يكتسي موضوع المساواة بين الجنسين أهمية كبيرة في الوقت الراهن، نتيجة لما طال النساء فيما مضى من الحيف والتمييز، وكانت حقوقهن محكومة بالعادات والتقاليد ووجود بعض الرواسب الاجتماعية والثقافية التي كانت منتشرة عشية حصول المغرب على استقلاله، خاصة تلك المرتبطة بالنظرة الدونية للمرأة التي تحط من كرامتها وتحد أدوارها في وظائف محددة سلفا تبعا لتقسيم تقليدي لا يسمح للنساء عموما بالوصول إلى مراكز صنع القرار القضائي، مما جعل معظم الدول بما فيها المغرب تتدخل لإقرار مبدأ المساواة بين الجنسين في كل ما يرتبط بولوج المرأة إلى مراكز صنع القرار أو احتلال مناصب حساسة في أجهزة الدولة كجهاز القضاء مثلا.
وهوما يظهر بشكل جلي من خلال إصدار المشرع المغربي لمجموعة من القوانين الرامية إلى تحقيق هذه المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل، ولعل من أهم هذه القوانين دستور 2011 . الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل حول مكانة المرأة المغربية في القضاء؟
حظيت المرأة بصفة عامة والمرأة القاضية بصفة خاصة باهتمام خاص على الصعيد العالمي، بحيث أصبحت المرأة باعتبارها نصف المجتمع، تشارك في البت في النزاعات واتخاذ القرارات وفق ما يخدم الصالح العام ويحقق العدالة، وذلك في زمن كان فيه القضاء مبنيا على موروث ثقافي مليء بالإجحاف ضد المرأة حال دون اعتلائها منصة القضاء لعقود طويلة. فما هو موقف المغرب من هذه المسألة؟
إن المغرب لم يكن في معزل عن ما شهدته الساحة الدولية من نضال للنهوض بوضعية المرأة بصفة عامة بما فيها المرأة القاضية وتحقيق مساواة حقيقية بينها وبين الرجل، فهو يعتبر من الدول العربية والإسلامية الأولى التي أدمجت المرأة في سلك القضاء إقرارا منها بمبدأ المساواة بين الجنسين، كما تم تغيير اسم ” النظام الأساسي لرجال القضاء ” الصادر بتاريخ 11 نونبر 1974 بمقتضى تعديل الدستور الجديد لسنة 2011 من “النظام الأساسي لرجال القضاء ” إلى “النظام الأساسي للقضاة”، وهذا يعتبر من أبرز تجليات تفعيل تجربة المرأة القاضية بالمغرب، على اعتبار أن التسمية الأولى تقتصر على الرجل القاضي فقط وتقصي وتتجاهل دور المرأة القاضية وتجعلها وكأنها غير معنية بهذا القانون، على الرغم أنه في محتواه ومضمونه جعل ولوج النساء للسلك القضائي يتم على قدم المساواة مع الرجال وطبقا لمعايير محددة بنص تنظيمي. فمنذ ما يزيد عن ثمان وخمسين سنة، كان القضاء المغربي شأنا ذكوريا، وظل هذا الوضع قائما إلى أن استطاعت المرأة المغربية بعد صبر وإصرار أن تنتزع صفة “قاضية” وأن تتبوأ هذا المنصب سنة 1961. وهذا الولوج المبكر للمرأة في سلك القضاء ساهم في فرض وجودها واحتلالها المكانة اللائقة بها وأتاح لها مزاولة مهنة القضاء بشكل عادي مثلها مثل الرجل، واستطاعت منذ ذلك التاريخ أن تثبت نجاحها في هذه التجربة وجدارتها في القيام بهذه المهمة الصعبة سواء على مستوى الأداء أو الكفاءة أو التجرد والنزاهة. ولعل أكبر دليل على ذلك، هو العدد المتزايد للنساء القاضيات من سنة إلى أخرى. فمنذ تعيين أول قاضية بالمغرب سنة 1961 إلى غاية سنة 1971 لم يتجاوز عدد النساء المنتميات إلى السلك القضائي عشر قاضيات، وهو العدد الذي بدأ في الارتفاع تدريجيا بعد تطور المجتمع المغربي الذي أصبح يتقبل المرأة في منصب القضاء بشكل عادي حتى في القرى والمناطق النائية، وأدرك بأن أنوثة المرأة لا يمكن أن تشكل عائقا يحول دون وصولها لهذا المنصب، فبمجرد ما عرف المتقاضي جدية وكفاءة المرأة القاضية لم يعد يميز بينها وبين الرجل في الفصل في قضاياه.
فعند الوقوف على الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمتعلقة بعدد النساء العاملات بالسلك القضائي، يمكن القول بأن الساحة القضائية شهدت حضورا متميزا ولافتا للمرأة القاضية بالمغرب سواء بجهاز النيابة العامة أو بالقضاء الجالس وأيضا في كل المحاكم بمختلف درجاتها وأنواعها، سواء في المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف أو المحاكم المتخصصة أو بمحكمة النقض التي تعد أعلى هيئة قضائية في البلاد، إذ يبلغ عدد القاضيات حاليا 1041 قاضية من أصل 4180 قاض وقاضية أي بنسبة %24,90.
وهذا العدد عرف ارتفاعا كبيرا إذا ما قمنا بمقارنته مع عدد القاضيات في السنوات الماضية والذي بلغ سنة 2018: 920 قاضية وسنة 2017 كان عددهن هو 892 قاضية، في حين كان هذا العدد سنة 2014 هو 799 قاضية فقط.
كما أن القاضية تتواجد في مناصب أخرى لها ارتباط بجهاز القضاء كالإدارة المركزية بوزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة والمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، وتتحمل فيها مسؤوليتها في مختلف الجوانب وكذا المعهد العالي للقضاء الذي تمارس فيه مهامها كأستاذة ومؤطرة منذ سنة 1982 وتساهم بتجربتها العملية في تكوين وتأطير الملحقين القضائيين الذين سيلتحقون كقضاة بالمحاكم، بحيث بلغ عدد القاضيات العاملات بهذه الجهات وبجهات أخرى سنة 2018 حوالي 40 قاضية في مقابل 22 قاضية فقط سنة 2012، وهذا دليل وقرينة على المكانة التي وصلت إليها المرأة في المغرب، بحيث تمكنت بفضل جهودها وتضحياتها ومواقفها الرائدة من تحقيق النجاح وصعود سلم المسؤوليات القضائية والارتقاء في سلك القضاء، وذلك منذ سنة 1961 التي عرفت تعيين أول امرأة قاضية في المغرب، وشكل هذا الحدث محطة مهمة في تاريخ القضاء المغربي وعكس التطور الذي عرفه المجتمع المغربي.
وعند الوقوف أيضا على الإحصائيات الرسمية المذكورة، يلاحظ أيضا أن المرأة المغربية تتحمل الآن مسؤولية رئاسة عدة محاكم سواء تجارية أو إدارية أو عادية. إلا أن حضورها على مستوى مناصب المسؤولية يعتبر محدودا جدا لكونها لا تصل إلى مراكز صنع القراربسهولة حسب ما تبينه الأرقام الرسمية، إذ سنة 2018 تتواجد فقط مسؤولة واحدة على مستوى محاكم الاستئناف التجارية تشغل منصب وكيلة عامة للملك و4 مسؤولات فقط في منصب وكيلة الملك بالمحاكم التجارية إلى جانب رئيسة أولى واحدة لمحكمة الاستئناف الإدارية ورئيسة وحيدة لمحكمة إدارية.
ولعل هذه التغييب لدور المرأة القاضية في مراكز صنع القرار هو الذي دفع المشرع المغربي في دستور 2011 لتطبيق أسلوب الكوطا لضمان تمثيلية مشرفة للمرأة القاضية في المجلس الأعلى للسلطة القضائية نظرا لكفاءتها في الاضطلاع بمهمة عضوية هذه المؤسسة الدستورية الساهرة على تدبير الضمانات المخولة للقضاة.
ويلاحظ أيضا أنها حاضرة كذلك سواء كقاضية أو ممثلة للنيابة العامة، إذ مارست سنة 2018 حوالي 860 قاضية مهامها ضمن القضاء المجالس بينما تمارس 149 قاضية مهامها كنائبة لوكيل الملك أو الوكيل العام للملك. وهو ما انعكس بشكل إيجابي على النظام القضائي المغربي وعلى خدمة العدالة وعلى احترام حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، بحيث أصبحت تزاول عملها القضائي بالبت في جميع القضايا دون تفرقة بينها وبين الرجل القاضي وتترأس الجلسات بجميع أنواعها وواجهت التحديات والصعوبات التي كانت تعترضها في بداية الأمر.
وفي الأخير لا يسعني إلا القول بأن بلدنا المغرب يبذل جهودا كبيرة من أجل منح المرأة المغربية المكانة اللائقة بها، والتي أكدتها بفضل تقلدها لمناصب عليا كجهاز القضاء. وتكريسا لهذا التوجه القائم على قيم المساواة وتكافؤ الفرص والذي يشكل اللبنات الصلبة لبناء المغرب الحديث عزمت المرأة القاضية بكل إصرارعلى السير وفق هذا المنهج، فحققت المزيد من المهنية والاحترافية في العمل ورفعت من جودة الخدمات، فأتاحت لنفسها الفرصة لتحمل مراكز المسؤولية والقرار وتمكنت بكل اقتدار من إثبات كفاءتها وجدارتها في تسيير المرفق القضائي وخدمة العدالة وحماية الحريات وتحقيق العدل، كما أن تواجدها بسلك القضاء أعطى صورة مشرفة لها وللمرأة المغربية عموما وأكد بأن تحمل مهنة القضاء ليس رهينا بجنس معين وإنما بمواصفات وقدرات خاصة تؤهل من توفرت فيه للقيام بهذه المهمة الحساسة بغض النظر عن نوعه الاجتماعي.
نعيمة خـــتـــو
دكتورة في الحقوق
عضوة الجمعية المغربية للنساء القاضيات