عرّف جيرار جينت القصّة بأنّها تمثيل حدث أو سلسلة أحداث واقعيّة أو خياليّة بواسطة اللغة، أي أنّها مجموعة من الأحداث يرويها القاص وهي تتناول حادثة أو عدّة حوادث، تتعلّق بشخصيات إنسانيّة مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرّفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة النّاس على وجه الأرض، ويرى أكونور أنّ القصّة القصيرة هي “فنّ اللحظة المهمّة”، واختيار هذه اللحظة من أدقّ مهارات القصّاص البارع، فإن أجاد الاختيار وإقامة البناء القصصي من ثمّ، فإنّ هذه اللحظة قد تكشف عضرًا بكامله.
وانطلاقًا من قراءة قصّة “أنوثة معلبّة”، فإنّ العنوان يقدّم لنا عتبة نصيّة مهمة تدفع المتلقي إلى الكشف عن مضمون القصّة، فيتحقّق لدينا هنا الوظيفة الإغرائية الإيحائيّة للعنوان، التي تحثّ المتلقي كي يخوض غمار النّصّ، وتترك لديه فضاء من التّساؤلات حول ماذا يقول، ويمكن أن تترك له بياضات يتوقّف للتّفكير وتعبئتها بما يناسب الفراغ التّأويليّ. فالعنوان يكشف عن دلالات متعدّدة، فيها إشارة إلى قضية الجندرة والعلاقة بين الذّكورة والأنوثة، أو البحث في مفهوم الأنوثة، والعنوان مكوّن من كلمتين نعت ومنعوت، وقد جاءتا نكرة، وفي هذا التنكير دلالة على العمومية وعدم التّخصيص، فالنّكرة هو كل اسم شائع في جنسه لا يختصّ به واحد دون آخر، سواء أكان الجنس موجودًا أو مقدرًا، ومن هنا فإنّ هذا التّنكير جعل هذه الأنوثة حالة عامة، وجاءت الكلمة نكرة موصوفة، وهنا يكمن التّساؤل كيف يمكن أن تكون الأنوثة معلبة، وبأي طريقة تعلّب؟
سؤال يتبادر إلى ذهن المتلقي فيندفع إلى قراءة القصّة، ليكتشف الفرضية التي برزت من العنوان. ويدرك أنّ من تحكّم في سرد أحداث القصّة سارد مشارك مستعينًا (بالرّؤية مع) فهو يستخدم ضمير المتكلّم، أي معتمدًا السّرد الذّاتي، والسّرد يكون بلسان أنثى.
وإذا انطلقنا من الخطاطة السّرديّة يتبين لنا أنّ القصّة تنفتح على خوف السّاردة من تحرّش عامل الشّاحنة، وهو تحرّش تعوّدت عليه، ولم تعبّر عنه صراحة إنّما تُرك للمتلقي اكتشاف ذلك عبر قولها “خائفة أن يلحق بي ككل مرة ويلتصق بي مُتعلّلا بإحكام إغلاق الباب والإمساك به”، وتتابع الرّاوية في القصّة إبراز التّحرّش الذي تتعرّض له من العم صالح الذي لم تمنعه سنوات عمره المتقدّمة من فرض غريزته عليها.
وهنا يحدث انقطاع زمنيّ، وينزاح السّرد إلى زمن سابق عبر استخدام تقنية الاسترجاع، فتسترجح السّاردة المتحدّثة موقفًا في طفولتها، وفيه إشارات سيميائية تشير إلى الأنوثة: فخذيها/ شعري الكثيف المتموج/ ضفيرتين/ امتلاء جسدي/ وبروز أردافي وخاصرتي ونهديّ/ القدّ/ البياض… ولم تكن هذه العودة الزّمنيّة عبثية أو لتعبئة فراغات وبياض الصّفحات، إنّما أضاءت زاوية مهمّة في الكشف عن حدث القصّة، فكان خوف الأم من هذا الجسد الممتلئ أن يكون سبب جلب المتاعب. فيكون الحلّ عند الجدّة بأن تلبسها عباءة أبيها الواسعة في ذلك يكون الحلّ بإخفاء معالم الأنوثة التي ظهرت على جسد الفتاة، ويحميها من عيون الذّئاب.
موقفان يبرزان الرؤية السرديّة في هذه القصّة، بين أمّ تخشى على جسد ابنتها، خصوصًا لما يتمتع به من جسد غض ممتلئ، والجدّة التي ترى أنّ هذا الجسد هو وراثة عائليّة، ويكون الحلّ بتستير هذا الجسد بعباءة الأب، ولهذا العباءة دلالة سيميائية مهمة تدلّ على التمسّك بالعادات والتّقاليد، فلا يكون السّاتر أو الحامي إلّا الأب، ولم تكن صورة الأب هنا ممثّلة للعاطفة الأبويّة ولرعايتها، إنّما تمثّل صورة الأب الذي يفرض على ابنته التّقاليد والعادات.
وينتهي زمن الاسترجاع، لنعود إلى اللحظة الآنيّة، وفيها تعود السّاردة إلى موقفها الذي ترى نفسها عالقة بين أنفاس العم صالح التي تلاحقها، وبين مطاردات العمال وخصوصًا الميلودي، فتكون الحالة التي تشعر بها هي الضّيق والتّبرم، ومن هنا ترد المفردات الدّالة على ذلك: اختناق / ضيق تنفس/ ابتلعتني/ الهم.. ويكون الجسد هو علّة هذا الشّعور.
وتقدّم لنا السّاردة نظرة استباقيّة لتحديد موقع عملها في معمل السردين، فتشبه نفسها مع الفتيات العاملات معها “تصل الشاحنة باب المعمل، فنتقافز منها كما سمكات السردين وسط شباك الصيد”، وفي الوقت نفسه يعيدنا هذا التّشبيه إلى عنوان القصّة “أنوثة معلبّة”، فتكتمل صورة هذه الأنوثة المعتدى عليها.
وتتابع أحداث القصّة فتصل إلى ذروة الحدث، واكتمال الصّورة المتشابهة بين السّردين المعلّب والأنوثة المعلبة، تقول “لكن أمام هذه السردينة الممتلئة لا يمكن أن أتحكّم في انفتاح شهيتي على مصراعيها، تمنّيت لو التهمتها مع حبة الفلفل الحارة الصغيرة فوقها”، فتكون غريزة الجوع الدّافعة إلى التّلذّذ بلقمة طعام من السّردين هي وسيلة الضّغط على أنوثة الفتاة، فتكون فريسة للمراقب الذي يتّخذ التهامها للسّردينة حجّة للتّحرّش بها.
وانطلاقًا من النّموذج العامليّ وفق الخطّاطة التي رسمها غريماس، لدراسة النصوص السّرديّة الحكائية يمكن أنّ نرى أنّ عامل الذّات في هذه القصّة يتمثّل في السّاردة، أي الفتاة، فهي محور القصّة والأحداث ترتبط بها؛ وعامل الموضوع هو الذي تتّجه إليه الذّات وهنا رغبتها في العيش بكرامة.
والعامل المرسل هو الحافز الذي يشجع الشّخصيّة المحوريّة على تحقيق هدفها، وهو التّخلّص من النّظرات التي تلتهم جسدها، أو التّخلّص بمن يتحرّش بها، واللافت هنا أنّ عامل الذّات لم يجد العامل المساعد، بل تحوّلت كلّ الظّروف إلى عوامل مناوئة لها، وكل ذلك أفرز بين القوى الفاعلة في القصّة علاقات وفق ما ذكر غريماس، ويمكن رصد هذه العلاقات بعلاقة الصّراع بين السّاردة وجميع شخصيّات القصّة، أي صراع بين البطلة والمعوّقات التي تحول دون تحقيق هدفها.
تقدّم قصّة “أنوثة معلبّة” منظورًا أيديولوجيًّا مهمًّا، وهو تقديم صورة رافضة للواقع المرير الذي تعيشه الأنثى فتقع فربيسة لأطماع نظرات الآخرين، وقد تصل إلى حدّ التّحرّش بها جسديًّا أو حتّى بالنّظرات.
وما يميّز قصّة “أنوثة معلبّة” هو الأسلوب المتبّع.. فقد جاءت لغة النّصّ عفوية تتميّز بالانسياب وعدم التّكلّف، كما أنّ النّصّ جماع خطابات متنوّعة حيث كان هناك حضور للوصف الذي قدّم رؤية واضحة للرّواية وأدّى دورًا متميّزًا، فمن خلاله رسمت الكاتبة الشّخصيّات، وعرّفنا بطبيعة الفضاءات البارزة في القصّة من المكان والزّمان، واستطاع الحوار أن يكسب أحداث القصّة واقعيّة، وهذا التّنوّع في الخطابات أسهم من أبعاد رتابة السّرد، بل يمكن القول إنّ الكاتبة أجادت في تجسيد اللحظة المهمة في البناء الفنّي للقصّة، وكان قوامه الأساس التّكثيف والتّركيز والتقطير، فجاء هذا التّرابط بين البطلة والسّردين معبّرًا عن المغزى المراد، وعود على بدء يمكن القول إنّ هذه الأنوثة المعلبة خاضعةٌ لقيم اجتماعيّة تجعل من المرأة سلعة جاهزة لأطماع الرّجال، وقد تكون خاضعة للأفكار المعلبة السائدة في المجتمع.
خلاصة القول إنّ هذه القصّة جمعت الاتقان بين الفكرة وطريقة التّعبير عنها، فكانت صرخة ذات مدى واسع ترتبط بقضايا اجتماعيّة متعدّدة.
بقلم: أ.د. درية فرحات
***
قصة قصيرة:
أنوثة مُعَلّبة
لا تزال ملامح عامل الشاحنة عالقة بين عينيّ، تبثّ الرعب في جسدي الغض الطري، لقد تدلّى أنفه وتحلّبت شفتاه حتى كاد أن يلتهمني وهو يفتح لي الباب الخلفي للشاحنة، رفعت جسدي وبصعوبة ألقيت به بين زميلاتي العاملات المتكدسات داخل عربة الشاحنة، خائفة أن يلحق بي ككل مرة ويلتصق بي مُتعلّلا بإحكام إغلاق الباب والإمساك به. أنفاسه اللاهثة تخنق أذنيّ وتجثم على صدري، فقبل دقائق معدودات انفلتتُ وبصعوبة من قبضة لهاث العجوز عمي صالح؛ صاحب العربة الوحيدة في قريتنا، حملني من الدوار بعد أن أوصلتني أمي إليه كأمانة، ناصحة إيّاه أن يحميني إلى أن أصل الطريق الرئيسية حيث تمرّ شاحنة عاملات معمل السردين، فما أن يكِز العجوز حماره ويبدأ بجر العربة حتى يهتز جسده منتفضا فيتمايل فيلقيه على جنبي، ثم يهوي على الدابة المسكينة بالسّوط كأنه يحاول أن يطفئ نارا مستعرة داخله، أبادره مستجدية ببراءة:
– ما بك يا عمي صالح، الحمار المسكين يسير بشكل سليم، توقف عن إحراق جلده بالسوط.
فيتوقف عن السوط وعن حمحمته ثم يشرع في همهمة بكلمات لا أفهم منها غير الاستغفار والاستعاذة من الشيطان الرجيم .
يعود إلى مكانه وقد تكور في جلبابه الرث، فأتأمله مستغربة، متحيرة في أمره، بين تهدئة جسدي الممتلئ من الاهتزاز وهو على هذه العربة المهترئة وبين إيقاف هجوم العجوز المتهالك على الدابة المسكينة، أشيح بوجهي عنه مقززة من منظره وأشد بيدي عمود العربة بقوة متسائلة:
– مستحيل أن تكون نية هذا العجوز، وهو بمقام جدي، نيّة خبيثة مُبيّتة كنِيّة الميلودي عامل الشاحنة!!؟؟
لحظتها تذكرت طفولتي ومنظر أمي وهي تشدني بقوة بين فخذيها متذمرة، حتى تمشط لي شعري الكثيف المتموج فتضفره ضفيرتين تشد طرفيهما بخيط سميك، كانت تشكو امتلاء جسدي وبروز أردافي وخاصرتي ونهديّ، وكل مرة تردّد شاكية على مسامع الجدة أمي فطومة :
– آه يا أمي فطومة، شوفي هذا الجسد الممتلئ لن يجلب لنا غير المتاعب نحن في غنى عنها، لسنا إلا مجرد نساء وحيدات .
فتردّ أمي فطومة مؤنبة :
– خلّيها عليك، (الغالية) ابنتي الغزالة، إنه قدّ متين ورثته عنّا، عن عماتها وأعمامها، القامة الطويلة والبياض والجسد الممتلئ، سلالة دُكّاليّة (منطقة دكالة) تملأ العين ما شاء الله، لا أحد يشبهنا .
تجرّ أمي بعصبية ضفيرتي نحو الأسفل فتجرّ رأسي معهما إلى الخلف وهي تمطّ شفتيها متذمرة من حديث جدتي، أضع يديّ على فمي فأكتم ألمي وصرختي، ولا أتبيّن ما الذنب الذي اقترفتُه لينالني كلُّ هذا الوجع بين يدي أمي وهي ترد عليها :
– اييه يا أمي فطومة أورثونا المصائب، الناس ترث الأراضي ورؤوس الأغنام ونحن لم نرث منكم ومن سلالتكم غير هذه اللحوم .
فترد أمي فطومة عليها مُهدئة :
– لا تخافي عليها، ألبسيها جلباب أبيها رحمه الله، واسع وفضفاض ويحميها من عيون الذئاب .
أتذكّر كل هذا بألم وأنا على متن عربة عمي صالح يجرها حمار هزيل وأنفاس العجوز تلاحقني فلا أصل جنب الطريق الرئيسية المؤدية إلى ميناء الدار البيضاء في انتظار شاحنة المعمل ومطاردات عيون العمال وعلى رأسهم “الميلودي”، حتى أحس باختناق وضيق تنفس، كنت أتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتني لأرتاح من هذا الكم الهائل من الهم الذي يحمله كل طرف من جسدي .
تصل الشاحنة باب المعمل، فنتقافز منها كما سمكات السردين وسط شباك الصيد، بعد أن تخرج من الماء، منتفضة تلتمس قطرة ماء تستجدي منها هبّة حياة، إلى أن تُسلم روحها لصائدها .
أقف مكاني، أمام حزام متحرك وسط المعمل، فتتحرك أمامي العلب المعدنية متتابعة فأستقبلها بيديّ واحدة تلو الأخرى، وبحركة خفيفة أجعلها تدور نحو الأنبوب الممتدّ من أعلى يلقي بدفقات متواترة من زيت ثقيل لامع، فتبدو السمكات الفضيّة وكأنها تتلذّذ بحرارته وهي تُغطَس وسطه، وبأصبع واحد أدفع العلبة المعدنية لتتقدم بعدها علبة ثانية فثالثة .
يعبر الحزام المتحرك المصنع بشكل دائري، وأمامه تقف الفتيات والنساء في كل ناحية، لا يبدو منهن إلا أحجامهن من طويلة وقصيرة إلى بدينة ونحيفة فأبتسم لحظي حين أتذكر رأفة المراقب بي، يومها استغربتُ، لقد نقلني من ورشة تنظيف السردين وإفراغ أحشائه إلى ورشة الحزام المتحرك حيث كُلّفت بمهمة مداعبة العلب بأصابعي تحت أنبوب الزيت الحار اللامع متبّل بالملح وتوابل حارة، ينزل على أجساد سمكات السردين وقد تجرّدت من كل ما يربطها بالماء والحياة، لا رأس ولا أشواك ولا عظام ولا حتى تلك الزعانف الدقيقة، سمكات لم يتبق منها غير قطع لحم طري يكسوه رداء فضي لامع يغري بالالتهام .
كنت أرى جسدي الطري وأنا أقلّب إحدى العلب، كتلك السمكة ممتلئة، تختلف عن أخواتها، وما أن وقع بصري عليها حتى اشتهيت التهامها رغم أن رائحة السردين التي تزكم الأنوف جعلتني أنفر من تناوله، ولكن أمام هذه السردينة الممتلئة لا يمكن أن أتحكم في انفتاح شهيتي على مصراعيها، تمنّيت لو التهمتها مع حبة الفلفل الحارة الصغيرة فوقها، فلم أتناول كسرة خبز منذ ست ساعات متتالية من العمل أمام هذا الحزام اللعين، نظرتُ إلى السمكة نظرة أخيرة، التقفتها بخفة ووضعتها بين فكيّ وتابعت بأصابعي تحريك العلب تحت الأنبوب، وما أن رفعت بصري قليلا نحو الأعلى، والسمكة لا تزال بين أضراسي، حتى لمحت المراقب في قميصه الأزرق الواسع، وهو يتأملني بتلذذ، وجبينه يتصبب عرقا يخفي ابتسامة ماكرة بين شفتيه الغليظتين ….
دويّ صافرة الاستراحة تصمّ أذنيّ، ورأس المراقب ويده وكل جسده تلوّح إلي أن ألحق به إلى مكتبه في الأعلى .
بقلم: الزهراء وزيك