أقول في الحاجة إلى (المسرح)، لا في الحاجة إلى مسرح، هكذا إمعانا في التعريف، حتى أحس أكثر بثقل الكلمة وبشخصيتها الفنية المتميزة والمتفردة… نعم المسرح مع سبق الإصرار والترصد. الفن الذي لا يعني الكثير للبعض، بينما يرقى بالنسبة لفئة محددة إلى مقام الضرورة والحاجة الماسة التي تساهم حقيقة لا مجازا في استمرارية نبض الحياة وفي تمثل الحاضر والمستقبل، أي أنه يصبح مصدر إدمان، باعتباره الترياق للتعافي من صروف الدهر، التي ما فتئت تتفاقم، فتنهش الحب والحلم في زمن “الكورونا”.
هو المسرح إذن، مثله مثل الهواء الذي تطلبه الرئة، فلماذا تعمُّد وضع كمامة على وجهه كاملا.. فلا يتنفس ولا يُشاهَد؟ وكأني به ستصيبه عدوى الوباء من هذا الإنسان الذي لا يرتاده ولا يقيم له وزنا في الأيام العادية، فما بالك وقد تأزمت وانحسرت دوائر الاتصال والتواصل الحي والمباشر؟ ليكون المتضرر الأول والأخير أصفياءه وأوفياءه، الذين قد يموتون بموته.
إن الحاجة إلى المسرح تزداد بازدياد حجم المعاناة الإنسانية، فإذا كانت الكوابيس تطاردنا ليلا، فلا نحفل بأحلام ترد إلينا بعضا من فرحنا وأملنا، فإن المسرح يبقى وفيا إلى روحه وإلى جوهره الأزلي: صناعة الفرح والجمال. فهل سنكمم المسرح ونكمم معه حتى أحلام أطفالنا بإقصاء العروض المسرحية عن محيطهم العام والخاص؟
إلى متى سيظلون مشدودين إلى شاشات الهواتف الذكية والحواسيب واللوحات الإلكترونية… هل سيجدون مسرحا في تطبيقات التيك توك والأنستغرام والسناب شات…؟ هل سيفهمون الحاجة إلى (المسرح) من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؟ سيكبرون وستكبر معهم فجيعة المسرح، لأنه قد يصبح غريبا منبوذا أكثر مما هو عليه اليوم. إذا سلمنا بأن جيل الغد هو جيل رقمي بامتياز، هو جيل آلي لن يجد الوقت الكافي للذهاب إلى المسرح، لأنه قد يشكك في مشروعيته وفي مدى المكاسب التي سيتحصل عليها بارتياده لقاعاته، ولن تسعفه (ذاكرته الذكية) في استحضار رموز المسرح وأعلامه وبعض روائعه. بل لن يبتسم معجبا في وجه شخص يصرح بأنه يمارس الفن المسرحي… جيل حُكِم عليه أن يتخذ بعض الفاشلين قدوة، فقط لأن حظا تافها حالفهم فجعلهم نجوما على اليوتيوب، تأكيدا وتكريسا لزمن وصفه المفكر آلان دونو Alain Deneault بزمن التفاهة والرداءة Médiocratie. حتى أن مفهوم الفرجة قد يرتبط لديه بالإمعان في الابتذال والسطحية، وفي تجاوز كل الأعراف الإبداعية والمواضعات الجمالية بدعوى التجديد ومواكبة روح العصر… ماذا سيفهم هذا الجيل من المسرح وهو شبه غائب عن قنواتهم التلفزية وعن برامجهم الدراسية؟ لذا لن نطلق العنان لتوقعات متحمسة ونقول بأن الناس في بلادنا قد ذاقوا مرارة الحرمان من المسرح زمن الحجر وإغلاق القاعات، وها هم سيقبلون على العروض مهللين فرحين، فنرى جماهير غفيرة، تقف بانتظام منتظرة دخول القاعة، ونرى نقادا مبتسمين وصحفيين جادين ومتابعات إعلامية مكثفة… لأن حدثا عظيما سيحدث، وهو عودة المسرح إلينا بعد غياب إجباري. أنسب ما يمكن توقعه ـ بكل إخلاص ومصداقية ـ هو تصور الناس وهم يتبضعون ويتبضعون ثم يتبضعون في المحلات الصغرى كما في المتاجر العملاقة، يتكدسون هنا وهناك، لمجرد حادثة بسيطة… يملؤون الأزقة والحواري والشوارع… ينظرون إلى بعضهم البعض بحقد، تعلو أصواتهم، يتشاجرون كثيرا، يحولون الأماكن العمومية إلى مطرح للقمامة… فتتحسر المدن ولسان حالها يقول: هل قدرنا أن نحرم من الجمال؟ هل قدرنا أن نحرم من المسرح؟
هذا لا يعني بأن للمسرح قدرة سحرية على التغيير، ولكنه على الأقل يحرض عليه برقي وبوعي حضاري، لأنه أكثر من مجرد فن أدائي مشهدي، إنه في جوهره فكر وفلسفة وقيم… لذا فالحاجة إليه هي حاجة إلى ذات مفكرة فاعلة أولا وأخيرا… ذات قادرة على تخطي الأزمات، وعلى النظر إلى نفسها في المرآة بموضوعية وبروح نقدية بناءة.
< بقلم د. محمد زيطان