حينما تحل الذكرى العشرون لوفاة قامة سياسية من حجم الراحل علي يعته، زعيم التقدميين المغاربة وأحد مؤسسي حزب التقدم والاشتراكية، الذي وافته المنية يوم 13 غشت من سنة 1997، لا يمكن أن نجد أثرا أبلغ تعبيرا من التذكير برصيده النضالي الذي خاضه من أجل قضية استكمال الوحدة الترابية ومغربية الصحراء، فقد كانت تشكل شغله الشاغل، بل جوهر القضايا التي تملكت كيانه وروحه ووجوده، أظهر عبرها عن كارزمية طلائعية في التفكير وعن عزيمة وتفاني في العمل خدمة للوطن أولا، لا مثيل لهما.
فبقدر ما ناضل الراحل علي يعته، من أجل تثبيت دعائم الحزب سواء في مرحلة السرية أو بعد العلنية عقب الحصول على المشروعية ومواجهة مراحل عسيرة في مسار حزبه – إذ لم تكن الأرض مفروشة بالورود كما يقال – بقدر ما جعل من قضايا التحرر والوحدة، مركزا لتفكيره واجتهادا منه منقطع النظير، بل ومركزا لنضاله ومحورا للجولات التي كان يقوم بها للبلدان الاشتراكية ويلتقي فيها بقادة هذه الدول وقادة وأطر الأحزاب الشيوعية واليسارية عموما.
وحينما تسأل عن هذا الجانب النضالي، رفاقا جايلوا علي يعته كمؤسس وقائد للحزب الشيوعي المغربي، والذي بحكم تطورات الواقع السياسي غير اسمه ليحمل «اسم حزب التقدم والاشتراكية»، أو تسأل حتى الرفاق الذين انتموا لاحقا للحزب، لكنهم من المتابعين والمواكبين لتاريخ هذه الهيئة السياسية منذ البدايات التأسيسية الأولى، وقادته، فإنهم يجمعون أن القائد الراحل الذي كان الجميع يناديه بـ «سي علي»، جعل من قضية الوحدة الترابية المغربية القضية «المركزية» الأولى في فكره السياسي، وكانت عنصرا جوهريا وأساسيا في مساره النضالي، واعتبارا لذلك شكلت موضوعا لإنتاج فكري غزير قام به الراحل، شمل إنجازه لدراسات، و مقالات بل وكانت «القضية الوطنية» حاضرة وبقوة في أغلب الخطب والتقارير التي تقدم بها في جميع المؤتمرات الحزبية ودورات اللجنة المركزية لحزبه.
وهذا ما يجعل علي يعته أحد القادة السياسيين الطلائعيين على هذا المستوى، فقد كان سباقا إلى وضع مقاربة تحليلية وتصوره لإحدى أعقد القضايا التي لازال المغرب يعيش فصولها، وهذا تدل عليه مضامين الدراسات التي أنجزها والتي حملت إحداها عنوان «صحراؤنا المغربية» وهي صادرة سنة 1961، كما أصدر عدة مؤلفات بينها كتاب بالفرنسية سنة 1973 عنونه بـ «الصحراء الغربية المغربية» لكنه تعرض للمنع، «حيث أكد فيه على مغربية الصحراء، إذ كانت المنطقة وقت تقسيم المستعمرات تشكل مع المغرب كيانا اقتصاديا ودينيا واحدا».
كما نبه بشكل استباقي في ذات المؤلف، لخطورة عدم «تبني الحل الذي يرغب فيه المواطنون ألا وهو تحرير الصحراء المغربية من الاستعمار وعودتها إلى الوطن الأم بدون أدنى مساومة أو تنازل»، داعيا من أجل الحفاظ على وحدة المغرب التاريخية، إلى تحويل المغرب إلى قطب اجتذاب وقدوة، وذلك عن طريق الاستقلال السياسي والاقتصادي وتشييد الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهذا يقتضي الوحدة بين كافة القوى الوطنية التقدمية، حسب منظور القائد الراحل علي يعته.
وقال إسماعيل العلوي رفيق درب الراحل، الذي كان قد تسلم مشعل الحزب بعد أن خطفت يد المنون في حادثة سير جبان روح فقيد حزب التقدم والاشتراكية، «إن السي علي كان شخصية قوية ومتعددة الجوانب والمهارات، كرس حياته رفقة رفاق كانوا إلى جانبه للحزب لقضايا الوطن والشعب، إذ وضع المصالح العليا للوطن والشعب فوق كل اعتبار، وكان له قسط وافر في إغناء رصيد الحزب من التحليل النظري الرفيع، والتجديد الفكري المتواصل والصياغة الدقيقة والجريئة للمواقف السياسية المناسبة عند كل حدث أو مناسبة»، وفق ما تضمنته الكلمة التي ألقاها إسماعيل العلوي، خلال المؤتمر العاشر لحزب التقدم والاشتراكية .
وإسماعيل العلوي، الذي يشغل حاليا منصب رئيس مجلس الرئاسة بالحزب، يبرز في مذكراته، من خلال هذه التعابير، النهج الذي خطاه علي يعته في مقاربة مختلف القضايا السياسية والوطنية، خاصة قضية التحرر والوحدة الترابية، وهو النهج الذي طبعته الدقة والجرأة المناسبة، بل والتجديد في الطرح والتحليل الرفيع، بالنظر لطلائعية التصور الذي قدمه آنذاك الراحل لهذه القضايا، وكان استباقيا بما للمعنى من مضامين إيجابية بناءة.
وذكر إسماعيل العلوي بوقائع رافقت إصدار الراحل علي يعته لكتابه حول الصحراء الغربية المغربية، قائلا في إحدى فقرات مذكراته «كان لي شرف تقديم الكتاب بمقر اتحاد كتاب المغرب بزنقة سوسة بالرباط لممثلي السفارات الأجنبية وممثلي الصحافة الأجنبية المعتمدين بالمغرب»، كاشفا أن صدور الكتاب رافقته شكوك وريبة عميقة وأفتي على دوائر القرار بضرورة منعه من التداول، وذلك ما حصل، لكن من سخرية القدر، يوضح المتحدث، «أن الدولة نفسها بعدما حجزته ومنعت تداوله قررت التكفل بنشره فيما بعد، لما تنبهت إلى قيمته الحقيقية بشأن مشكل الصحراء»، يردف إسماعيل العلوي.
في حين أكد عبد الواحد سهيل عضو الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، أن قضية استكمال الوحدة الترابية كانت تشغل بال علي يعته، في كل آن وحين منذ عرفته، وبحكم أن الراحل كان أمميا وفيا، فقد جعل من قضايا نضال الشعوب ضد الاستعمار والامبريالية والنازية والفاشية ومن أجل تحررها، معركته ومعركة حزبه على الدوام. فكان القائد الذي لا يتوانى ولا يتردد في التضامن بدون كلل ولا ملل، وكان في ذلك وفيا للتقاليد العريقة للاشتراكية كفكر وممارسة تضامنية وإنسانية التي آمن بها وعمل على تلقينها لرفاقه في حزبه.
وبنفس الثبات كان علي يعته يحرص على استقلال قرارات حزبه داخل الحركة الشيوعية والعمالية التي كان عضوا نشيطا فيها، واعتبر دائما أن النهج الاشتراكي تعددي بحكم تعدد تجارب الشعوب، وعلى هذا الأساس تمكن من الدفاع بعمق وبكارزمية عالية عن مغربية الصحراء.
أما رشيد روكبان عضو الديوان السياسي، الذي ناقش مؤخرا أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية، جعل موضوعا لها «الفكر السياسي لعلي يعته – دراسة تأصيلية»، فيؤكد أنه «ليس من قضية أكثر أهمية من قضية الوحدة الترابية المغربية، فقد شكلت أم القضايا عند علي يعته، تملكت كيانه وروحه ووجوده. حتى أنها تفوقت، من حيث الاهتمام بها والترافع بشأنها على كل القضايا بما فيها القضايا ذات الطابع الإيديولوجي».
وأشار في هذا الصدد أن الراحل اعتبر القضية «مصيرية» وجعل منها محور النضال من أجل استكمال التحرر الوطني، إذ لم يكف أبدا عن الدعوة والمطالبة باستعجال استكمال معركة تحرير البلاد واسترجاع الأقاليم والثغور المحتلة.
وأبرز المتحدث كيف تمكن علي يعته من التعبير بشكل دقيق وتقديم جواب متميز بشأن «مسألة تقرير المصير»، بحكم انتمائه لمنظومة فكرية يسارية تقوم على أساس نظرية الاشتراكية العلمية وتؤمن بأحقية الشعوب في اختيار قراراتها بكل حرية واستقلالية، وتدافع عن مبدأ «تقرير المصير» الذي صار أحد المبادئ المؤسسة لميثاق هيأة الأمم المتحدة.
وأفاد أن علي يعته قام في هذا الاتجاه بإنجاز دراسة تحت عنوان «صحراؤنا المغربية»، صدرت في نونبر 1961. حيث كانت المناطق الصحراوية المعنية، في ذلك التاريخ، مستعمرة من طرف إسبانيا، وأبرز من خلال ذلك رغبة السكان في استرجاع أراضيه المحتلة، و»عودتها إلى حظيرة الوطن» واستكمال وحدة المغرب الترابية القائمة بقوة الطبيعة والتاريخ والقانون وإرادة الشعب المغربي قاطبة.
واعتبر روكبان أن علي يعته قصد بتوظيفه لعبارة «أكدته رغبات السكان» التعبير على قناعات راسخة لديه، وهو توظيف واع، يجعله منسجما إلى غاية هذه اللحظة مع مبدأ «حق تقرير المصير» الذي تقول به منظومته الفكرية، مشيرا أن «التأكيد على عبارة رغبة السكان الصحراويين في تحقيق الوحدة الترابية تحت ظل الراية المغربية هي رغبة قائمة فعلا، وصارت أمرا واقعا، وليس هناك خلاف داخلي بين القبائل الصحراوية حول هذا الأمر. وبالتالي فتحرير الأقاليم الصحراوية، وتحقيق الوحدة الترابية المغربية هدف يلتقي فيه كل سكان هذه المناطق التواقين للتحرر من براثن الاستعمار الإسباني. ليس من أجل إقامة دويلة جديدة، أو كيان مستقل جديد، بل من أجل الالتحاق والعودة «إلى حظيرة الوطن». وبالتالي فإن السكان الصحراويين مارسوا حقهم في تقرير مصيرهم من خلال هذه الرغبة الأكيدة التي تلتقي بدورها مع مصالحهم، معتبرا أن ذلك هو تقرير مصير «ضمني» وبحكم الواقع والحقائق، وتوجهات السكان، خاصة وأنه في تلك الفترة لم تكن قد ظهرت، بعد، أكذوبة «البوليساريو الانفصالية».
وجدد علي يعته التأكيد على هذا الأمر في كتابه الصادر سنة 1973، حينما اعتبر أن طرح «حق تقرير المصير» الذي سوقت له إسبانيا آنذاك وهي القوة الاستعمارية، ما هو إلا عبارة عن «كذبة» و»مناورة ميكيافيلية» بل و»خديعة سياسية ماكرة» يلجأ إليها حكام مدريد بغرض إنشاء دولة مصطنعة صورية تخدم مصالح الإمبريالية، بل و»مؤامرة امبريالية» هادفة إلى تمزيق المغرب وتفكيكه..
هذا ليوجه اللوم خلال سنة 1977 للحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الإسبانيين، اللذين حسب قول الراحل، «التزما الصمت منذ حرب الريف حول قضايا المستعمرات وبخصوص صحرائنا الغربية، ليعلنا انبهارهما باكتشافهما المتأخر لما طرحته الجزائر».
ومن جانبه، يؤكد سعيد سيحيدة عضو اللجنة المركزية للحزب، على الزخم النضالي الذي قاده الراحل علي يعته على المستوى الخارجي في إطار المعركة التحررية لاستعادة الصحراء المغربية، حيث كان الراحل لا يكل عن الدفاع على عدالة قضية المغرب في المطالبة باستكمال وحدته الترابية، واسترجاع أقاليمه الصحراوية، حينما يقوم بزيارات متتالية لبلدان المعسكر الاشتراكي، بصفته الحزبية وذلك في إطار العلاقات التي كانت تجمع الحزب بالأحزاب الشيوعية وقوى اليسار عموما في هذا الدول، إذ بالرغم من أن بعض تلك اللقاءات كانت لا تمر دون تبعات حين العودة للمغرب، خاصة في المرحلة التي كان فيها الحزب محظورا ، فإن الراحل والرفاق الذين يصاحبونه في هذه الجولات كانوا يحرصون على طرح ملف استكمال الوحدة الترابية للمغرب والوجود الإسباني في الصحراء وبحث سبل القضاء عليه.
وأفاد سيحيدة، أن الراحل علي يعته قام، خلال سنتي 1974 – 1976، بمهمات رسمية دبلوماسية، بناء على توجيهات من المغفور له الملك الحسن الثاني تقضي بإشراك ممثلي الأحزاب الوطنية، (في المعارضة آنذاك) وبعض أعضاء الحكومة المغربية، في بعثات رسمية للقيام بحملة دبلوماسية وسياسية في بلدان العالم بالقارات الخمس، للدفاع عن قضية الوحدة الوطنية، وتفسير الإجماع الوطني حول قضية الصحراء المغربية، والحصول على الدعم الخارجي لها كمعركة تحررية.
وفي هذا الإطار، أشار سعيد سيحيدة إلى قيام علي يعته بجولة همت بعض البلدان الاشتراكية أو ما كان يسمى بالمعسكر الشرقي آنذاك، شملت كلا من رومانيا، يوغسلافيا، بولونيا وتشيكوسلوفاكيا، حيث تم استقباله بشكل رسمي من لدن رؤساء هذه الدول.
بينما توجه المرحوم عبد الرحيم بوعبيد عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى فرنسا، والصين، أندونيسيا وماليزيا، أما المرحوم امحمد بوستة عن حزب الاستقلال، فقد همت جولته كلا من مصر، السودان ودول الخليج، فيما المرحوم عبد الكريم الخطيب فقد توجه إلى لبنان، وسوريا، والأردن والعراق، وكلف المرحوم محمد العربي الخطابي بالقيام بجولة بعدد من دول إفريقيا، بينما توجه الوزير الأول آنذاك أحمد عصمان إلى بعض العواصم الأمريكية والأوروبية.
وأضاف سيحيدة موضحا أن الراحل علي يعته شارك ضمن الوفد المغربي الرسمي في دورة الأمم المتحدة التي انعقدت في شهر نونبر سنة 1974، وذلك من أجل الدفاع عن ملف الصحراء المغربية، كما قام في شهر أبريل من سنة 1975، بمهمة لدى الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، علما أنه في نونبر من سنة 1975 تاريخ انطلاق المسيرة الشعبية إلى الصحراء المغربية، كان علي يعته في طليعة المشاركين فيها، ونال وسام المسيرة الخضراء من طرف المغفور له الملك الحسن الثاني.
وأبرز أن هذه التعبئة المتواصلة في التعريف على مستوى الخارج، بملف مغربية الصحراء، لم تتوقف، حيث في شهري أبريل وماي من سنة 1976، عاود علي يعتة القيام بمهمة رسمية لدى رؤساء الدول الاشتراكية، كما أنه في شهر شتنبر سنة 1976، ساهم ضمن الوفد الرسمي في أشغال مؤتمر كولومبو لدول عدم الانحياز بالعاصمة السريلانكية.
إعداد: فنن العفاني