أجمع عدد من المختصين والخبراء في الاقتصاد والسياسة أن مشروع القانون المالي لسنة 2020 ظل كسابقيه من القوانين المالية، ولم يأخذ بعين الاعتبار مرحلة تفشي “كوفيد – 19″، وما عرفه العالم عموما والمغرب خصوصا من تحديات.
وأضاف المتدخلون، في جلسة عمل موضوعاتية حول قانون المالية لسنة 2021 ، نظمتها المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، أول أمس الاثنين، أن مشروع المالية للسنة المقبلة لم يقدم أي جديد، ولم يأخذ بعين الاعتبار الحاجيات التي برزت خلال السنة الحالية بسبب تفشي الوباء، وما أحدثه هذا الأخير على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى الاجتماعي.
وشدد المتحدثون على أن الحكومة اختارت حلولا سهلة للتمويل للمشروع المالي الجديد، والذي ارتكز على الاقتراض ووضع فرضيات طموحة، والاتجاه نحو الخوصصة، معتبرين أن ذلك من الأمور التي تجعل من هذا القانون ضعيفا ولا يستجيب للانتظارات والتطلعات التي تتماشى والمرحلة الحالية.
في هذا السياق، وفي قراءة أولية في مشروع مالية 2021، أورد عبد الأحد الفاسي الفهري، عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، أن القانون الجديد يأتي في سياق صعب ويطبعه تراجع وانكماش على المستوى العالمي ككل بسبب فيروس كورونا وتأثيره على الاقتصاد العالمي.
وتابع الفاسي الفهري أن الأزمة كانت أكثر حدة بالنسبة للمغرب، بالنظر لكونها كشفت عن حجم الهشاشة الكبير الذي تعاني منه فئات واسعة، كما ساهمت الأزمة في اتساع رقعة الفقر في المغرب لتشمل ملايين الأسر.
وأوضح عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية أن الحزب يراعي الظرفية ويعرف إكراهاتها، ويؤكد على أنه لا يمكن الاستخفاف بالتحديات المطروحة أمام البلاد في المرحلة الحالية والمقبلة.
وأبرز عبد الأحد الفاسي أن هذا النقاش المرتبط بالصعوبات وغيرها لا يشكل ذريعة للحكومة من أجل وضع قانون مالي ضعيف، لا يستجيب للحاجيات ومتطلبات المرحلة، وأساسا على مستوى الإنعاش الاقتصادي وعلى المستوى الاجتماعي، وخصوصا ورش التغطية الصحية الشاملة والحماية الاجتماعية، والتي أبانت مرحلة تفشي وباء كورونا الحاجة الأساسية لها في ظل اتساع رقعة الهشاشة والفقر وسط ملايين الأسر المغربية.
وأكد المتحدث أنه لا يمكن بناء مشروع مالي بناء على فرضيات صعبة أو غير ممكنة والاعتماد على فرضيات مبالغ فيها، واختيار حلول سهلة كاللجوء إلى الاقتراض وغيرها، مشيرا إلى أن عجز الميزانية فاق 7.6 بالمئة.
ومن ضمن الفرضيات التي قال عبد الأحد الفاسي إن الحكومة بنت عليها مشروع مالية 2021، تعافي اقتصاد الشركاء الأساسيين وخصوصا بأوروبا، بالإضافة إلى توقع محصول زراعي يفوق 70 مليون قنطار، موضحا أن هذا الرقم كان ضمن النتائج المتوقعة لمخطط المغرب الأخضر “بين 80 و90 مليون قنطار”، في حين لم يتحقق في السنة الحالية سوى 30 مليون قنطار، مبرزا أن هذا التوقع يبقى مبالغا فيه بالنسبة للمشروع المالي الجديد بالنظر لما يحققه المغرب سنويا.
كما شدد المتحدث على أن هناك توقع بنمو يصل إلى 4.8 بالمئة، في الوقت الذي يبلغ فيه العجز بين 6.5، و7.5 بالمئة، داعيا إلى ضرورة استحضار هذه الوضعية واستحضار التوازنات الماكرو اقتصادية.
ودعا المتحدث إلى ضرورة أن يراعي مشروع المالية الجديد إكراهات وتحديات المرحلة، وأن يتضمن حلولا لإنعاش الاقتصاد والتخفيف من وطأة الضرائب على المقاولات التي تعرف مشاكل مرتبطة بتفشي الوباء، فضلا عن استحضار التوجهات الملكية السامية والتي من ضمنها إنعاش الاقتصاد وتطويره وورش تعميم الحماية الاجتماعية، مجددا التأكيد على أن القانون المالي في صيغته الحالية لم يستجب لهذه التطلعات.
بدوره أكد الخبير الاقتصادي الدكتور محمد بنموسى أن القانون المالي الجديد لم يأت بأي جديد وظل بشكل كبير مشابها للمشاريع المالية السابقة، بحيث أن بنيته العامة لم تتغير وبقيت نفس الأولويات، مع تغيير طفيف مرتبط بالرفع في الميزانية بالنسبة لبعض القطاعات، في حين ظلت الأولويات كما هي.
وأضاف بنموسى أنه بالرغم من الوضعية الاستثنائية التي يعيشها المغرب والعالم عموما، اختارت الحكومة أن تستمر في نفس النهج بخصوص القانون المالي، ولم تكيفه مع حاجيات المرحلة، وما فرضته الجائحة من متغيرات ومتطلبات، أيضا، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
وعن تمويل هذا المشروع، أوضح الخبير الاقتصادي أن الحكومة تختار الحلول السهلة من قبيل الاقتراض والتوجه نحو الخوصصة، من خلال تحويل مؤسسات عمومية إلى شركات، فضلا عن الضرائب، وإحداث ما سمته بمساهمات تضامنية، معتبرا أن هذا النوع من الضرائب يرسخ النظام الضريبي المعتمد والذي يفوت على خزينة الدولة الملايير، بسبب افتقاده للنجاعة.
في هذا الإطار، شدد بنموسى على أن المدخل لإصلاح الأعطاب الاقتصادية والاجتماعية ينطلق بإقرار نظام جبائي ناجع، ينهل من توصيات مناظرة الجبايات، بحيث تتحقق العدالة الجبائية، ويتم خلق توازن بين مختلف القطاعات من جهة، وأيضا في النسيج الاقتصادي، من خلال المساواة بين جميع المقاولات من جهة أخرى.
وأفاد بنموسى أن الظرفية الحالية ظرفية مواتية لإصلاح النظام الجبائي، خصوصا مع التحديات والصعوبات المطروحة أمام الميزانية والانتظارات الاجتماعية من مشروع المالية الجديد، بحيث ستساهم الإصلاحات في حالة اتخاذها بالنهوض بالميزانية مما سيسمح ببلورة تصور اجتماعي اقتصادي قوي يساير انتظارات المواطنات والمواطنين ومختلف الفئات والأوساط، بما فيها المقاولات.
وقال بنموسى إن القيام بهذه الإصلاحات يبقى ضروريا في الظرفية الراهنة، مشيرا إلى أن الحكومة، وفي حالة عدم القيام بهذه الإصلاحات في الظروف الحالية التي يعيشها المغرب، فإنه من المستحيل أن تقوم بهذه الإصلاحات في ظل أوضاع أخرى، منبها إلى أن المرحلة تتطلب قوة وجرأة سياسية، وأيضا، إرادة من أجل الإصلاح واتخاذ القرار المناسب، سواء فيما يخص نظام الجبايات، أو فيما يخص اختيارات القانون المالي، وذلك قصد معالجة الاختلالات الاقتصادية والفوارق الاجتماعية.
من جانبها، وفي نفس السياق، أكدت عائشة لبلق رئيسة المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية أن مناقشة القانون المالي الجديد تأتي في ظرفية استثنائية بسبب تفشي فيروس “كوفيد -19″، مضيفة أن هناك انتظارات قوية في مختلف الأوساط، بشأن ما سيأتي بهذا المشروع.
وأضافت لبلق أن الجميع كان يراهن على أن الحكومة ستتخذ بعين الاعتبار صعوبات المرحلة وحاجياتها، وأساسا على المستوى الاجتماعي ومحاربة الهشاشة، في حين جاء المشروع بنفس باهت ولم يأت بأي جديد يذكر، باستثناء إجراءات تهم الزيادة في ميزانية بعض القطاعات والتي تبقى محتشمة ولا ترقى إلى المستوى المطلوب.
وشددت المتحدثة على أن مشروع المالية أبان عن عدم قدرة الحكومة على قراءة الأوضاع وإيجاد حلول ناجعة لبعض الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والاستجابة لانتظارات المواطنات والمواطنين، مشيرة إلى أنها اكتفت بالأمور السهلة، سواء من حيث تمويل هذا المشروع، أو من حيث البرامج التي تضمنها، والتي لا تساهم في تذليل العقبات والتحديات التي تراكمت مع مرحلة تفشي الوباء.
وحذرت لبلق الحكومة من الاستمرار في نهج السبل السهلة لتمويل المشروع، وخصوصا الاقتراض وإغراق ميزانية الدولة في المديونية وفرض ضرائب وجبايات تحت مسمى التضامن، حيث اعتبرت أن التضامن كفعل مجتمعي مطلوب ومحبذ للتعاون بين المغاربة في ظل الظروف الحالية، لكن لا يمكن أن يكون ركيزة للتمويل في مشروع المالية.
وبخصوص التوجهات الملكية السامية التي وردت في خطابي العرش وافتتاح السنة التشريعية الحالية، كشفت لبلق أن مشروع قانون المالية أبان عن عدم قدرته على ترجمة هذه التوجهات، واكتفى بالحديث بشكل عام عن النهوض ببعض القطاعات كالصحة والتعليم الذين تم الرفع من ميزانيتهما في المشروع المالي الجديد، مشيرة إلى أن هذه الزيادات لا ترقى إلى المستوى المطلوب وإلى الحد الأدنى لتغطية الخصاص الذي يعرفه القطاع والذي زاد تفشي الفيروس من إظهار فداحته.
إلى ذلك، وفيما يتعلق بمشروع مالية 2021 وتعميم التغطية الصحية، أفادت الدكتورة مريم بنعبد السلام الباحثة في مجال “جراحة الدماغ” والأكاديمية في المجال الاقتصادي والمالي أن القانون المالي الجديد تخبط في إيجاد مصادر مالية لتمويل التغطية الصحية الشاملة التي دعا لها جلالة الملك في خطابي العرش وافتتاح السنة التشريعية.
وأوردت مريم بنعبد السلام أن إقرار ضريبة تضامنية يطرح أكثر من تساؤل حول من المتضامن ومع من؟، مضيفة أن هذه الصيغة تطرح تساؤلات بخصوص تنفيذ ورش تعميم التغطية الصحية وما مدى قدرة الحكومة على النجاح فيه.
وقالت المتحدثة إن إنجاح هذا الورش، من خلال تدبيجه في مشروع قانون المالية والمشاريع التي ستأتي فيما بعد، تحتاج إلى تحديد مصادر تمويل هذا الورش الاجتماعي الكبير وتحديد آليات اشتغاله والإرادة القوية في اختيار نموذج هذه الحماية الاجتماعية.
وأبرزت الدكتورة والإطار بوزارة الصحة أن هناك نماذج متعددة للحماية الاجتماعية، وأساسا منها نظام التأمين الإجباري والضمان الاجتماعي، مشيرة إلى أن إقرار نظام يحتاج إلى اختيار قوي وبإرادة حول النموذج الذي نريد، حيث لفتت الانتباه إلى أن هذا الورش يجب أن يأخذ بعين الاعتبار بكونه يأتي في إطار محاربة الهشاشة ويستهدف ملايين الأسر التي يعيش أغلبها الفقر، والتالي يجب تحديد نظام الحماية وهل يبنى على التدخل المباشر للدولة أم على مساهما الأفراد.
وحثت بنعبد السلام على ضرورة الاختيار وتقييم النموذج الأنسب لهذه الحماية ومراعاة ضعف شبكات الحماية الاجتماعية، خاصة بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة، والبحث عن بدائل أخرى للتمويل بدل حصرها في ضرائب تضامنية في مشروع المالية قد يخلق صعوبات فيما بعد.
من جانبه، أكد صلاح كرين الخبير الاقتصادي والقيادي في حزب التقدم والاشتراكية أن عددا من التدابير الجبائية التي تضمنها مشروع القانون المالي تتطلب إجراء نقاش عميق بشأنها، خاصة وأنها لا تشكل مدخلا للعدالة الجبائية، كما أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاستثنائية التي عاشتها البلاد جراء تفشي كوفيد – 19، وأيضا ما أحدثه الوباء على باقي دول العالم، لاسيما الدول التي يتعامل معها المغرب اقتصاديا.
ويرى كرين على أن هناك حاجة لإرادة سياسية قوية ورغبة في إصلاح النظام الجبائي وفق التوصيات المنبثقة عن المناظرة الوطنية الثالثة للجبايات المنعقدة بالصخيرات سنة 2019، وذلك للتأكيد على التزام الدولة بالحرص على احترام القانون من طرف الجميع، وكذا العمل على احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للملزمين، والحرص على ملائمة قواعد القانون الجبائي مع القواعد العامة للقانون، فضلا عن ترسيخ مبدأ المساواة أمام الضريبة و بها، والحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية.
من جهة أخرى، أوضح الخبير الاقتصادي أن مشروع المالي الجديد يعاني من إشكالية التقائية البرامج، بحيث أن كل قطاع يحدد برامجه والميزانية المرصودة دونما التعاون وتحديد برامج مشتركة، خصوصا في القطاعات التي تعرف تداخلا بين برامجها.
وشدد كرين على أن القانون الجديد ظل دونما الانتظارات ودون النجاعة المطلوبة في برامجه التي لم تأخذ بعين الاعتبارات المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها الجائحة.
بدوره، يسجل الباحث محمد حبيب الكرادي أن مشروع المالي الحالي لم يخرج عن المألوف واكتفت الحكومة بوضعه بشكل مطابق للمشاريع المالية السابقة من حيث الاختيارات والأولويات.
وأوضح محمد حبيب أنه بالرغم من بعض النقاط الإيجابية والرفع في ميزانية بعض القطاعات، تبقى دون المستوى المطلوب لاسيما في قطاعي الصحة والتعليم، واللذين يحتاجان إلى اهتمام كبير جدا، خصوصا بعد الخصاص الذي عراه تفشي الوباء وفترة الحجر الصحي.
وإلى جانب ذلك، لفت محمد حبيب إلى ضرورة الاهتمام بقطاعات أخرى كالثقافة والرياضة وعدم تهميش عدد من المجالات التي تعد بدورها أساسية للتنمية، مشيرا إلى أن هناك حاجة إلى مشروع مالي قوي بنفس إصلاحي ناجع يتماشى واحتياجات الظرفية.
هذا ويذهب المتحدث إلى الاتفاق مع ما أورده كل من الخبيرين في الاقتصاد محمد بنموسى وصلاح كرين، وأساسا فيما يتعلق بإصلاح الجبايات والبحث عن البدائل الممكنة لتمويل المشروع والأوراش الاجتماعية الكبرى وأساسا ورش الحماية الاجتماعية.
يشار إلى أن اللقاء الذي سيرته عائشة لبلق، رئيسة المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية، عرف إلى جانب المتدخلين، حضور كل من ثريا الصقلي، فاطمة الزهراء برصات، سعاد الزايدي، رشيد حموني، جمال كريمي بنشقرون، أعضاء المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، بالإضافة إلى ربيع الوفودي الكاتب الأول للفرع الإقليمي بالرباط، الذين أكدوا، في مداخلات لهم، على ضرورة تنبيه الحكومة إلى الاختلالات في المشروع المالي.
وشدد منتخبو حزب التقدم والاشتراكية بمجلس النواب على ضرورة وضع نفس اجتماعي قوي في مشروع المالية الجديد، والبحث عن بدائل تمويل أخرى، بدل الارتهان للحلول السهلة والتوجه نحو الخوصصة وفرض ضرائب جديدة على المواطنات والمواطنين.
هذا، وخلص المتدخلون في اللقاء الذي نظمته مجموعة حزب “الكتاب” بمجلس النواب، إلى كون مشروع مالية 2021 الذي جاءت به الحكومة ضعيف، ولا يرقى إلى حجم الانتظارات، ولا يستجيب لمتطلبات المرحلة، كما أكدوا أن الحكومة الحالية لم تستطع ترجمة التوجهات الملكية السامية، وما ورد في خطاب افتتاح البرلمان من توجهات كبرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وتشجيع الاستثمار في المشروع الجديد، واكتفت بالارتهان للحلول السهلة.
> محمد توفيق أمزيان
> تصوير: موسى رضوان