ثمةَ تحول جذري، لا تخطئه العين، في التعاطي مع ملف الصحراء المغربية منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية الشريفة…
هذا التحول كان ولا يزال عنوانُهُ الأبرز طرح خيار التسوية السياسية، من خلال مقترح منح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية للمملكة، وإقناع معظم المنتظم الدولي والقوى المؤثرة بعدم واقعية تقنية الاستفتاء كشكلٍ غير وحيد من أشكال تقرير المصير… وذلك بالنظر إلى إعاقة خصوم وحدتنا الترابية لعملية حصر هوية الصحراويين المغاربة المحتجزين بمخيمات العار في تندوف والحمادة، وبالنظر إلى ثبوت عدم إمكانية ضبط عددهم، واستحالة تحديد من له الحق في المشاركة في ذاك الاستفتاء الذي صار في خبر كان ممن ليس له الحق في ذلك….
وهو ما يفسر كون جميع تقارير الأمين العام للأمين المتحدة وقرارات مجلس الأمن، خلال السنوات الأخيرة، تخلو تماما من أي إشارة لخيار الاستفتاء، في مقابل ورود خيار الحكم الذاتي لعشرات المرات…مع ذكر هذا الأخير، على الدوام، بكثير من التقدير والاحترام، حيث يتم وصفه في كافة هذه التقارير والقرارات بأنه مقترح جدي وذو مصداقية، وبأنه يشكل أساساً موثوقا لتسوية سياسية عملية وواقعية ومتوافق بشأنها.
ذلك ما جعل موقف بلادنا، تحت القيادة النيرة لجلالة الملك حفظه الله، موقفاً قويا و”هجوميا”، على الصعيد الدولي. وهو ما أفضى إلى سحب معظم الدول لاعترافها بجمهورية الوهم والسراب والأكاذيب والارتزاق…وهو ما جعل بلادنا تفرض توقيع عدد من الاتفاقات الاقتصادية مع شركائها، تشمل كافة التراب الوطني وخيراته، بما في ذلك تراب وخيرات أقاليمنا الجنوبية، بلا تحفظ ولا تردد من أيٍّ كان…ولا هم يحزنون.
لكن مغرب عهد الملك محمد السادس لم يكتف بذلك، على أهميته القصوى، بل توجه مباشرة، بعزمٍ وجرأة وإقدام، وبحكمة وتبصر، إلى اقتحام الفضاء الوحيد الذي كان مرتعاً لترويج أطروحات الوهم، أي إلى الاتحاد الإفريقي…. وسجل المغرب عودة قوية وناجعةً وفاعلةً ومدويةً….إلى هذه الهيئة القارية، وتبوأ فيها، في ظرف وجيز، المكانة التي كان يستحقها دائماً….فتهاوت رويدا رويداً منابع القوة الوهمية التي كان الوهم يتبجح بها….وصار للمغرب منبرٌ جديد عرف كيف يستثمره، بتعاون واحترام متبادل مع البلدان الإفريقية، روحيا واقتصاديا ودينيا واجتماعيا وثقافيا وتنمويا وسياسيا….
والنتيجة ها هي ماثلة أمامنا، اليوم، رائعةً وواضحة: الاتحاد الإفريقي يتبنى موقفا حياديا وبناء من القضية المفتعلة حول الصحراء المغربية، كما أنه اليوم يُـــقِــرُّ بأن العملية السياسية هي شأنٌ حصري تـُـدَبِّـــرُهُ الأمم المتحدة، وليس أيُّ هيئة دولية أو إقليمية أخرى.
في خضم ذلك، لم يكتف المغرب بوضع كل بيضه في سلة الديبلوماسية والعلاقات الدولية، بل بادر، بنظرة ثاقبة لجلالة الملك، إلى بلورة وتنفيذ نموذجٍ تنموي خاص بأقاليمنا الجنوبية العزيزة، وإلى إطلاق مشروع تنموي اقتصادي كبير وشمولي ومتكامل ومندمج مع عمقه الإفريقي: الطريق السيار بين تيزنيت، العيون، الداخلة،وصولا إلى موريتانيا وداكار؛ تأهيل المعبر الحدودي للكركارات وتأمين تنقل البضائع والسلع والمواطنين بين المغرب وموريتانيا الشقيقة؛ مشروع الطاقات الريحية بالعيون وطرفاية؛ مشروع ميناء الصيد بالعيون؛ مشاريع معامل الأسمنت؛ مشروع خط أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب؛مشروع ميناء الداخلة الأطلسي؛ تحديد وترسيم وتقنين خطوط وحدود الملاحة البحرية على طول 3500 كيلومترا من الواجهة الأطلسية….
كل هذه المشاريع الكبرى والعملاقة بدأت ثمار بعضها تعطي أكلها للمنطقة تحديدا، وللوطن عموماً،وبعضها الآخر في الطريق….وستساهم جميعها، لا محالة، في خلق أنشطة اقتصادية وتجارية وفلاحية وصناعية وسياحية بالأقاليم الجنوبية، مما سيجعلها، قريباً، قِـــبلةً لشبابنا عموما ولشباب أقاليمنا الجنوبية على وجه التحديد، ولشباب دول الساحل الإفريقي أيضاً،من أجلإيجاد فرص شغل متنوعة ومتعددة أساسها،كذلك، البناء الصلب والقوي للنسيج الاقتصادي الاجتماعي التضامني،والاستثمار المنتج للثروات البحرية والمعدنية والريحية والشمسية والفلاحية التي يزخر بها جنوب المملكة الشريفة الموحدة.
إن هذه الرؤية التنموية للأقاليم الجنوبية،والتي يسهر الملك محمد السادس على تنزيلها وتسريع وتيرتها،لا يختلف اثنان حول يقينية أنها ستساهم،على امتداد وفي أفق العشرين سنة المقبلة، في خلق تجمعات اقتصادية، وفي بعث دينامية تجارية، وفي إفراز شرائح اجتماعية جديدة تدمج العنصر البشري الإفريقي الواعد ضمن أحد روافده الأساسية، أي العمق والرافد المغربي….والعكس صحيح.
لقد أفحمت المقاربة المغربية، سياسيا وديبلوماسيا وتنمويا،بفضل نفعيتها العامة ووجاهتها وطموحها وذكائها، المشروع التضليلي لجبهة البوليساريو… وأسقطتِ المسعى السيئ لحكام الجزائر،في التعاطي مع قرارات مجلس الأمن الدولي، وخاصة القرارات 24/46و 24/14والقرار الأخير 25/48… الذي جعل جبهة “سنطيحة” الارتزاق تتخبط خارج الشرعية والمشروعية الدولية،فانكشفت حقيقتها أكثر، وظهرت عاريةً على أنها فعلا تعيش حالة تمرد يائس، وأنها غير قادرة على تنفيذ تعهداتها إزاء المنتظم الدولي، كما أنها تطاولت على مجلس الأمن بالطعن في قراراته، وعلى الأمين العام للأمم المتحدة وعلى توصياته وتقاريره،حتى أنه وُصف ب”المنحاز”… فدخلت القضية المفتعلة فعلا في منعطف نوعي وتاريخي لصالح بلادنا، وتكرست عزلة البوليساريو، ومن يقف وراءها،… وباتت غير قادرة على الاستمرار في التباكي التمساحي … ولا على إثارة مزيد من الانتباه والشفقة…. كما تعودت على فعل ذلك بشكل بئيس يثير الاشمئزاز.
هكذا، باءت كل محاولات خصوم وحدتنا الترابية بالفشل الذريع، بعد أن حاولوا، يائسين خائبين، العودة بالملف إلى الوراء…بعدما أن عجزوا عجزا بَــيِّــناً في مُجاراةِ المقترحات والمبادرات المغربية المِقدامة…
وفي المقابل، تميز سلوك بلادنا بالانضباط للمقررات الأممية، وبالحكمة والتبصر والمسؤولية، وبضبط النفس في التعاطي مع استفزازات وتجاوزات البوليزاريو، حيث تم تسجيل أزيد من 56 خرقا عسكريا من طرف ميليشياتها خلال العام الجاري فقط… وقد عبر المغرب من خلال ذلك على انتصاره للتعاون والسلام والأمن والحوار،وعَبْرَ تطلعه إلى اعتماد حل سياسي واقعي ومتوافق عليه تحت الرعاية الحصرية للأمم المتحدة….
إن البوليساريو اليوم، وبشهادة كل المراقبين الموضوعيين،صارت، أكثر من أي وقت مضى،تشكل حجر عثرة أمام إحلال السلام والتنمية في منطقة الساحل الإفريقي والصحراء حيث مخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة السرية… كما أن خيار الاستفتاء أُسقط نهائيا من أجندة الأمم المتحدة، وأصبح مقترح الحكم الذاتي هو الخيار الوحيد الجدي فوق الطاولة… وعلى الجميع أن يتحمل مسؤوليته في إنجاح هذا الخيار، وأساساً الأطراف التي تُشير إليها صراحةً تقاريرُ الأمم المتحدة، وتحديدا: الجزائر.
أمام هذه التطورات والمستجدات النوعية، يتأكد نجاح المغرب في الانضباط للقرارات الأممية من جهة، وفي بناء نموذج تنموي صلب قاعدته الصحراء المغربية وأفقه كاملُ الساحل الأفريقي، بغرض بناء فضاءٍ اقتصادي دولي متين.
لهذا، يظلالسعيُ نحو إحداث منطقة اقتصادية مشتركة بين المغرب وموريتانيا خطوة مهمة من شأنها أن تساهم في مزيد من تضييق الخناق على البوليساريو، أو بالأحرى على من يقف وراءها سرا وعلانية…. مع مساعدة موريتانيا وتكثيف التعاون الوثيق معها، لكي تتمكن من تكريس وإحكام استقلالية قرارها السيادي، وعدم ترك أي مجال للاسترزاق الجزائري بهذا الصدد !!!!؟ وهذا، على ما يبدو، هو المنحى الصحيح الذي تسير فيه حاليا موريتانيا الشقيقة.
أختم هذا التأمل بتوجيه التحية العالية إلى القوات المسلحة الملكية الباسلة على الحنكة والحكمة التي تدير بها هذا الملف ميدانيا تحت القيادة الرشيدة والتوجيهات المتبصرة للملك محمد السادس نصره الله وأيده.
والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده.
بقلم: د. عبد النبي عيدودي
باحث في الشؤون السياسية، مدير المركز المغربي للقيم والحداثة، حاصل على دكتوراه في القانون الدستوري وعلم السياسية، وعلى دكتوراه في العقائد و الأديان السماوية