تعد المرأة رمزا للجمال الذي تهيم به الأفئدة وتلتذ به الأعين، لأنها محل الأنس وراحة النفس. وكثيرا ما انعكست صورة المرأة في ديوان شيخ متصوفة الملحون المغربي الشاعر عبد القادر العلمي، فقد اختار لها أجمل الألفاظ ووظفها في قصائده وأطال فيها إرضاء لنوالها، لأنها خمرة الشعر ورحيقه، يرتشفه الشاعر فتأخذه نشوة وما ينتبه منها إلا وفي فمه لحن سماوي، يتذوقه القارئ. وعليه يعد الجسد الأنثوي –حسب الشاعر الصوفي- قبسا من الجمال الإلهي ومظهرا من مظاهر الكمال الربَّاني، ولهذا لا ضير من وصف جزئيات جلال جسد المرأة في الصورة الرمزية الغزلية في ديوان الشيخ عبد القادر العلمي الصّادر عن أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 2009.
سمو الجسد الأنثوي
يتصف الجسد الأنثوي، في شعر عبد القادر العلمي، بصفة السمو، فهو جمال استثنائي مفارق لما هو اعتيادي بدرجات كبيرة، إنه جمال فائق وسام في آن معا، إذ لا يكون مؤنسا أو ممتعا، بقدر ما يكون مذهلا أو محيرا، وهذا يظهر بجلاء في “حربة” قصيدة “المحبوب” حيث يقول الشاعر:
كِيفْ إيْواسِي اللِّي افْرَقْ مَحْبُوبُه وبقَى بَلاَ عْقَلْ في الارْسَامْ افْرِيدْ
أنـا كِيـفْ اجْفانِـي احْبـِيـبْ قَلْبِـي
ما خَلَّى غِيرْ صُورْتـُه وانْعُوتُـه واخْيالُـه
من لاّ عَمْرِي انْظَرْتْ زِينْ في البْدُورْ ابْحالُه (ص.375)
يظهر سمو الجسد الأنثوي في هذه الأبيات بشكل جلي، حتى يبدو أنه جمال قد هبط من عل، ولهذا فهو أسمى وأعلى، ففي نظم الشيخ عبد القادر العلمي، نجد جسد المرأة وكأنه من عالم أسمى. وعلى الرغم من أن الشاعر يولي عناية خاصة بالجسد الأنثوي، فإنه يغذيه بالروحاني الذي هو أشبه باللاهوتي، وكأن عملية التخييل في هذا الشعر تنهض على المزاوجة بين الناسوتي واللاهوتي. فالجمال يدرك بدرجات متفاوتة، لكن يصعب وصفه بصفة واحدة، ومن ثمة لا يمكن تحديده بصفة مطلقة، لأن القانون الأوحد للجمال، أنه ليس للجمال قانون. والجميل في المتخيل الشعبي هو ما ينشئ في الذهن فكرة سامية عن الشيء، فيبعث في النفس عاطفة السرور منه، والإعجاب به. يقول الشاعر عبد القادر العلمي العلمي في قصيدة “المزيان”:
لَبْسَكْ مُول المُلْك من الجْمال تِيجان
وقَلْدَك من هِيبَة البْها بْسِيف ناحَر
بُرْهْمَان امْنَظَّم في سْلُوك من العُقْيَان
أَوْ تَاجْ امْكَلَّلْ مَرْكُوم بالجْواهَـر (ص.304)
نلمس وصف الجمال الفاتن الذي يأسر الأفئدة ويقهر القلوب المتعطشة للوجد، والإحساس بالجمال شعور موجود لدى الإنسان البدائي مثلما هو عند أكثر الناس تحضرا، وهو موجود في كل مكان، وفي كل شيء، وهذا الإنسان يحسه ويدركه إذا شاء. يقول الشاعر في قصيدة “البتول I”:
عَوضْ حُسْنْ ابْهاها ما شافْتُه انْجالِي
والنَّظْرَة في اجْمالْها كَتْفَجِي الهَـوْل
امْثِيل قامَة شِي رايَة قَدْهَا المالِــي
أو بْلَنْزة احْكيتْ في الرُّوضْ المَكْدُول(ص.265)
يتضح أن الشيخ عبد القادر العلمي اهتم بجانب الجمال حين سعى إلى تجسيده والتعبير عنه في قالب شعري رمزي يوحي بالسمو، فجمع بين الحب الإنساني والحب الإلهي، وعبر عنه بطابع روحي، ومن ثم فإن التوسل بجسد المرأة، ما هو إلا مطية ينطلق منها الشاعر الصوفي من النسبي إلى المطلق الكامل، الذي يجعله يتشوق إلى سدرة المنتهى، حيث يعتبر هذا الجسد مصدر وحيه وإلهامه، وبه يكون التجلي الأكمل للجمال، الجمال الأزلي الذي تمتعت به الأرواح قبل هبوطها إلى الأجسام. يقول الشيخ العلمي -قدس الله روحه- في قصيدة البتول 1:
أسْبَاب حُمْقِي وتَمْحانِي مع اهْبالِي
دَاتْ الشْفَر الغْلِيس والخَدْ المَشْعُول
اسَقاتْنِي من اخْمَرْها بكَاس مالِـي
وسْكَرْت بْحُبْها وسَلْبَتْنِي لا حُـول(ص.266)
استطاع الشاعر”عبد القادر العلمي” أن يخلع على الجسد الأنثوي صفات علوية وقدسية ليعبر عن الحب الإلهي بألفاظ الحب الإنساني، وما يتصل به من وصل وقرب، وهجر وفراق، وشوق ولوعة، إلى غير ذلك من العبارات والأساليب التي أطلقت عنان الخيال لمشاهداته الغزلية اللطيفة. لأن التجربة الصوفية زاخرة بالحزن والغربة جراء فراق الجسد الأنثوي الطاهر العفيف، ومشوبة بالشوق والحنين إلى الماضي الجميل. ومن هنا نجد شاعرنا يتوسل في غزلياته الصوفية بقوالب أسلوبية موروثة عن الغزل العفيف، ومن هذه الأساليب خاصية الجنون التي وسمت شخصية بعض العذريين وخلخلت قواهم الشعورية نتيجة الصراع بين مبدأ العشق ومبدأ الواقع، مثل قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى. ويماثل هذا الطابع ما شاع عند المتصوفة من أحوال الوجد والغيبة والاستهلاك في المحبوب نتيجة قوة التجليات الإلهية. ومثل ذلك قوله:
قبلت خدها من شوقي وجنيت
في ارياض الباهي وطيب نسماته
وسقاتني بريق تغرها وحييت
واستحليت رحيق طيب نشواتـه(ص.316)
والمتمعن في هذين البيتين لا يعدم فيهما الغزل الإنساني الحقيقي، حيث يصور فيهما الشاعر جسد محبوبته، دون أن يسمو بعاطفته إلى ما هو أسمى وأرقى من ذلك، فهو كغيره من الناس تعتريه لحظات يخضع فيها إلى ما يخضع له الرجال، ويتأثر بما يتأثرون به، فيفتتن بجمال جسد محبوبته، وينجذب إليه، ويهيم بحبه، فيستقصي محاسنه المادية، فيذكر خدها الحسن، وثغرها العذب، لكن قوة الوجد الذي يعتمل في أعماقه تقطع عليه طريق الاسترسال في وصف هذه المحاسن، لينجلي جوهر غزله، ويتحول جسد محبوبته إلى رمز صوفي حافل بالدلالات والإشراقات الباطنية. ومن ثمّة استطاع شاعر الملحون الصوفي أن يعرب عن الحب الإلهي بطابع وأسلوب رمزي لافت، تجسد ذلك من خلال ديوانه الشعري، ثم إن جمالية هذا الرمز قد تمظهرت بواسطة الطابع الغزلي الذي أضفاه على قصائده المتضمنة في الديوان والموسومة بالعشاقيات، التي أبرز من خلالها، كيفية نفاذه إلى جمال الخالق عن طريق جمال المخلوق، لذلك نراه حينما يتحدث عن الحب الإلهي، كأنه يخاطب امرأة بعينها. لكن قد يكتنف الصور الغزلية بعض الغموض، فيتعذر على المتلقي استخلاص المعنى المنشود كقول الشيخ عبد القادر العلمي:
وهو يا سيدي وانغوص عن ادرار الحُسْن في غمق اللجوج
عاسى إلا وقف ليّ ميزانـي
وجاب الغنايم قرصانـي
وتاكـ ضو البدر السّاني
على امكاني
وجهه عندي عز من مقلاتـي
عبد لِه طول حياتـي(ص.313)
إن ظاهر هذه الأبيات يوحي بالمحبة والشوق، لكن باطنها يدل على غوص الشاعر الصوفي في أعماق بحار وحدانية الله بحثا عن أسرارها. لأن رمز الجسد الأنثوي قد تعين طريقا للتعبير عند الشاعر الصوفي، فوجنات الحبيب الموردة تمثل عنده ذات الله منكشفة في صفاته، وغدائرها الليلية تصور الواحد محجوبا، وكل ما يذكره في أبياته من صور وتعيينات مختلفة لجمال هذا الجسد الذي يبعث على الذهول إنما يقصد به الحقيقة الإلهية. وهذا ما يجعلنا نقرُّ بأن للغزل والنسيب أهمية بالغة في عملية الإبداع والخلق الفني، لاسيما في إضافة الرموز والكشف عن محتواها، فقد استطاع شاعر الملحون الصوفي أن يسمو بصور الغزل الحسي لتأخذ خطوطها وأبعادها الروحية في قصائده.
على سبيل الختم
بناء على ما سلف من طرح، نستخلص أن الجسد الأنثوي أذكى جذوة الإبداع الشعري وحفَّز الشاعر عبد القادر العلمي على إنتاج ديوان شعري متميز في خصوصيته البنيوية، إذ افتتن بجمالية هذا الجسد وعبر عن الهيام به. تماما كما وصف لوعة الحب وكشف عن آثاره على المحب العاشق، وما تعترض سبيله من محن ومثبطات قبل أن يصل إلى الهدف المنشود. وهكذا عبّر الديوان عن تصور علائقي، إذ يبدو التفاعل معه عملية تواصلية، تكسب المتلقي بعدا جماليا يثري اللغة بمدونة غنية الألفاظ والعبارات. وقد أصبح هذا التفاعل واقعا ملموسا، من خلال ديوان الملحون الصوفي الحافل بقضية الحب، حيث تم تحويل وصف المعاناة في الحب الإنساني المؤسس على الانفصال بين المحب والمحبوب، نحو موضوع قائم على الاتصال بينهما. وهذا ما وجدناه يُتداول بأساليب مختلفة عند شاعر الملحون الصوفي الذي أوجد مقاربة ومدَّ جسورا بين التصوف ومختلف الموضوعات السائدة في الشعر العربي.
بقلم: عز الدين المعتصم