مهما كان الإنتاج ضروريا لنجاح الفيلم، ومهما كان للمنتج من سلطة تنفيذية، ومهما كان المخرج عبقريا في تحديد الصورة النهائية التي يظهر بها الفيلم، ومهما كان مدير التصوير مبدعا، ومهما كان التقنيون أكفاء، ومهما كان الممثلون موهوبون، ومهما كان المونتاج مرحلة أساسية في صناعة الفيلم، كما يزعم “سيرجي أزينشتاين“، ومهما تطورت تقنيات وجماليات الصورة والتصوير إلى حد كبير، فإن نجاح السينما يتوقف كثيرا على كتابة السيناريو، وعلى الأفكار الإبداعية، والعمق الإنساني الكوني، المتوفر في المضمون الدرامي للفيلم، كما أكد ذلك “ألفريد هتشكوك” في كتاباته عن السينما إذ قال: “نحتاج ثلاثة أشياء أساسية لصنع فيلم جيد: السيناريو، والسيناريو، والسيناريو”.
قرأت، منذ مدة، مقالات عدة في الصحف الإلكترونية وبعض المجلات عن “أزمة السينما المغربية“، وكان من المواضيع التي تناولتها “أزمة السيناريو في المغرب“، وقد اُستعملت مجموعة من المفردات والمصطلحات لإظهار أوجه النقص في كتابة السيناريو السينمائي، من بينها عدم معرفة قواعد الحكي الأرسطي، وقواعد السرد الأدبية، ومقومات السرد الفيلمي. والغريب أن هذه المفردات لم يتم تعريفها ولا تحديدها لحد الآن، وقد طُرحت مجموعة من الأسئلة، مثل : هل تعيش السينما المغربية حقا مشكلة حكي؟ وهل تعود أزمة السيناريو إلى غياب كاتب متخصص في الميدان؟ أم لاحتكار المخرج كتابة السيناريو؟ أم أن أزمة السيناريو تدخل ضمن أزمة بنيوية تشهدها السينما المغربية والتي تعود بالأساس إلى احتكار الدولة للدعم السينمائي وعدم حضور منتج حقيقي يبتغي الربح ويبحث عن سيناريوهات جيدة بإمكانها المساهمة في صنع فيلم في المستوى؟ وما هو السبب وراء ضعف الحوار في الفيلم المغربي؟ وأسئلة أخرى في نفس السياق.
استغربت لهذه الأسئلة، وجعلتني بدوري أتساءل عما يفعله هؤلاء النقاد طيلة هذه السنوات، وعن حجم انجازاتهم العلمية من أبحاث ودراسات أكاديمية من أجل تطوير السينما المغربية، ولا أظن أن تلك الندوات والمحاضرات التي تتحدث عن المقدس في سينما “بازوليني ” وعن الجسد في السينما ستساهم في ازدهار سينمانا ولو بعد أمد طويل.
لست هنا للحديث عن هذا الموضوع، لذلك سأنتقل إلى ما أود مناقشته في عنوان المقال. فعندما أتأمل في مسألة الحكي، وأتمعن في معنى الحكاية، والذي يشير مفهومها إلى ما يجري، وما يصور في الأفلام، أو ما يكتب في الروايات، وتشمل التحركات والأحداث والشخصيات، بينما يشير مفهوم السرد إلى الطريقة التي تقدم بها الحكاية إلى المشاهد أو القارئ، ويعتبر السرد الآلية التي تتحكم بكيفية اكتساب الجمهور للمعلومات من تلك الحكاية.
المخرج الأمريكي “ستيفن سبيلبرغ قال: أعتقد أن الناس سيتركون التليفزيون الموجود لديهم ويذهبون إلى السينما لمشاهدة قصة “جيدة” وهم يريدون قبل الحرائق وناطحات السحاب والفيضانات وتحطم الطائرات والنيران والليزر وسفن الفضاء، مشاهدة قصصا جيدة“.
فما المقصود بقصص جيدة؟
إن السؤال المتعلق بغياب كاتب متخصص في الميدان هو سؤال نال من الحسرة ما نال حسب ما حققته “رواية” الخبز الحافي “للأديب الراحل محمد شكري، التي ترجمت إلى ثماني وثلاثين لغة أجنبية. ثم تحولت إلى فيلم.
هل كان كاتبها متخصصا في الميدان؟ هل احتكرها المخرج؟ هل كان حوارها ضعيفا؟ هل حصل على دعم أثناء الكتابة؟
إن مثل هذه الأسئلة زادت من حجم الأزمة، فهي لم تأتي بنتيجة إيجابية تذكر، كما أنه لم يتم دراسة هذه النقاط على نحو أكاديمي، فبقي الوضع كما هو عليه، بل أسوأ من ذلك، فقد ظهرت أفلام عدة ذات قصة بدون نهاية، تحمل في طياتها مواضيع مستهلكة، وسطحية، ومغلقة. وظهرت أفلام مغربية فرنكوفونية أدت إلى احتقار المشاهد للفيلم المغربي قبل مشاهدته حتى، مما جعلني أعيد طرح سؤال مفهوم السيناريو؟ وطرح السؤال الذي لم يسأل بعد: هل كتابة السيناريو في المغرب عمل فني إبداعي؟ أم مجرد حرفة غايتها سد رمق العيش؟
جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة أن مفهوم السيناريو يعني “كتابة مفصلة للمشاهد المختلفة التي يتألف منها الفيلم، أو المسرحية، وتتضمن التوضيحات الخاصة بالتقاط المشاهد“. وفي قاموس برنامج (MicrosoftWord)، جاءت كلمة سيناريو تعني مخطط المسرحية، أو النص السينمائي.
وقد وردت في المصادر العلمية الكثير من التعريفات للسيناريو؛ ففي “معجم الفن السينمائي“ تم تعريفه على أنه القصة السينمائية، و قد انتشرت في القرن التاسع عشر في أوروبا، وكانت تعني في المسرح تعليمات المخرج الفنية من حيث الديكور والإضاءة والحركة والأداء التمثيلي، وعندما ظهرت القصة في الأفلام السينمائية كان المقصود بها الوصف العام لكل المشاهد، وانتقلت السيناريوهات من النوع شبه التقني كما في المراحل المبكرة لصناعة السينما، إلى صياغة كاملة التطور، تتمتع باستقلالية، ولها شكل أدبي رفيع المستوى، إلى القدر الذي جعل كتابة السيناريو تؤثر على الأدب المعاصر.
اتخذ السيناريو من القصص والروايات والمسرحيات موضوعات جاهزة له بحكم جمالية الحكي التي تتميز بها القصة والرواية، وهذا ما يجعل السيناريو يتخذ شكلا أدبيا، يتم تحويله إلى المكان والزمان السينمائي.
يعتبر المخرج الياباني “أكيرا كيراساوا” أحد الروابط الثقافية بين الشرق والغرب وقد ظهر اهتمامه بالثقافة الغربية منذ وقت مبكر عندما كان يدرس فنون الرسم الغربي في مدرسة الفنون وهو يحب الأدب الغربي، وقد أخرج اقتباسات حرة من مسرحيات شكسبير مثل هاملت والملك لير في فيلم “عرش من الدماء“ و فيلم ”ران“ كما أنه اقتبس من ”فيودور دوستويفسكي” فيلم “العبيط” وهذا هو ما أقصد بالكونية، أي الموسوعية في الكتابة و التأليف، فهناك الكثير من القصص والروايات والمسرحيات التي تحولت إلى أعمال سينمائية عالمية، و لعل الروايات التي كتبها محمد شكري وهمنغواي وتولستوي وديستويفسكي ونجيب محفوظ خير مثال.
فقد تم تحويل رواية “الحرب والسلم” إلى سيناريو أكثر من مرة، وبصيغ غير متشابهة، وقد تم صناعة الفيلم بنسخة أمريكية، وبنسخة روسية، وقد ظهر العملان مختلفين نظرا لاختلاف الثقافات ووجهات النظر، رغم أن العمل المكتوب واحد، وحتى رواية “نوتردام دوباغي” لفيكتور هيجو قد تم تحويلها إلى فيلم سينمائي مرات عديدة ومسرحيات ورسوم متحركة. وهناك العديد من القصص والروايات العالمية التي تم تحويلها للسينما أو للتلفزيون، فرواية مــــدام بـــــــوفــــــــاري للأديب الفرنسي غوستاف فلوبير، ورواية بل آمي Bel Ami للأديب گي ده موپاسان، وهما روايتان فرنسيتان تم تحويلهما إلى أفلام سينمائية أمريكة ضخمة. ورواية اللص والكلاب للأديب المصري نجيب محفوظ ورواية “في بيتنا رجل” للروائي المصري إحسان عبد القدوس، ورواية “أذكريني” للأديب والوزير المصري يوسف السباعي، ورواية “رجال في الشمس” للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ورواية «الفيل الأزرق» للروائي المصري الشاب أحمد مراد، فلماذا إذن لا توجد مثل هذه الكونية (الموسوعية) في الكتابة والتأليف لدى كتاب السينما المغربية؟
لنقم بتحليل بسيط لمكونات السيناريو، نأخذ على سبيل المثال كتابة أبعاد الشخصية في البناء الدرامي، كالبعد المادي مثلا، والذي يختص بملابس الشخصية وشكلها وسنها وثقافتها، ولكتابة هذا البعد يحتاج الكاتب إلى إطلالة سريعة على ما يسمى بعلم الثقافات الذي يقوم بمقارنة ثقافة الشعوب والقبائل، ليضع الشخصية في شكلها المطلوب، ولكتابة البعد الاجتماعي الذي يشمل علاقة الشخصية بالبيئة الاجتماعية، نحتاج دون منازع على الأقل معرفة علم الاجتماع لأنه يختص بدراسة المجتمع، ولكتابة البعد النفسي، والذي يشمل النواحي النفسية للشخصية، وتأثيرها، يحتاج كاتب السيناريو إلى أخد دورة تدريبية في معرفة أغوار علم النفس، والذي يختص بدراسة السلوك البشري.
إن هذه العلوم الإنسانية إذا اجتمعت في تجربة سينمائية، ستساهم بشكل كبير في صناعة أفلام ذات جودة عالمية، تمكننا من معرفة حقائق الحياة، لأن الفيلم يحتل مكانة بارزة في المجتمع، وهو وسيلة شعبية صرفة، فمن الواجب دراسة موضوعه دراسة جدية تهدف إلى المضي إلى ما وراء اسم ”فيلم مغربي” (هل هو فيلم مغربي محض؟) ينطلق من جذور شجرته، لتتفرع أغصانه، وتطل على العالم، وتخبره، هاأنذا، هذه هويتي، وثقافتي، وهذا هو أصلي، وفصلي، وهذه حكايتي، أشارككم إياها.
إن المشاهد المغربي لا يحتاج إلى أفلام نصفها فرنكفوني، ولا إلى قصص بدون نهاية، ولا بروتوكول البرجوازية المصطنعة، في دولة تعتبر من العالم الثالث، ولا صور مزيفة، ولا حوارات شبه مفبركة، ولا مواضيع مستهلكة، إنما يحتاجه هو مشاهدة ما يمثل هويته وثقافته وعروبته ومكانته في هذا العالم الفسيح، يحتاج إلى إعادة اكتشاف نفسه، ووجوده المتفرد كذات إنسانية لها كيانها المستقل عن كل كيان.
إن هذا أكثر ما يريده المشاهد، مهما كان نوع الفيلم، والمعاني المتضمنة التي يحملها السيناريو، هذا أضعف ما يمكن أن يحصل، للحصول على موضوع يتماشى مع ما يعيشه المتفرج، فالجمهور يريد قصته أن تروى له، كي تتوحد شخصية الفيلم معه، ومن هنا نحتاج إلى دراسة معمقة في الخلفية العلمية، والثقافية، لكتاب السيناريو أولا، قبل استعمال مفاهيم مثل الإبداع والفن و الجمال للتباهي والتظاهر بالعمق، والتغاضي عن جوهر القضية، إنه لمحض هراء علمي.
فما هي الخلفية العلمية والثقافية لكتاب السيناريو؟ هل هي ذات بعد عالمي، أم محلي سطحي؟ هل يكتبون مثل محمد شكري، ونجيب محفوظ؟ هل يكتبون من أجل الفرد، ومن أجل المجتمع؟ هل من أجل وطن الأم؟ هل من أجل العالم؟ هل من أجل الإنسانية؟ هل يكتبون من أجل موروثنا الثقافي والفني والعلمي؟ أم يكتبون من أجل لقمة العيش؟.
< عبد الرحيم الشافعي