حرب الذاكرة بين فرنسا والجزائر

حلّت في الخامس من يوليوز 2017 الذكرى الخامسة والخمسون لاستقلال الجزائر. ولاشك أنها ذكرى غالية على الجزائريين والعرب، والكثير من أحرار العالم. غير أن الحديث عنها في الوقت الراهن يتطلبَّ نوعا من المحاسبة والمساءلة، وذلك من أجل استنهاض الذاكرة الجماعيّة لاستحضار القيم الكبرى التي قامت من أجلها الثورة الجزائرية، بل وقامت من أجلها حركات التحرّر في العالم أجمع.
وهي مناسبة لتذكير من ينتفضون ويسعون إلى التغيير في دولنا العربية بما قد تؤول إليه ثوراتهم في المستقبل من جهة ثانية، هذا على فرض حصول تغيير شامل تستقرّ فيه الأوضاع وتعود الدولة القطرية إلى سابق عهدها، أي مؤسساتية، بغضّ النظر عن طبيعة الحكم الذي سيسود، وعلى النقائص التي سَتَصحب الواقع الجديد.
لقد تعدّدت الكتابات وتنوّعت، من قبل جزائريين ومن غيرهم، حول الأهداف التي تحققت منذ الاستقلال إلى الآن. وطغى على هذه الكتابات إبراز السلبيّات على الإيجابيّات، وربما دون قصد جاءت المقارنة ظالمة وغير عادلة بين المشروع الوطني الذي طرح في بيان ثورة نوفمبر وأدبياتها من ناحية، وإقامة الدولة الوطنية بما فيها من سلطة وجيش وأمن ومؤسسات أخرى مختلفة ومشاريع تنموية وعلاقات دولية من ناحية ثانية، خاصة وأن المقارنة أخذت في الاعتبار التجارب الخارجية، وخاصة الفرنسية، لذلك علينا ألّا ندخل من جديد في لعبة التنظير القائمة على التقليل أو التضخيم من مخرجات الفعل السياسي، لقادة أبلوا البلاء الحسن في الثورة، ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا في العمل السياسي لنقص التجربة عندهم في هذا المجال.
لا يمكن لنا اليوم أن نتحدث عن تجربة الاستقلال في الجزائر، بعد انتصاف عقدها السادس، دون ربطها بالعلاقة مع فرنسا؛ تلك العلاقة التي تعمقت بعد الاستقلال، في محاولة نديّة من المسؤولين الجزائريين، تجاوز بعضهم الزعماء الفرنسيين في حالات قليلة، وكان أغلبهم الأضعف في معظم الحالات، وكلا الطرفين -الجزائري والفرنسي- على ما يُبديان من علاقة ودّ ظاهرة، وهي تحمل داخلها كراهية مستترة، لم يعملا بجديّة من أجل الوصول إلى أهداف مشتركة لدولتين مستقلتين معاصرتين، يحركهما الحاضر في غاياته وأهدافه. نتيجة لذلك تحوّل ميراث الماضي إلى ورقة ضغط يتم استغلالها في الدولتين خلال كل استحقاق انتخابي، أو أثناء حركة الشارع احتجاجا على الأوضاع السيئة بالداخل، سواء في الجزائر أو في فرنسا.
الماضي المشترك لا يزال مهيمنا على الحاضر، وسيبقى لأجيال قادمة، ما دام الطرفان يصرّان على عدم حسم القضايا المصيرية، مع أن النشاط المؤسساتي للعلاقة بين الدولتين يشي كل مرة بالوصول إلى حلّ للمشكلات العالقة منذ عقود، وعادة ما يرفق بتصريحات في الجزائر أو باريس مطمئنة للشّعبين، ليفاجأ كل منهما بعد مدة بموقف مختلف، وعلى خلفية هذا التغير يمكن لنا قراءة تصريحات وزير المجاهدين الجزائري الطيب زيتون، عشية إحياء الذكرى الخامسة والخمسين للاستقلال، إذ أعلن عن استئناف عمل اللجان المشتركة الجزائرية الفرنسية بخصوص ملف استرجاع الأرشيف الوطني.
جاء تصريح زيتوني على هامش ندوة حول “العنف الاستعماري الممنهج”، نظّمها المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954.
ويبيّن عنوان الندوة عدم التقارب بين الجزائر وفرنسا، لأن الأخيرة لا تعترف بكل الجرائم التي قامت بها في الحقبة الاستعمارية وأثناء ثورة التحرير، في حين تصر الجزائر على مطالبتها بالاعتراف، بداية من تسليم الأرشيف الوطني وجماجم الشهداء، وليس انتهاء تعويضات ضحايا التفجيرات النووية في الجنوب الجزائري والمفقودين.
ما ستدرسه اللّجان المشتركة ليس جديدا، كما أن التعويل على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته إلى الجزائر كمترشح للانتخابات الرئاسية يدخل في سياق الخطاب السياسي للرؤساء الفرنسيين، ولم يتحقق منه شيء يذكر، وربما لهذا تنتظر الجزائر، كما قال وزير المجاهدين، “تطبيق التصريحات المسجلة”.
الوزير الجزائري رغم مطالبته بتطبيق التصريحات المسجلة للرئيس ماكرون أثناء حملته الانتخابية، يبدو أنه يراهن “على تصريحات المسؤولين الفرنسيين، حيث لاحظ، على حد قوله “وجود رغبة في دراسة هذه الملفات من جديد، انطلاقا من نتائج عمل اللجان المشتركة”، لكنه شدد على أن “علاقات فرنسا بالجزائر مرتبطة بالأساس بحل الملفات العالقة.. وأن الكرة الآن في مرمى فرنسا، وإذا أرادت أن تكون هناك ثقة في العلاقات بين البلدين فعليها حل هذه الملفات”.
هذا النوع من الخطاب الرسمي الجزائري محلّ نقد من عدة أطراف وقوى فاعلة داخل المجتمع الجزائري، أولا لأنه مكرر، وثانيا لأنه يطرح كل مرة ولا يتنهي إلى مطالبة جادة تؤثر على العلاقة بين البلدين خاصة في المجال الاقتصادي، وثالثا لأن معظم الجزائريين يرفض تعويض فرنسا لأن فيه شراء للثورة، وبالطبع هذا لا يشمل ضحايا التفجيرات النووية في رقان بالجنوب الجزائري.
مهما تكن العلاقة بين الجزائر وفرنسا في الوقت الحاضر، فإن هناك شعورا عاما لدى الشعب، مفاده أن المسؤولين الجزائريين، لم يظهروا بنفس القوة الني كان عليها الثوار أثناء حرب التحرير، وقد يعود ذلك إلى تغير الظروف وإلى أن العمل العسكري يختلف على المفاوضات السياسية، وفي ظل تراجع ملحوظ على جميع المستويات يتخوَّفُ الكثير من الجزائريين من أن تنتهي المفاوضات حول الأرشيف الوطني لصالح فرنسا، مادامت المصالح المباشرة لبعض المسؤولين الجزائريين، في باريس وليست في الجزائر.

خالد عمر*

* كاتب وصحافي جزائري

 

Related posts

Top