شهد المسرح المغربي خلال السنوات الأخيرة تجارب عدة اتكأت في منجزها الفني على مسرحة النص الروائي، يمكن أن نذكر في هذا السياق على سبيل التمثيل، اشتغال المخرج والسينوغراف عبد المجيد الهواس على رواية «القوس والفراشة» للشاعر والروائي محمد الأشعري، والمخرج والدراماتورج بوسلهام الضعيف في مقاربته المسرحية لرواية « كل شيء عن أبي» لمحمد برادة، واشتغال الدراماتورج أنس العاقل على رواية «العريس» لصلاح الوديع التي حملت توقيع المخرج ياسين أحجام. وعلى الرغم من اختلاف مستويات العروض المسرحية المنجزة انطلاقا من النصوص الروائية وتباين مقاربات مبدعيها، إلا أن مجرد التفكير في مثل هذه «المغامرات الإبداعية» ينم عن وعي شريحة مهمة من الحساسيات الجديدة بأهمية انفتاح المنجز المسرحي المغربي على أجناس إبداعية أخرى، ليس بسبب انحصار النص المسرحي وأزمته كما يروج لذلك، بل لكون المسرح المغربي أضحى في حاجة ماسة إلى اختراق آفاق جديدة بمقاربات جمالية مختلفة، رغم ما قد يثيره هذا الانفتاح من مشكلات تقنية مرتبطة أساسا بمسألة استقلالية الأجناس الفنية عن بعضها وبما تفرضه قوانينها الداخلية.
وفي هذا السياق، يعد محمد الحر واحدا من المسرحيين المتميزين على الساحة المسرحية المغربية، حيث وجه مسار مشروعه الجمالي إلى البحث عن مقاربات جديدة في إنتاج العرض المسرحي، من خلال عدد من العروض التي وقعها والتي تمتاز بالطرح المتجدد في الاشتغال المسرحي، وبالعمق في المقاربة التي تستكين إلى الثقافة الشعبية المغربية. وفي الوقت نفسه تنفتح على مستجدات التجارب العالمية بعيدا عن الادعاء أو التعقيد أو البهرجة. فجاءت عروضه متميزة كسرت الكثير من أفق انتظار المتلقي، إن على مستوى اختياراتها الجمالية أو طروحاتها الفكرية مستفيدا في ذلك مما راكمته التجارب المسرحية المغربية وما وصل إليه المنجز الفني الغربي المعاصر.
لقد ظل محمد الحر وفيا لبحثه المسرحي واختراقه لأجناس إبداعية مختلفة، فبعد استنطاقه للحكاية الشعبية وللمتون الجمالية للثقافة الشعبية خاصة فن العيطة، في عرض “الباشا حمو” الذي يعتبر على الأقل من وجهة نظرنا الخاصة، واحدا من أعمق ما أنجزه المسرح المغربي خلال السنوات الأخيرة، إن على مستوى الكتابة أو الإخراج، عاد ليبحر في عوالم ألف ليلة وليلة، ويعيد استقراء بعض حكاياتها في مسرحية “شوكة”، قبل أن يستنبث مسرحية “مهاجر بريسبان” لجورج شحاذة، ويعيد إحياء عوالمها بما يستجيب وخصوصية التربة المغربية، مواصلا بذلك مشروعه الجمالي الذي كان قد أعلن عنه في “الباشا حمو”، فعرض “ترياحين” شكل بالنسبة لمحمد الحر استكمالا بحثيا لما كان قد بدأه سلفا وطور فيه جملة من التقنيات خاصة في الشق المرتبط بالنهل من جماليات الكتابة السينمائية البصرية.
إن أي متتبع للمنجز المسرحي لمحمد الحر، لابد أن يقف على حقيقة أساسية، ذلك أنه وفي جميع تجاربه يرتكن إلى الحكي كآلية تقنية وجمالية في بناء عوالم منجزه. فعروضه غالبا ما تقدم على لسان شخص ما، قد يكون هو نفسه كما الحال في “ترياحين” التي انبرى فيها بالحكي باعتباره صانع فرجته ومبدعها. أو أن يمنح دفة الحكي لأحد شخوصه كما في “الباشا حمو” و”صولو”. ففي العرض الأول تكفل “مومو” بسرد الحكاية من خلال تتبع مسار قطعة نقدية “الريال”، وعبره يقحمنا محمد الحر في عوالم الشخصيات والأحداث، أما في “صولو” فإن الحكاية تأتي في شكل شهادة ترويها الشخصية الرئيسية زهرة عن حقيقة ما حدث لها ومسار حياتها الذي قطعته قبل أن تصل إلى ما هي عليه الآن.
سلطة الحكي.. الخروج من العتمة إلى منطقة الضوء
يفتتح العرض بعتبة أولى منحته هويته وجنسه، ووجهت عناية المتلقي إلى أن ما سيشهده الليلة، عبارة عن شهادة. لكنها شهادة مختلفة، واختلافها يتبدى في كونها ستشكل الحلقة الأخيرة في سلسلة الشهادات السابقة عليها، وأنها ستروى من قبل صاحبتها، وستكون صادمة جدا، مفاجئة، وقوية.
فكونها الأخيرة معناه أن هناك شهادات سابقة عليها، غير أن ما يميزها عن غيرها ويمنحها فرادتها، كونها ستروى على لسان صاحبتها. أي أنها ستروى بضمير المتكلم “أنا”، هي إذن حديث عن الذات، أو حديث الذات كما يسميها عبد الفتاح كيليطو. في حين أن ما روي سابقا كان يروى بضمير الغائبة “هي”، أي أنها كانت تروى على ألسنة أناس لم يعيشوا أحداثها ولم يكونوا شهداء على وقائعها، رواة من خارج الأحداث، فالروايات السابقة إذن، هي أشبه بما يسمى بالسيرة الغيرية، لكننا الآن سنكون أمام رواية أخرى، أو بالأحرى سنكون أمام سيرة ذاتية سترويها امرأة بنفسها عن حياتها وتجربتها.
هناك أسئلة كثيرة تطرح نفسها بشدة، وتزرع الكثير من العتمات في طريق المتلقي، تحتاج منا إلى استجلاء غموضها لكشف عتماتها. هل (السيدة زهرة) هي من قررت أن تروي حكايتها من تلقاء نفسها؟، إذا كان الجواب بنعم، فلماذا سكتت كل هذه المدة الفاصلة بين تاريخ الأحداث وزمن الحكي؟، لماذا سلكت سبيل الحكي المحكوم بالنسيان، ولم تسلك سبيل الكتابة المحكومة بالبقاء والاستمرار والحياة؟، ألا يعتبر حكيها الآن/ هنا كتابة بمعنى ما؟
قد نفسر عدم كتابتها لحكايتها بكونها عاشت طوال عمرها تنشد النسيان، فهي لا تريد أن تحتفظ بذكرى منها لذلك تعمد إلى محوها واستئصالها، إنها تريد أن تشيد جدارا من الصمت على حياتها الماضية المؤلمة، وتسعى إلى قتلها ودفنها كما دفنت العشرين سنة الأولى من عمرها. إذا كان الأمر كذلك، لماذا عادت لتحكي حكايتها الآن؟
نعتقد أن السيدة زهرة لم تحك حبا في الحكي، بل جاء ذلك استجابة لرغبة من “هو” الذي استدعاها لرواية حكايتها. لكن، ألا يفترض هذا، أن يكون “هو” عارفا بالحكاية؟، إذ لا يعقل أن يغامر باستدعائها لرواية حكاية لا يعرفها أصلا. إن المنطق يقتضي أن يكون قد سمع منها الحكاية أولا، وانبهر بها، ووجد فيها ما يستحق أن يروى، فقام باستدعائها لا لرواية حكايتها فقط، ولكن لكتابتها أيضا.
إذا كان “هو” عارفا بالحكاية، لماذا إذن لم يقم بحكايتها؟. هناك احتمال واحد، ذلك أنه وعلى غرار الكثيرين منا، كان يعرف حكايتها انطلاقا من روايات أخرى، وحين تعرف على حكايتها واكتشف الفوارق بينها، قرر أن يستدعيها لتصحح ما فسد منها.
هناك سؤال آخر، حين نفكر فيه مليا يقودنا إلى عتمات أخرى، هل السيدة زهرة تحكي فقط، أم أنها تُحكى أيضا؟، أليس “هو” راويا أيضا؟.. ألا يروي حكاية زهرة التي تحكي حكايتها، وإلا لماذا يسمع صوته في العرض؟ هل زهرة تحكي حكايتها في استقلال تام عن “هو”؟ أم هما معا ينبريان للحكي كل بطرقه وأدواته؟
لا نعتقد أن “هو” كان سيغامر باستدعاء السيدة زهرة ويدفع بها إلى الحكي، إذا لم يكن متيقنا من أنه يملك ورقة رابحة على درجة كبيرة من الأهمية، يتعلق الأمر بفن الحكي. فهو إلى جانب معرفته بكون السيدة زهرة متمكنة من تفاصيل حكايتها لأنها صاحبتها، يعرف جيدا أنها تملك ناصية الحكي وتعرف كيف تروي حكايتها. لذلك هيأ شروط اللقاء بينها وبين الجمهور وتكفل بتقديمها حتى يخلق لها الرغبة في الحكي من جهة، ومن جهة ثانية حتى يخلق لدى الجمهور الرغبة في المتابعة والاستمتاع. فهو يعي سلفا أن غياب الرغبة من الطرفين يجعل السرد بلا معنى وبلا جدوى. فزهرة كغيرها من الرواة تحرص على أن يكون حكيها تلبية لدعوة صادرة عن المتلقي، فبدون هذه الدعوة ستصير مجرد طفيلية لا يصغي إليها أحد. ولتفعيل ذلك، عمد المخرج في العتبة الأولى إلى إعداد الجمهور عبر طقس افتتاحي بلاغي يموضع من خلاله الحكاية في سياقها، ويوضح هويتها باعتبارها شهادة، وبهذا الإعلان المخالف للسائد يخلق “هو/ المخرج” الاستعداد لدى المتلقي ويدفع برغبته إلى منتهاها ويمهد سبيل الحكي لزهرة.
عاشت الراوية إذن، فترة مهمة من حياتها متوارية صامتة، تكتم حكايتها وتخفيها، فهي إذن كانت تعيش في منطقة العتمة، والمخرج إذ استدعاها فقد أخرجها من الظلمة إلى النور. لقد كشفها لنا بعد أن كانت مجرد شخصية متخيَّلة مُتخفية في الروايات السابقة، ولأن الأحداث وقعت في الماضي فزهرة أضحت جزء من الذاكرة، حضورها الآن/هنا هو استحضار واستقدام من منطقة الظل والعتمة التي توارت فيها لفترة طويلة، إلى منطقة الضوء. لذلك جعلها المخرج تأتي من الخلف/ الماضي، ومن الظلمة/ الصمت إلى البقعة التي أضاءها وإلى هامش البوح الذي فتحه.
الحكاية.. مفرداتها ومسالكها..
حضور زهرة جاء لهدف محدد، الحكي، لكن ماذا، ولماذا ستحكي؟
تستلم زهرة دفة الحكي من المخرج، ويجد المتلقي نفسه أمام عتبة ثانية تمعن خلالها الراوية / زهرة في إعداده عبر طقس افتتاحي ليتقبل الدهشة ويتعايش معها، ولكي يدخل معها في سفر العتمات بحثا عن الخلاص. فتحدد غاياتها الأساسية من قدومها بنفسها لرواية شهادتها في ثلاث مرامي:
أولا: قول الحقيقة؛ ثانيا: التخلص من العبء الذي يثقل كاهلها والمتعلق أساسا بالمسكوت عنه؛ ثالثا: تصحيح الوقائع.
فزهرة إذن، ستدلي بشهادتها لتكشف الحقيقة بعد أن حادت الروايات السابقة التي تناولت سيرتها عن الصواب، إذ لا يعقل أن يروي الرواة نفس الحكاية بنفس الأحداث، لذلك نفترض أنهم أضافوا إليها أحداث أخرى زجت بها ضمن مقولة العجيب والغريب، وإلا كانت غير جديرة بالرواية. وبالتالي كانوا يحيدون بها عن الحقيقة خدمة لأغراض ترتبط غالبا بحاجات المتلقي وما يثير شغفه، فاختلطت بالكثير من الأحداث التي أقحمت عليها ولفقت لها، حتى غطى الملفق على الأصلي، لذلك فمهمة زهرة الأولى تكمن في إزاحة الملفق لكشف الأصلي الذي لن يكون إلا الحقيقة أو ما يشبهها. بغية تنوير المتلقي الذي يعرف حكايتها فقط من خلال ما روي عنها. ثم إنها تبغي التحرر من عبء المسكوت عنه الذي ترزح تحت ثقله، وذلك عبر كشفه وإزاحة الغشاوة والحجاب عنه، فمادامت ستتحدث فإنها ستكسر حاجز الصمت الذي لزمته لمدة طويلة.
مسألة أخرى في غاية الأهمية، كل الروايات التي تعاملت مع سيرة زهرة، تعاملت معها باعتبارها حكاية، أي أنها ظلت تربطها بعالم المتخيل كبناء ذهني، ينتجه الفكر بالدرجة الأولى. غير أن الأمر بالنسبة لزهرة جد مختلف، المسألة عندها مرتبطة بحياتها كواقع، وكمعطى حقيقي وموضوعي. قد يحيل المتخيل على الواقع، لكن الواقع لا يحيل إلا على ذاته. لذلك فهي تصر على الفصل بين حياتها وبين الحكاية. وعليه، فإذا كانت الحكاية تروى وتسمع، فإن حياتها على العكس تماما، ترى وتعاش. لهذا فزهرة لن تجعلنا فقط نسمع حكايتها، بل ستجعلنا نرى ونعيش حياتها. وبالتالي فهي تنقل سيرتها من الغيرية إلى الذاتية، ومن الحكي إلى الفعل، ومن الرواية إلى المسرح، كل ذلك بتواطؤ مع المخرج الذي أعاد إحياءها.
مسألة الرؤية هذه، تقربنا بشكل قوي من هوية الحكاية كشهادة. فلو أن زهرة اكتفت فقط بحكي قصتها، فإن المتلقي لن يكون أكثر من مستمع. لكن مادامت قد اختارت عيش حياتها ودفعت بالمتلقي، تحت رغبة الفضول، ليعايشها الآن/ هنا، فقد حولته من حيث لا يدري إلى شاهد. وطوقت عنقه بالشهادة التي أضحى ملزما بالإدلاء بها، وإلا كان شيطانا أخرسا. من هنا، فزهرة لم تسكت كل هذه المدة وتتوارى في الظل، إلا لأنها كانت تعتبر قصتها ذاتية تتعلق بتجربة شخصية. لكن ما دام الأمر يتعلق بالطابو، وبالمسكوت عنه في مجتمع ذكوري تحكمه قيم بائدة، فقد كان لزاما عليها أن تخرج عن صمتها وتورط الآخر معها. وبهذا يكون المتلقي قد ارتكب إثما يعبر عنه عبد الفتاح كيليطو بالفضول المحرم. وهو فضول سبق أن وقع فيه المتلقي حين أخبره المخرج بأن الشهادة صادمة جدا، مفاجئة وقوية، ومع ذلك أصر على أن يعيشها حتى آخرها.
بعد أن حددت الراوية إذن خارطة طريق حكيها في التعرية والكشف والإظهار، حملت معها الشمعة واقتحمت عالم الحكي. واعتبارا لكونها تريد أن تخلخل المقدس وتنطق المسكوت عنه، فقد اختارت أن تموضع حكايتها في الزمن انطلاقا من ليلة القدر، كليلة مقدسة تكتب فيها أقدار الإنسان، فليلة القدر سميت بهذا الاسم لأنه تقدر فيها مقادير الخلائق على مدى العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء، والأشقياء…. كما أنها سميت بذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها، فهي ليلة المغفرة. في هذا المشهد الذي يبقى واحدا من أقوى المشاهد وأعمقها، يعترف الأب لابنته بما ارتكبه في حقها ويطلب منها المغفرة، ليتطهر من ثقل الماضي ومن عبء حمله طوال عشرين عاما، وقد اختار الأب هذا التوقيت بالضبط لإحساسه بوجود الموت كطرف ثالث في الغرفة، فماذا يفعل الموت؟
يعرف الموت عادة بكونه عكس الحياة، فجسد ميت معناه ألا حياة فيه، فالحياة إذن ترتبط بالروح في الوقت الذي يرتبط فيه الموت بالجسد. لذلك جعل المخرج عمل الموت يتمحور حول الجسد من خلال عملية المسح، فالموت يمسح الحياة عن جسد الأب ويحرر الروح من سجنها. ولأن الموت فصال بين الروح والجسد، فقد اختار محمد الحر تجسيد الموت الذي يقوم بتطهير الجسد وترك البوح تتكفل به الروح، وليفصل بين الجسد الفاني والروح الباقية عمد إلى التمييز بينهما عبر اللون، فمنح للأب المحتضر اللون الأبيض في حين ترك اللون الأسود للجسد. ورغم أنه فصل الروح عن الجسد إلا أنه أبقاها سجينة الغرفة، وجعلها تتحرك بتوتر ناتج عن صراعها مع الزمن والموت. فاعترافات الأب مرهونة بالزمن، فقد يسحب الموت الروح من الجسد ويجعلها تختفي قبل أن يكمل اعترافه وتحرره من السر الذي حمله طوال عشرين سنة.
في هذه الليلة المقدسة إذن، سيحرر الأب ابنته بالاعتراف لها، وسيتركها تخرج من القمقم الذي سجنها فيه، لتبدأ سلسلة من التحولات بحثا عن الحقيقي فيها خارجة بذلك من حالة التنكر والتخفي إلى حالة الظهور والكشف التي لا تتحقق إلا بخروجها من سجن آخر. في هذه الليلة، سيستدعي الأب الراوية إلى غرفته ليكشف لها الحقيقة التي بقيت متسترة ومتخفية طوال عمرها، فهو لا يريد فقط أن يكشف لها السر ولكنه بالمقابل يريد أن يكفر عن ذنبه، يريد أن يتحرر من العبء الذي حمله، التحرر هنا لا يرتبط بمبدأ الاعتراف فقط ولكنه يمتد لإقناع الراوية بمسامحته. فالأب يشعر بدنو أجله ونهايته، لذلك فهو يسعى إلى أن يكون نظيفا وطاهرا من الذنب الذي اقترفه، ولا يكتفي بالاعتراف فقط بل يتجاوز ذلك إلى تبرير قراره بجعلها ذكرا.
يعترف الأب أخيرا لابنته بالحقيقة، ويعلن ميلادها الجديد ويختار لها اسما جديدا زهرة. ويدعوها إلى الرحيل عن البيت، إلى العيش والسفر، إلى رحلة الاكتشاف، اكتشاف الذات والآخر. فالدعوة إلى الرحيل عن الغرفة/البيت يأخذ دلالة الولادة والخروج من الرحم، فالأب أعلن ميلاد زهرة عند الفجر أي عند الحد الفاصل بين النهار والليل، بين النور والظلمة، بين الحقيقة والكذب، بين الصراحة والنفاق، بين الحياة والموت. وكما يولد النهار من الليل، والنور من الظلمة، والحقيقة من الكذب، والحياة من الموت، تولد زهرة من جسد أحمد. لترتبط الولادة وتتعالق مع الموت.
لهذا جاء اسم زهرة محيلا على النور، فالزهرة هي نور كل نبات، يقال زهر النبت نَوْرُه، يقال أزهر النبت، إذا نور وظهر زهره، يقال أيضا زهرة الدنيا، حسنها وبهجتها. الزُّهرة: الحسن والبياض، البياض النير. وهذا يحيلنا إلى مشهد لقاء القنصل بزهرة، فبعد أن سمع صوتا ما واستنشق الرائحة، كان عليه أن يراها، فمد يده إليها. والتفت إلى أخته التي لم تخبره بوجود نوارة في البيت. وحين أمسك يدها قاس باللمس أمرين في غاية الأهمية، ملمسها وحرارة يدها، لذلك علق بكونها جميلة وبأنها في حاجة إلى من يسقيها، والقصد إلى من يرويها ويطفئ نارها المتقدة. لذلك فزهرة بقدر ما تحيل على النور هي أيضا تحيل على النار التي ستحرق فيما بعد العم الشيطان.
الميلاد يجاور الموت، وميلاد زهرة لابد أن يجاوره موت أحمد، فكيف السبيل إلى موته؟.
نعتقد أنه من الأجدر أن نؤكد على أن أحمد ليس شخصا حقيقيا، هو مجرد كائن متخيل، صحيح أنه يحمل أوراق هوية، لكنه في آخر المطاف ليس أكثر من أكذوبة افتضح أمرها ليلة القدر، أحمد أضحى إذن مجرد أسمال وأوراق. هو كل السنوات العشرين التي عاشتها زهرة متنكرة في أسماله واسمه وملامحه. من هنا، فإن قتله سيأخذ بعدا رمزيا من خلال دفن كل ما يحيل عليه ويؤشر على وجوده، على الأقل بالنسبة لها. لكن لماذا تسللت إلى البيت ليلا كلصة، ولم تدخله في واضحة النهار ومن بابه بدل أن تتسلق جداره؟
للبيت كما هو معلوم علاقة وطيدة بالإنسان، فهو مكان للألفة والحميمية أمن لأحمد الاستقرار والأمان، وضمن له الراحة النفسية والجسدية. فهو لم يكن مجرد مكان عاش فيه وسكنه بل هو جزء من كيانه ووجوده الإنساني. لكن بعد أن اكتشفت زهرة الحقيقة، وتحولت إلى كائن جديد، لم يعد البيت مكانا لضمان استقرارها وإثبات وجودها، بل تحول إلى مكان منفر تجمعه بها علاقة عدائية ناجمة عن السنوات التي عاشتها متخفية ومتنكرة في لباس أحمد. ففي البيت عاشت تنكرها، ونفي أنوثتها، وفقدان هويتها كأنثى. لقد غدا مكانا غريبا عنها، لا يمكنها أن تعيش فيه، أو تدخله إلا متسللة في جنح الظلام، وأن تتسلق جداره كلصة، وتسرق كل ما يرتبط بوجودها وهويتها السابقه، وتدفن كل ذلك في قبر واحد مع والدها، وبذلك تتخلص من كل ما كان يربطها ويوثقها بحياتها السابقة وتتخطى مرحلة مهمة من حياتها، وتعلن ميلادها الجديد.
هذا الميلاد لم يكن ليتحقق إلا بإعلان الموت، موت أحمد وقتل الأب. فقد سحبت العمامة/ العقال وخنقت به والدها وأعادت ردم التراب عليهما معا، لتنهي مرحلة مؤلمة من حياتها وتقوم بأول خطوة لها وتتخطى القبر نحو حياة جديدة. وتشرع في الإعلان عن هويتها كأنثى من خلال لعبة التعري واكتشاف الجسد. هنا لابد أن نؤشر على مسألة مهمة، في حياتها السابقة كانت زهرة تعيش داخل جسد ميت، أو بالأحرى جسد مسطح لا ملامح تؤكد هويته وجنسه عدا اللباس. غير أن شخصيتها الجديدة تفترض إجراء تغييرات تتجاوز حد التخلص من ملابس الرجال، إنها في حاجة إلى الإعلان عن أنوثتها ابتداء من إبراز جسدها، وتغيير جغرافيته عبر تمسيد نهديها ليعلنا عن نفسيهما، ومن خلالهما عن هويتها، انتهاء بتغيير حركاتها ومشيتها. فتشرع في تهجي خطواتها الأولى التي تأخذ شكل الرقص/الطيران في دلالة إلى تحررها وخروجها من سجن البيت كمكان مغلق إلى فضاء الغابة ورحابتها. ومن جسد الذكر إلى الأنثى. هنا يحضر الماء كدلالة على الخروج من الرحم من خلال بركة الماء التي تغتسل فيها.
حين حرر الأب الراوية وسماها زهرة، أعلن عن هويتها الجديدة كامرأة. لكن هل هي حقا امرأة، أم مجرد طفلة صغيرة في حاجة إلى ميلاد جديد تتحول فيه من الطفولة إلى النضج، ومن الفتاة إلى المرأة؟
في الغابة تتعرف على رجل بدون ملامح ولا وجه، يغازلها ويخاطبها لأول مرة كأنثى، فتستسلم له ليس خوفا فقط، ولكن لرغبتها أيضا في الاكتشاف والتجربة حتى أنها لم تشعر بعد المضاجعة أنها مدنسة. هذا المشهد يعد في اعتقادنا واحدا من أقوى المشاهد العميقة والمكثفة التي غطت مساحة العرض. قوة هذا المشهد تتمثل أساسا في الدلالات الكثيرة التي حملتها العملية الجنسية، وأشر عليها السائل الذي لا لون له. فهو الدم والمني والماء أيضا، هو المني حين يؤشر عليه ببلوغ الرجل الشبح إلى نشوته، وهو الدم حين تضع زهرة يدها بين فخذيها، وهو الماء أيضا الذي كانت تعيش فيه الزهرة البيضاء.
بعد أن تحولت إلى امرأة، تنتقل إلى المدينة لتعيش حياتها الجديدة، داخل أسرة أخرى غير تلك التي عاشت فيها حياتها الأولى، تولد كامرأة داخل أسرة جديدة، وتتعرف على ثاني رجل في حياتها بعد والدها.
هنا سنجد أنفسنا أمام نفس شخصيتي الأب والأم في مسوح القنصل و”الجلاسة”، لماذا اختار المخرج أن يعيد نفس الممثلين؟ لا أعتقد أن الأمر متعلق بظروف الإنتاج، فمن يعرف محمد الحر، يعرف جيدا أنه لا يأتي الأمور على عواهنها، بل يحتكم في كل مفرداته الفنية واختياراته الجمالية إلى تصورات مرجعية تؤطر اشتغاله ورؤيته.
بقليل من التفكير والتبصر، نكتشف أن البيت الذي ستدخله زهرة بالمدينة لا يختلف كثيرا عن البيت الذي عاشت فيه سابقا، فهو بيت مهدد بالخراب، يسكنه الموت وتعشش فيه العتمة، بيت يعيش على حافة الانهيار. يبقى الفرق الوحيد بينهما، أنها في حياتها الأولى دخلت البيت ذكرا بغية زرع النور فيه، لكنها الآن تدخله كامرأة/ أنثى لتعيد إليه الحياة. في آخر المشهد الذي توفي فيه الأب، تغلق زهرة عيني والدها، ويغمض هو الآخر عينيه، لينتقل من حالة الإبصار إلى حالة العمي، فلم يعد يرى إلا الظلام وهذا يتطابق والقنصل الأعمى الذي لا يرى إلا الظلام.
وحين أعلن الأب عن هويتها الجديدة كامرأة كان يحتضر، القنصل نفسه كان يحتضر قبل أن تأتي زهرة وأعادت إليه الحياة. الأب غير نظرته إلى الدين ولم تعد مرهونة بثنائية الحلال والحرام بل أضحت أكثر عمقا تستجدي التأمل والسكون لبلوغ مرامي التدين. وتلك هي نظرة القنصل إلى الدين الذي ينحو به إلى الاعتدال والتصوف. هذا التقاطع والتقارب بين الأب والقنصل، يجعلنا نذهب إلى التأكيد على أن القنصل ليس إلا الأب في حياتها الثانية، وزهرة ستعيد بناء علاقتها مع والدها من جديد، علاقة ستتأسس على الحب والمصالحة.
علاقة “الجلاسة” بالقنصل علاقة ملتبسة، فيها الكثير من الأمومة،. فأحيانا يختلط علينا الأمر حتى لنعتقد بأنها والدته. فهي دوما تحمل السطل أمامها وكأنه امتداد لبطنها، وداخله ترقد دمية القنصل الأشبه بصبي. وحتى حين تسألها زهرة عن الدولة التي عين فيها القنصل تشير إلى بطنها.
“الجلاسة” هي من تستقدم زهرة إلى البيت، هي من تحضرها وكأنها ابنتها. تأتي بها من عالم اليتم إلى عالم الأسرة، إنها تلدها بمعنى ما، وتمنحها أسرة جديدة. فعلاقتهما أشبه بعلاقة الأم بابنتها، غير أن الأم هنا تختلف عن شخصية الأم التي وصفها الأب. هي امرأة بوجهين، وجه طيب ظاهر ووجه خفي مليء بالحقد والكراهية. وحين ستكتشف زهرة هذا الوجه ستعرف منعطفا حاسما في حياتها الجديدة.
لنعد إلى علاقة زهرة/ أحمد بأمها، زهرة لم تعرف أمها في حياتها الأولى، بل إنها كانت السبب الرئيسي الذي جعل الأب يبتعد عن أمها، فرغبته في إبقاء سرها متخفيا، جعله يبعدها عنها ويحرمها منها وفي الوقت نفسه جعله يبالغ في حبه لأحمد على حساب الأم والأخوات.
نفس الأمر يحدث في حياتها الجديدة، زهرة تنفرد بالقنصل، وتبعده عن “الجلاسة”. غير أنه إذا كانت الأم قد كتمت صرختها داخلها ولم يتسنى لها أن تفجرها في وجه الأب، فهي هنا تنفجر وتقرر إبعاد زهرة عن القنصل/ الأب.
وحين يتصدى لها وتعجز عن ذلك، تعود إلى ماضي زهرة وتستدعي العم وتعيد الحكاية إلى نقطة الصفر وتكشف السر، وكأن الأم تنتقم من زهرة وتكشف حقيقتها على أنها مجرد أنثى. هنا قد يتساءل سائل، لماذا استنجدت “الجلاسة” بالعم ولم تستنجد بالأخوات مثلا؟
بالعودة إلى رغبة الأب في أن يكون له ولد ذكر، هذه الرغبة التي سكنت الأب، وتحولت بحمل الأم إلى حلم، قبل أن تنقلب إلى سراب بعد الولادة، لم تكن لتكبر لولا وجود أسباب تدفع بها إلى ذلك. أهم هذه الأسباب على الإطلاق هو العم.
فالعم هو سبب كل هذه المآسي التي حصلت في حياة زهرة، هو من أقنع والدها أن من لا يلد رجلا ليس برجل، وهو الذي زوج أحمد بابنته طمعا في الميراث، والأب قرر أن يكون له ولد ليحرم العم من الميراث. ولأنه شيطان فقد كان عليه أن يشيط أي أن يحترق، القتل يكون في الكائن البشري لكن الشيطان يجب أن يحرق، لهذا عمد المخرج وبشكل ذكي إلى استبدال عملية القتل بعملية الحرق التي انطلقت من العينين قبل أن تشمل كل الجسد.
بإحراق الشيطان سيغلق الباب على فصل من حياتها، وستجد زهرة نفسها لأول مرة في سجن حقيقي، سيذكرها بالسجن الذي عاشته في بيت والدها، حين كانت تعيش متنكرة في جسد رجل. لتكتشف في الأخير أن السجن الحقيقي ليس هو الجدران بل هو سجن آخر يعيش ويعشش داخل الإنسان الذي يحمل سجنه معه. فالتحرر لا يكمن في الهروب من العتمة، بل في البحث داخلها عن طريق تقود إلى الخلاص.
وجودها داخل السجن منحها مساحة لتمارس حريتها، وتنغلق على نفسها بحثا عن طريق آخر يفضي بها إلى الخلاص، فوجدته في القراءة والكتابة، وأضحت الكتابة بالنسبة لها طريقا مفروشا بالأوراق البيضاء تمشي فوقها كأنها الجسر الذي يربطها بخلاصها. غير أن بصرها كان يصطدم بالجدران وحتى تخترقهم وتحول المكان المغلق إلى مكان متسع ورحب، أغلقت كل الثقب التي يتسرب منها الضوء بما فيه عينيها، وقامت بأول خطواتها في العتمة كأنها طفل يتعلم المشي، يذكرنا هذا بخطواتها الأولى في الغابة بعد أن تحولت إلى فتاة. لقد قررت زهرة أن تعيش العمي باختيارها لتكون قريبة من القنصل، تسافر إلى عالمه، وتستدعيه إلى عالمها، حيث يمكنها أن تراه وتكلمه وتتّحد معه في العتمات التي تمنحها بصيرة شفافة وفريدة لإعادة بناء علاقتها بذاتها وبالآخر.
غير أنه وفي الوقت الذي كانت تعتقد فيه أنها أغلقت الباب على الماضي، فتح الباب من جديد ودخل إخوتها كأنهن طير كاسر تحولت زهرة بين مخالبه إلى فريسة ينهش أنوثتها.
مشهد الختان هو الآخر كان عميقا شحنه المخرج بدلالات تجاوزت حدود قطع البظر لتتحول إلى قتل رمزي للمرأة/ الرحم بإفراغ الكأس من الحليب الذي كان القنصل قد أعلن ميلاده سلفا. لتبقى الكأس التي كانت الرحم الذي يحضن زهرة فارغا بعد أن قتلت، وتحولت إلى جثة غارقة في دوامة من التيه أضاعت معه آثار القنصل في السواد وأضحت وحيدة. وحدتها هذه ستتعمق أكثر بعد أن أخرجوها من السجن إذ لم تجد أحدا بانتظارها، وبعد أن ألفت حياتها هناك، واستأنست عيناها بالعتمة، وجدتهما وجها لوجه في مواجهة نور الشمس الحارق. هاتان العينان هما من جعلاها تحس بأنها لازالت حية، وبأن هناك جسدا جديدا يولد، جسد قادر على الإحساس والانفعال، والبكاء. جسد في حاجة إلى البحر باتساعه وأفقه الممتد والدافئ والذي يبعث على الحلم، إنه أشبه بالعودة إلى الرحم أو الرغبة في الموت، في البحر تتذكر رسالة القنصل التي تركها لها وتبحر معه في العتمات بعيدا عن كل شيء.
أخيرا، نعتقد أن عرض “صولو” بغناه وتصوراته الجمالية العميقة والمكثفة، يحتاج منا إلى قراءات أخرى تقارب مناحي عدة في اشتغال محمد الحر، ونأمل أن تشكل هذه الورقة مدخلا مناسبا لأوراق أخرى نسعى من خلالها إلى فتح آفاق هذا العرض واستنطاق مكوناته باستحضار العلاقات المهمة التي تصل الاشتغال الدراماتورجي ببقية العناصر الأخرى التي تشكل في كليتها وحدة المتن وفرادته.
اعتمدنا في قراءتنا على العرض الذي قدمته الفرقة في الدورة العاشرة بالمهرجان العربي للمسرح بتونس، بعد أن شاهدناه في كل من طنجة وتطوان والرباط
> بقلم: محسن زروال