كيف يمكن توظيف وباء كورونا في نص روائي؟
منذ سنوات، كنت كتبت رواية اسمها “إيبولا 76” مقتفيا أثر الهبة الأولى لمرض الحمى النزيفية، التي يسببها فيروس إيبولا، وكانت بالضبط في جمهورية الكونغو، وجنوب السودان. لقد كانت بالفعل هبة قوية، مدمرة، أسقطت آلاف الضحايا، لكن انحصر تأثيرها على مناطق محددة في القارة الأفريقية، ولم تمتلك أحذية تجوب بها كل البلدان المجاورة، ولا أجنحة تطير بها إلى بعيد وكان أن توقف إيبولا عن الأذى، ورقد خاملا سنوات طويلة. ثم ليستيقظ بعد ذلك في عام 2014، ويثير كثيرا من الرعب، لكن أيضا كان رعبا محدودا، حملت القارة الأفريقية معظمه، وعاد الفيروس إلى خموله من جديد.
الآن ظهر مرض كورونا، وهذه المرة في الصين، أكبر مصنع للجيد وغير الجيد من مفاصل الحياة الرغدة، الصين التي تخطت أفكار ماو تسي تونغ، ومجزرة تيان آن مين، وكثيرا من التواريخ غير المضيئة، وسطعت عملاقا، ولدرجة أنك تتلفت حولك في كل مكان، لتعثر على كل ما هو صيني، مثبتا أمامك، أو يمشي أمامك، أو يركض من حولك، ولم يبق سوى وقت قليل، لكي يندثر كل ما هو غير صيني، لصالح الصيني وحده.
لقد كان الفرق بين إيبولا وكورونا، منذ البداية واضحا، ذاك فيروس نبت في قارة مرهقة، وأخلص لها، وهذا في بلد عملاق، سينتشر منه إلى العالم كله، ولن يصبح الرعب محليا كما قلت في رواية إيبولا، بل رعبا عالميا، وبكل اللغات واللهجات، وحتى بالإشارات في الأماكن التي قد لا تسعفها اللغة، لتعبر عن الرعب.
لست هنا للتحدث عن كورونا كأعراض ومضاعفات، أو كرشح وأنفلونزا وآلام جسم وسعال قد تنتهي بالموت، فهذا معروف، وتم تداوله بكثافة في الأيام الأخيرة، في كل مكان، وحفلت نشرات الوقاية من المرض التي علقت في المستشفيات والمدارس ومولات التسوق بالصور والتوضيحات والإيماءات أيضا. وإنما أردت الإجابة عن سؤال ظل يرد إلى بريدي بكثافة في الأيام الماضية، من كتاب شباب، يتوقون إلى كتابة رواية وبائية، أي رواية عن وباء كورونا، وفي أذهانهم تدور أحلام كثيرة عن إمكانية النجاح والمجد، وربما جوائز بحجم الرعب الذي أحدثه، هكذا. كانوا يسألون:
كيف يمكن توظيف وباء كورونا في نص روائي؟ أو هل تعتقد أن رواية عن كورونا يمكن أن تنجح؟
في البداية كنت أتساءل: لماذا أسأل أنا، ولست وصيا على الكتابة، ولا أملك أي نصح كبير يمكن أن أهديه لأحد، ولست في النهاية سوى شخص حاول أن يكتب، فنجح حينا، وأخفق حينا آخر؟ ثم تذكرت فجأة أنني كتبت وباء إيبولا ذات يوم، لذلك، أصبحت من دون أن أدري، كاتبا وبائيا، لا بد من سؤاله، أسوة بآخرين قد يكونون كتبوا أوبئة مختلفة، إن كانوا أحياء، أو الاستفادة من تجارب من ماتوا منهم. ولدينا في تاريخ الكتابة رواية “الطاعون” لألبير كامو، ورواية “الحب في زمن الكوليرا” قصة فرناندو داثا، وحبيبته زوجة الطبيب للعملاق الكبير ماركيز، وعناوين أخرى لكتاب آخرين.
إذن يمكن أن يكتب كورونا، كما كتبت تلك الأوبئة، ولكن صيغة الكتابة، ليست واحدة عند كل من أراد أن يحول ذلك الفيروس اللعين وما يسببه من تلف، إلى نص سردي. إنها فكرة مثل أي أفكار أخرى، موجودة ومتاحة، وسيتناولها كل روائي من وجهة نظر لا تشبه وجهة نظر زميله.
“الحب في زمن الكوليرا” وضحت منذ البداية أنها رواية حب، شخص عشق امرأة، وأخلص في عشقه لها، وانتظر حتى شاخ وشاخت، وتزوجا، وكانت قد تجاوزت حتى طور الجدة، بكل فداحاته، وانعدام الأنوثة فيه، حين اقترن بها أخيرا. فقط كانت الخلفية التي تجرى فيها الأحداث، زمن تفشي وباء الكوليرا في منطقة الكاريبي. ماركيز لم يجعل الهلع من الكوليرا ينسيه أن هناك قصة حب تدور أحداثها، وعلاقات أخرى متشابكة، تتفكك أو تزداد تعقيدا. وفي الوقت نفسه، لم يجعل ذلك العالم الروائي الثري ينسيه أن الزمن هو زمن الكوليرا، وأن كل ما يحدث لا بد يرتبط بوباء الكوليرا، اجتماعيا واقتصاديا وإنسانيا، ستكون ثمة آلام موحدة، أحلام موحدة، رعب موحد، وكذا كل شيء آخر.
ولأن أحداث الرواية تدور في زمن بعيد، الزمن الذي كانت فيه الكوليرا شيطانا يمكن أن يهجم فجأة، ويغدر بالناس، وتصعب السيطرة عليه، فقد كان الهلع عظيما، إنه تقريبا الهلع نفسه الذي يحدث الآن مع انتشار كورونا. وأذكر أنني كنت صغيرا في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكنا في إجازة في قريتنا في شمال السودان، حين تفشى وباء الكوليرا، الذي يطلق عليه تهذيبا أو ربما محاولة لإخفاء الهلع: الإسهال المائي. كنت أرى الناس يتساقطون، خاصة كبار السن، وأرى الإسعاف التابع للمستشفى الوحيد في المنطقة يجوب تلك المناطق، يلتقط الذين يسقطون. وقد زودونا بكبسولات التتراسايكلين، التي كان يوزعها ممرض بزي أبيض متسخ وعينين ضائعتين من قلة النوم. لا أذكر أنني كنت خائفا أو مرتعبا، وربما لم تكن سني في ذلك الوقت قد تعرفت إلى الموت بصيغته الموحشة الكئيبة بعد.
المهم أننا نريد الآن أن نكتب فيروس كورونا، وقد أسميته الفيروس الطاغية، ليس بسبب جبروته، ففيروسات الإيدز وإيبولا، وحتى انفلونزا الطيور، أكثر جبروتا منه، وإنما بسبب سرعة الانتشار التي أحدثها توفر المواصلات في هذا الزمن، وإمكانية السفر لكل من أراد، وازدياد الاحتكاك في صالات الترانزيت، ومولات التسوق، وكل مكان قد يخطر على البال.
هنا وحين نكتب رواية هذا الوباء، سنكتب ذلك، نكتب سهولة الحياة، التي أدت لتعقيد محاولات القضاء على الفيروس، نكتب التداعيات الاجتماعية التي تحدث حين يتم عزل المصابين أو المشتبه في إصابتهم عن حيواتهم التي كانوا يعيشونها، التداعيات الاقتصادية بإلغاء الأنشطة التجارية هنا وهناك، انحسار كثير من الأصناف التجارية، وازدهار صناعة الأقنعة الواقية، وهذا ما ذكرته في رواية إيبولا، حين حول صاحب مصنع النسيج صناعته إلى الأقنعة وحدها. الأنشطة العلمية والثقافية، والتعليمية، بتعليقها إلى وقت غير مسمى.
وفي النهاية لا يكتب ذلك وحده، لا بد من فكرة تدور حولها الرواية، متخذة من كورونا خلفية مرعبة للأحداث، هذا ما أعتقده أو ما كنت سأفعله، لو كتبت رواية وبائية أخرى.
بقلم: أمير تاج السر