قراءة في مجموعة “سراب لا يرى” للكاتب المغربي محمد أكراد الورايني

أصدر الكاتب المغربي محمد أكراد الورايني كتابه الشذري الأول “سراب لا يُرى”، وهذا الإصدار هو الثاني له بعد مجموعة قصصية مشتركة بعنوان “نقش في الحرف”، العمل الذي قدّمت له وترجمته المترجمة المغربية حبيبة الزوكي، صدر عن دار الوطن للنشر الوطن، ويقع في 84 صفحة من الحجم المتوسط، جاءت جميع نصوصه تحت مظلة عنوان الغلاف؛ فلا عناوين لها تحملها، بل جاءت خلوا منها لتكون جميعها تحت سلطته الوحيدة.
تتراوح نصوصه الشذرية بين الانغلاق على الذات المبدعة كبداية، لتخلق لها وجودا كونيا موازيا لتفاعل الذات مع الأشياء من حولها.
تقول حبيبة الزوكي عنه: “إن الشذرات الشعرية للكاتب جاءت مقتضبة ومكثفة، تكشف عن ذات الشاعر وتحملنا إلى سدرة معانيه. شعره تأمل وجودي ينتصر للحياة ويعيد طرح إشكالية الموت وهذه الحياة…”، مضيفة: “إن الترجمة شقيقة الشعر من حيث هو وجهة نظر في الحياة، فهي سفر بين المعنى والمقاصد، وهي أيضا نافذة نطل منها على شعراء يتحدثون لغات أخرى بفضلها نكتشف كيف يفكك الشعراء طلاسم العالم وماهيته..”.
يعكس الديوان شفافية المبدع في علاقته مع الصداقة التي يرفعها كقيمة عاليا في علاقته مع أصدقائه، في مقابل الخيانة والخذلان كأفقين يصطدم بهما في الواقع.. وهما ثيمتان أساسيتان في هذا العمل إلى جانب ثيمات أخرى.
أشار الناقد محمد الطويل إلى أن نصوص المجموعة تشكل وحدة نسقية على شكل قصص قصيرة جدا مترابطة، مختزلة إلى درجة عالية، وأن كل مقطع يحيل على لحظة أو مشهد أو صورة أو موقف أو إحساس شعوري خاطف وفق إيقاعات خفيفة الإيقاع والصورة والوحدة العضوية.
تشعرنا نصوص المجموعة بتوتر الشاعر وقلقه في رحلته الوجودية، قصد القبض على المعنى الهارب دوما، والمنفلت باستمرار، وبرغبة الكشف عن المختبئ وراء الأشياء والمظاهر؛ قلق وجودي وسعي حثيث نحو الحقيقة والإمساك بها، فبلوغها سيخفض التوتر النفسي، ويهدئ الأسئلة الحارقة التي تسكن الذات. علما بأن البحث عن الحقيقة والحقيقة المطلقة لا يمكن الوصول إليها ما لم يتصورها العقل أو الحواس التي لا تستطيع معرفتها، لذا تبقى بعيدة عن المعرفة.
ويسعى الشاعر في نصوصه إلى جعل القارئ طرفا أساسيا في هذه الرحلة بل إنه يضعه في موضعه، ويجعله مسكونا بأسئلته، راغبا هو الآخر في البحث عن الحقيقة.
يريد الشاعر من القارئ أن يكون رائيا، يستطيع كشف الحجب، وإدراك حقيقة الأشياء، ويقبض على جمرة الحقيقة. يريده أن يرى ما لا يرى، يرى السراب الذي يقود الناس إلى حتفهم، يستطيع معرفته بإدراك كنهه. يريده أن يرى بعينه الداخلية غير المرئي، أن يبصره واضحا وجليا.
ويمكن تقسيم نصوص العمل إلى ثلاثة محاور، وهي: محور الطبيعة، ومحور المرأة، ومحور الذات.
محور الطبيعة:
“أيها السياج تنحّ جانبا
ودع الحديقة تتقدم”
فالنص الذي استهل به الديوان هو لأحد أصدقائه التونسيين اعترافا جميلا، ويتقاطع مع اهتمامات الشاعر ونظرته الجمالية للوجود والإنسان، يشي بما يسكن ذات الشاعر من توق إلى الحرية ورفض القيود المكبلة أيا كان نوعها، ولكون النص رمزيا، فالحديقة يمكن أن تكون الطبيعة والإنسان معا، بل هي طبيعة الإنسان الأولى التواقة للحرية منذ الولادة، والسياج هو المعرقل لذلك المسعى، والمحبط لتلك الرغبة، ولن يكتمل الإنسان إلا بمعانقة حريته عبر كسر السياج/القيد. وإذا اعتبرنا الشاعر رائيا يمتلك خاصية الرؤية المستقبلية دون غيره، فإن الأمر الوارد في النص سيكون واجب التنفيذ؛ لأن الحرية لا يمكن اعتقالها، فالفعل ضد طبيعة الأشياء، وما كان كذلك فنهايته الكسر لا محالة.
ثم إن الأمر تكرر مرتين بكلمتين مختلفتين، تصبان في المجرى ذاته، هو الابتعاد حتى تتمكن الحديقة من التقدم، والتقدم ضرورة وحتمية، فمن العبث الوقوف في وجهه عبر القيام باعتقاله.
نص من سبع كلمات يمتلك جمالا وسحرا، ويختزن تاريخا ضاربا في العمق، ثم إن النداء بـ “أيها” دليل غياب السمع ومن ثم التعقل لدى من وضع سياجا بهدف عرقلة الحديقة/التاريخ. هو نداء لغير العاقل حتى يعقل ويتعظ.
وفي النص التالي:
“وحدهما البستاني والفراشة
يهمهما نبض الورد” ص59
ندرك أن الجمال المتمثل في الورد لا يدركه إلا الملتصق به، المدرك لأبعاده، والشاعر بنبضه، ومن جملتهم الشاعر الرائي الذي يحب الانعتاق؛ انعتاق الروح لتعانق منابعه.
وحين يقول:
“سيظل القمر جميلا
مادامت لا تصله
غير أعيننا” ص65
سيتأكد لنا ميل الشاعر إلى منابع الجمال في صفائها قبل أن تلوثها الأقدام الرعناء. فالقمر سيظل ببهائه وجماله حين لا تدركه سوى الأعين وتلهج بحبه القلوب، وحرف السين يشير إلى الاستمرارية في الزمان كما في المكان، معبرة عن المشاعر المفعمة بالأمل والحرية معا، ولذا، قلنا إن نظرة الشاعر للوجود والإنسان تتقاطع ونظرة صديقه الذي استهل به العمل؛ نظرة ذات معنى عميق يعبر عن فلسفة الشاعر للحياة في مجملها.
محور المرأة، وينقسم بدوره إلى قسمين؛ قسم الانسجام، وقسم اللا انسجام؛ فقسم الانسجام جاء بفعل التناغم والتواصل، أما قسم اللا انسجام فكان بفعل اللا تواصل وغياب التناغم. ونلمس هذين العنصرين من خلال النصوص التالية:
“تعالي حبيبتي
نموت فينا
ونجنب الموت
اقتراف إيلامنا” ص17
وأيضا:
“سيدة النبص أنت
نظراتك قاتلة
حد الحياة
فيك العطاء
ومنك كل الأخذ” ص18
ندرك، من خلال النصين، مدى التواصل الانسيابي بين الطرفين، والتناغم الكبير بينهما. وحضور الموت في النصين تعبير عن الحياة، فهو ميلاد جديد يعبر عن الخصب والاخضرار؛ كما يعبر عن الأخذ والعطاء. وفيه إرادة تحدي الموت، إذ عملية التواصل والانصهار لا يمكن إلا أن تكون عنوان حياة دائمة، وهو ما يؤكده ببلاغة نص ص19 حيث يقول:
“رصاصات شفتيك
ترديني حيا
أنا الميت الآن”
فالانزياح لعب دورا مهما في خلق الدهشة الناجمة عن التعارض البين لدى القارئ بين الرصاصة والحياة، لكنه تعارض زائل لكون الحب أقوى من الموت، لأن فيه إرادة الحياة.
والحبيبة المطلوب منها الاقتراب والدنو، تمثل الحياة في أبهى جودها، تعطي بغير حساب، وهي نبع الأخذ بسخاء.
أما حين يقول:
“عذرا حبيبتي
سأنأى ببياضي
فقلبك أشد سواد
من ليالي الشتاء” ص36
وكذلك:
“كنستني منك
واحتفظت بالمكنسة
تحسبا لعودتك” ص47
فإننا نلمس غياب التواصل بين الطرفين، يضاد النصوص السابقة المعبرة عن التناغم، وماذاك إلا لكون الطرف الثاني في المعادلة يفتقد النقاء والصفاء، وهما صفتان تتعارضان والحب العاشق للنقاء، ف:
“الحب ذنب
لا يقترفه
إلا الأنقياء” ص45
فهذا النص المدهش بما يختزنه من معاني السمو، وبطريقة بنائه المعتمد على الانزياح من جهة، وعلى التناص من جهة أخرى، ينهض حجة على رغبته في مفارقة الطرف الثاني غير القادر على اقتراف ذنب المحبة بما أنه لا يمتلك الصفة المؤهلة لذلك ألا وهي النقاء.
محور الذات:
تسعى الذات الشاعرة إلى البحث عن المعنى الثاوي وراء المظاهر الزائفة بغاية التصالح مع نفسها، بخفض التوتر الناجم عن الخواء الذي تعيشه في زمن الخداع والزيف والكذب، نلمس ذلك في قوله:
“كان عليكم مساعدتي
في خلع حذائي
مادمتم قد صادرتم الطريق” ص54

فالحرقة جلية في هذا النص؛ حرقة تعبر عن حزنه من فعل المصادرة، ورفضه لسلوكهم الزائف والمخادع.
فالشاعر إنسان صادق لا يحب الالتواء في السلوكات والعلاقات، يقول:
“أكره اقتراف الخطإ
لأني لا أجيد الاعتذار” ص52
هذا اعتراف صريح بأن الذات لصفائها تتجنب اقتراف الأخطاء، وإساءة المعاملة لكونها من معدن صاف. ومن هنا ينبع شقاء الشاعر، ومعاناته، يقول:
“بالداخل كنت أكابد ظلمتي
وبالخارج كان البدر
يذرف ضوءه” ص61
المقابلة بين الداخل والخارج كانت قوية الدلالة، ومعبرة أشد ما يكون التعبير عما تكابد الذات بين العالمين؛ فالشاعر يغوص في ذاته ليبدد ظلمتها بماء البدر حتى يستعيد سلامه الداخلي، لقد وجد في البدر عزاء وسلوى، لم يجدهما في الأصدقاء والخلّان.
هو سرد بضمير المتكلم ينكفئ على الذات من الداخل ليفصح عن مشاعرها الباطنية، مشاعر الخوف والقلق في مواجهة الذات للآخر ولنفسها في الآن ذاته.
وعن التقنيات المعتمدة من طرف الكتاب، نجد توظيف الثنائيات الضدية، اعتمادا على قاموس خاص أبرز صراعا مع الذات، ومع النفس، والآخر، من ذلك قوله:
“أناشدك الصمت
حتى أسمع ضجيجك” ص41
هي ومضة النضج والدهشة في أنقى معانيها، بل هي اكتمال المعين الشعرى، وهي قصيدة الصمت الإيجابى، وميض برق خاطف في فضاء النص الشعري، نهض على المقابلة المعبرة بين الصمت والضجيج، وحيث يصير الضجيج لغة أفصح من الكلام.

وأيضا، في هذا النص:
“هش أنت أيها الفرح
قليل الحزن يكسرك” ص43
حيث تحضر فيه مفارقة عميقة المعنى، متعددة الدلالات، بين الفرح والحزن، وبين القوة والضعف.
فضلا عن انطلاق النصوص من الجزء نحو الكل، ومن الوهم نحو الحقيقة:
“مُرّة هي الحقيقة
العسل كل العسل
لعقه الوهم” ص42
كتابة اعتمدت على التناص في بعض أجزائها مع الخطاب الصوفي، نص ص46، ونص ص12، على سبيل المثال.
كما أن الشاعر قد نهل من حياض الفكر الوجودي من خلال قوله: “أحسني أرغب في شيء لا أعرف ما هو، وإحساسي ينبئني أني لا شيء”.
شذرات محمد اكراد الورايني هي بحث مضن وشاق عن طريق يوصل للحقيقة، تمكنه من تحقيق توازنه النفسي وسلامه الروحي، لذا، فالكتابة لديه فعل وجود: “أنا أكتب إذن أنا موجود”.
بتقتير لغوي مع فيض معنى، جاءت شذرات/وميض محمد أكراد الورايني لتعبر عن الخارج وفق إيقاع الداخل بتقنيات مستمدة من القصة القصيرة جدا، حيث حضور الفعل الذي يحقق للمشاهد الحركة، وتوظيف ذكي للمفارقة سواء أكانت من داخل النص أم بين النصوص، بلغة مقطرة بعيدة عن الزوائد، مما منح النصوص رشاقة وخفة وحيوية بعيدا عن الشحوم والزوائد المبطئة لسيولة المعنى؛ وقد اعتمد الشاعر على ضمير المتكلم بغاية استبطان الذات، والتعبير عما يعتمل بها من مشاعر وأحاسيس متنوعة، دون أن يعني ذلك الاهتمام بالذات الفردية، بل للتعبير من خلال الخاص عن العام، مستفيدة من المفارقة الدالة والتناص المثري.
لهذا، جاءت شذراته/ ومضاته الشعرية كلحظة أو مشهد أو موقف أو إحساس شعري خاطف مر في مخيلته أو ذهنه، فصاغه بألفاظ قليلة، معبرة عن همومه وآلامه، فكانت مناسبة في شکلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحکم حياتنا المعاصرة.
وقد تميزت بالتفرد والخصوصية، والترکيب الدقيق، والوحدة العضوية، مع الإيحاء وعدم المباشرة، كما تفردت بالاقتصاد في الإيقاع والصورة و اللغة والفکرة.

> بقلم: عبد الرحيم التدلاوي

Related posts

Top