فجأة وجدنا أنفسنا ننزلق في عزلة سحيقة أمسكت بنا مثل عصافير جريحة..
عزلة فجائية تسللت إلينا من بين ثنايا قدر جعلنا نكتشف بعضا من حقيقتنا، بل أهلنا لمخاطبة أرواحنا التي بتنا لا نعرف عنها سوى النزر القليل.!
فجأة تقلصت عوالمنا الكبيرة، وانكمشت الدنيا من حولنا لندخل عزلة اقتصادية وبدنية وعاطفية لم نخبر مثيلا لها طوال آدميتنا الممتدة.
ثمة ضيق يحاوط أرجاء المدينة وعتمة تطفو لتطفئ أراوح سكانها.
العالم ينهار من حولنا كما لو كانت نهايته.
كل الأحاسيس الغريبة والصور المريبة التي سبق أن شاهدناها أو قرأنا فصولا من عوالمها كانت محض نبوءات بما يحدث الآن.
يبدو الأمر وكأنه فيلم رعب تشابكت أطواره في انتظار أن يأتي البطل المقدام ليخلصنا. صرنا نتأرجح كثيرا بين الواقع والخيال، حتى ولو ظهر كودزيلا على شواطئنا، فلن نفاجأ بذلك.
القلق والتوتر والخوف.. هي الآن عناوين كبرى لحياتنا اليومية.
حرمنا من الأماكن التي كنا نرتادها ، والشوارع التي كنا نملأها صخبا..
من يصدق أن البيضاء المدينة الصاخبة والمليئة بالحياة ستصبح مأوى السكون والصمت المريب؟
قتلنا عاداتنا، وأزعجنا صيرورة أيامنا التي نعتناها بالأمس القريب بالرتابة.
استحوذ علينا القلق والتوتر والخوف والإحباط من عدم القدرة على رؤية من نحب… من عدم القدرة على لمس الأشياء مهما كانت ناعمة.
ممنوعون من المصافحة ومن المداعبة والمشافهة.. ممنوعون من الحب.
نحن اليوم في حجر صحي واقتصادي وعاطفي، مضطرون للقتال وحدنا ضد شياطيننا الحمر والخضر والتي بلا ألوان.
مضطرون للقتال وحدنا ضد همومنا وشكوكنا.
ومع ذلك سيتعين علينا البقاء على قيد الحياة.
هذا قدرنا، مجبولون على حب البقاء، متشبثون بالحياة حتى لو حلق الموت مستقربا جباهنا مثل طائر الخطاف.
كلما اقترب شبح الموت تتلبسنا غريزة البقاء وحب الحياة ككل المخلوقات على وجه الآرض.
الآن علينا أن نزن قيمة الأشياء.. بل وحقيقتها..
علينا ابتكار أنفسنا من جديد، وإعادة اختراع الأجمل ما فينا.
علينا منح أنفسنا مزيدا من فرص التأمل.
دقيقة من فضلنا، ونحن نعبر قسرا هذه اللحظات الحميمية مع أنفسنا..
لنخبرها فقد تسعفنا كي نعود إلى حيث يجب أن نعود..
ونخرج ما في قلوبنا، ونلفظ العالق بأحشائنا مما نتحمله غصبا بدعوى أو أخرى.
حان الوقت كي نغادر منتجعاتنا التي خلقنهاها لأنفسنا على حساب أنفسنا فألقتنا في أوهام بلا شطآن.
الحياة قصيرة، صرنا نعرف ذلك الآن أكثر من أي وقت مضى.
الحياة قاسية، صرنا نعرف ذلك الآن أكثر من أي وقت مضى.
الحياة مليئة بالمزالق، فلنروض أنفسنا على كيفية النهوض وإعادة النهوض.
لنروضها على تقلبات الوجود أكثر من أي وقت مضى.
إن كان علينا أن نحب فلنحب الآن ونقول لمن نحب أننا نحبهم…
لنخبرهم بذلك.. ولنردد ذلك كثيرا على مسامعهم “شكرا أنكم كنتم وستكونون”..
لنتشبث بالأمل ونتجاهل هذا العام الذي بدأ تحت أسوإ طالع. لنقذف به بعيدا، ونأمل في عودة الأشياء إلى سكتها، سنخرج أقوياء. وستكون التجربة أكثر ثراءً وأعمق.
أما الحياة، فعلينا أن نشربها إلى آخر قطرة.. ونستمتع بالحب. لا شيء يستحق العيش بدون حب.
الكاتب والناقد حسن حبيبي