضد فرنسا.
أيضا، علاقة الأستاذ “بولويز” بسيارته “الدشوفو” والتي كان يحلو له تسميتها بالمحبوبة.

العَقدي:

يمكن القول أن الرواية اكتست فنيتها وقيمتها الكبيرة من إيقاعات الجرأة والوعي بضرورة فض حجب التابو، بحيث نجدها غاصت إلى حدّ كبير في لغة الفضح واستنطاق المحظور.
وقد نبهنا السارد إلى هذه الحتمية منذ البداية، مشيرا إلى أنه وجب عدم الخلط بين الدين والتدين، فأفلح بذلك في وضع المتلقي في صورة شفافة للصراع الحقيقي، مثلما ترسمه انثيالات الطفولة العميقة والمنوّمة في المبدع.

نقتطف للسارد قوله:

{ انتهى به التفكير إلى القبول بولد تلده له زوجته، فيكبر في كنفه، ويحمل اسمه، ويجعل محيطه ينظر إلى أسرته، نظرة طبيعية. لكن، كلما تطرق إلى الحل، كلما اجتاحته قشعريرة. كان يرى ألا خيار أمامه غير الإتيان بما هو محرم شرعا، وممنوع قانونا. لاحظ عزوز القصاصبي بأن القانون لا دخل له في هذه النازلة، ما دام الأمر لا يتعلق بالخيانة الزوجية. لن تأتي زوجته بفاحشة في غفلة منه. أما رأي الشرع فيها، فالمعلم “سي لهبيل” الذي كانا يترقبان وصوله من حين لآخر، وحده المؤهل للفصل فيها لسعة علمه. خيّم صمت الذي لا حول له ولا قوة، على الغرفة، كانت جدرانها تتمايل أمام أعينهما، وتتراقص بعد أن امتلأت دخانا. وما هي إلا لحظات حتى كسرت دقات الباب هذا الصمت، معلنة وصول كودو…}(2).
بمعية “مادام دوفال” وابنتها “ماري لويز” العائدة للتو من زيارة خاطفة للمغرب، سقت الطرف منها بعجائبه، يبوح الأستاذ بسر خطير ليحيى، الملقب ب” ولد مو”، فيصدم هذا الشاب بكون” نوتردام ” والده الفسيولوجي، فيخبره بالقصة كاملة، قصة عقم الرجل الذي أمضى عمرا يعتقده منجبه،وقد خضع لضغوط والدته وإحراج المجتمع له والتشكيك بفحولته، ما اضطر المسكين أخيرا للتبرك ب” نوتردام” ولي القشلة وصالحها الأول.
إنه فخ التدين بامتياز، في قابلية التجاوب الأعمى مع خطاباته المقنعة بلغة التدجيل والاتجار بالدين.
يحار بطل الرواية وهو يسافر في الزمن إلى طفولته البعيدة جدا، فيكتشف هذه المفارقة الصارخة بين جيلين أحدها احترم الوقت واستثمره حد القداسة ، أما الثاني فيمني النفس بقتله،أي الوقت، مواريا حجم الانتحار النفسي الذي بات يعيشه، وذروة تخبطه التخبط العشوائي، متعثرا بخيوط سمّ العقدي، ضمن متاهات لا تحصى.
يحاول يحيى أن يصنع لنفسه مستقبلا ورديا في المهجر، بدعم وتوجيه من والده ” نوتردام” وكذا الشابة ” ماري لويز” في توددها له باستمرار، ومن غير مهادنات ولا كلل.
تبقى نهايات جل شخوص الرواية مفتوحة، مشرعة على العديد من التأويلات والقراءات، في غمرة تقاطع الإيديولوجي بالعَقدي، والعكس بالعكس تماما.
خلاصة القول أن هذه السردية في نزوعها السيرذاتي، استطاعت أن تمزّق أقنعة الأيديولوجي وتكشف مدى الزيف المنطوية عليه المؤسسات السياسة في المجمل. مثلما أفلحت في مقامرات اقتحام التابو المغلف والملغوم بغوايات العَقدي ومعسوله.
ففضلا عن كون الرواية حققت التشويق والإثارة المؤجلة التي تربط المتلقي بفصول لا تنضح بأسرارها جملة واحدة، بل تسوّف المتعة والتشويق، كما تشي بذلك العنونة، نلفي المنجز وقد حقق الغرض العام من توجهات السرد العربي الحديث، فأضاء ذلكم التقاطع المتماهي وثقافة الممنوع في نقاط التقاء أو بالأحرى اصطدام الإيديولوجي بالعَقدي.

هامش:
(1) مقتطف من فصل الرواية الحادي عشر،صفحة112/113.
(2)مقتطف من فصل الرواية الثالث عشر، صفحة138/139.

< بقلم: أحمد الشيخاوي

Related posts

Top