أريد أن أقفز بضع سنوات إلى الوراء، وألون الأسود بالأحمر …
أُريد أن أكتب لو أمكن، ولكن، لقد مللت من نفسي، ومن الحروف الثائرة، هل سأستمر بالثرثرة عن الحياة، وعن ذاتي، والأشياء؟ ثم أغمرها بالضياع، وأبتسم، والحنين في الدروب سائر ….
كُل شيء مُمِل.. بل وفي قمة الملل، تكرار الأفكار، تكرار الأحلام، تكرار الفشل، تكرار الضياع، لقد تعبت من الملل، وأتمنى لو أستطيع ضبط نفسي بعيدا عن الإلهاء، وحرق الوقت.. أليس هذا حلم كل إنسان؟
أن تكون قادرا على البهجة بالأشياء، تلك التي ذكرتني في شتائي، بشكل مستمر، والشوق إليها في اللحظ الغائر، حين ينطقنا الزمن، ويحطمنا الحلم، ويجردنا الخيال من واقعنا المرير، فتشل أناملنا للحظة..
أنتبه إلى همس العواطف.. إلى وشوشة الصمت، وهو يماشي جدائل الفرح بداخلي… فأتحسس دفئا بروحي، يزهر في الظلام… ليحمل الحاضر على أمواج بحر غارق في الحلم.. تارة … يضيق صدري، ونسائم البوح كالعطر الحائر تطرز وشاح القوافي، تبهت رغبتي، وتفشي في القلب أسرارا، وشتاء، وبركانا في مقام الذاكرة.
يتناغم على جوانب قدري، فلماذا تُصِر أرواحنا على الاعتياد والملل، لتتراقص الملائكة فوق خمائل النبض، فترسم لوحة سريالية فوق جدران الأماني..
فعلا برود الرغبات ألم مزعج، خاصة إن سرقتها من كف أفروديت، تلك التي جمعت شتاتي، وأثقلت رأسي، وسرقت ملامحي، ثم دفنتني في حقيبة الوقت، وخبأت خلفها وجهي، لتنقش إحساس الأوركيد، وتسرج لي كف الحلم، فتخط بيد الزمان طيف اللقاء، والعطر يعبث بثغر الوقت، ليتخذ يراعا من الياسمين، وربما يعشعش فوق أهداب القدر، ليحاور شباك الزمن فتبكينا الهموم، وترثينا النجوم لتنزف الأحلام، وقد ألقت بظلالها على حفنة من الذين لا يقدرون الحب المكتنز، في خبايا الروح …
يا أيتها الألقة كالكوكب الدري، كيف أكتب ورب الكون حروف الليل؟
لا يمكنني أن أموت من الألم، من الحزن، أو من أي شيء ..فيصير الموت مباحا، يوم لا يكون له سبب، غير هذا، يعد شيئا مثيرا للشفقة، فلنستحق موتنا… كاستحقاق السلام.
فعلا نستحق الموت، حين يكتمل الحلم لا الحياة …
ما الذي قتل الحلم؟
لا شيء.. لم يهرب عبثا إلى الموت، بل صافحه، وعاد مسرعا يعاقب نفسه بالصمت، بل ويهديها إياه، عندما استحقته …
لقد نجح فعلا، في استحقاق الصمت، قبل أن يخطفني الضياع …
كيف نرسم صمتا، في طيه معنى الهمس ..؟
لا يمكن ….وقد شاهدتني هناك بين طبقات السماء، كوهجة مشتعلة تحترق من قربها الشمس.. وسائر النجوم، حاولت الاقتراب مني كثيرا، لأحظى بهدنة، أو لحظة، أحترق فيها كما تحترق أجنحة الفراشات الرقيقة في الهواء …
إلا أنني فشلت …
أسأل عن أناس أحبهم، رغم أني روضت شفاه الحروف على النار، فيومياتهم، ووسواس أحلامنا، وأقدارنا، حتى وإن ختمت فم المكاتيب، بثرى اللقاء، وألقيت بجسدها ألف مرة في الهاوية..
أسأل عن الأشياء التي فقدتها، فأعلنت الهروب مني، لتسأل عن طرقاتها، فتنبثق ريح عاتية تغطي الزمان، والمكان.
عشت طويلاً في فراغي، حتى غدوت متناثرة الأجزاء…
لكن السؤال يظل، كيف نجني الدفء من غابة تحترق؟
ونحن الغرباء، والزهاد، أصحاب الرسائل المستعجلة، يبرز ضعفنا أمام ناظرينا، وتعاتبنا سنون، ومشاعر أخفينا معالمها، تحت ستائر زيف حروفنا.
تذكرت ذات وجع، كيف بلحظة أصبح اليراع عرجونا، وتاه… وكيف نترفق بقلب يخفق استجابة للنداء، وعلى ضفاف عيون البدر، حروف موشومة بعطر السماء..
لينطق عندها الصراخ، وينطق الألم..
تنقل السحاب من مكان إلى مكان، تبصر الأسى خلف ملامح باهتة، ومن زمان إلى زمان، لترتعش الأطراف، وتطبق شفاه صمت، ودون جدوى اللحاق بك أبدا، وكان الأحرى أن تنزل الكلمات مضمار الرقص، لتبدأ أمسيات الرثاء، والهجاء رحلتها، نحو المجهول، والقوافي هي الأخرى عاتبت كل الألوان، واختارت لون الحداد، ولم يبق إلا عطر اللحظة، لأرسم من الكلمات دفء الشمس، وعلى ضفاف عينيها أرسم حلم نرجسة، لتذبل الأماني، وتضيق دائرة الكتمان .
كل هذا في لحظة؟
فعلا كل هذا في لحظة، تتبعثر الكلمات في أرجاء المكان، ونسائم ذكرى تهب على الحلم، تبصر الدمع ثم تتوارى خلف العبرات، حاملة حقائبها الراقدة على خد الدروب، فتتأجج المشاعر، وتبكي بحرقتها لتنكسر أقفاص القلوب، ويعتصرها الألم لتغزل حروفا من خيوط القمر، ومن فتات أنفاس الشموع، أرسل أثيرها عبر نجمة تائهة، تبحث عن غفوة في زمن آخر، فتتحول الكلمات إلى غصة شائكة، نبتلعها فتدمي حلوقنا ، فإذا بها كطوفان قادم من المجهول.
أحياناً، يعتصر قلبي الألم ليبرق من خلف أعين ذائبة، وحينها لابد للصمت أن ينطق، حين يختنق التفكير، فتتسع دائرة الشك، تزاحمها الحسرة، على وريقات أكلها الزمن، لتتحول الدموع إلى بركان، يشق طريقه على الوجنتين، فيحيل تعبي إلى أرض صلدة، تشكو من الدمار، تحكي عنها الألسنة، ولا يرد صداها حدود الوقت.
نسأل عن أرواحنا فلا نجدها؟
نسأل عن صمتنا، فينطق الصمت، وتنطق الجدران، وتهمس أرواحنا ببطء، كي لا تبكينا السنون، ولا تبكي ذواتنا لتخبرنا الدموع بقصة أسانا.
لا وجود لجواب في فيافي السكوت، عندما ينطق الصمت لتتكلم خلجاتنا، وينطق الصمت، ولكن بصمت.
فيبقى الحلم صدفتي في هذا العالم، ربما من قبل كان الاشتهاء يحوم كطير في سماء الضياع.
ربما بات المكان فاتحا ذراعيه، لعناق مُشتهى. ربما عربة الوقت، تجرها خيول الانتظار. طريقها شوق لا ينتهي، نصفه ألف صدفة، لا تفي حق الحياة، مثل حروف قصيدة.. ونصفها الآخر يقرؤه الزمان بفرح، وهي تبكي بين السطور…
بقلم: هند بومديان