حاز فيلم «قتلة زهرة القمر» (Killers of the Flower Moon)، منذ بدأ عرضه في المهرجانات السينمائية الدولية وقاعات الفن السابع، اهتماما كبيرا من قبل الجمهور والنقاد، نظرا لطبيعة موضوعه، والإبداع السينمائي الذي قدم به، على مستوى التشخيص والتصوير والموسيقى، وكذا حبكة السيناريو الذي كتبه إريك روث، الحاصل على جائزة الأوسكار عن فيلم «فوريست جامب» (Forrest Gump).
استوحى المخرج السينمائي مارتن سكورسيزي (Martin Scorsese) فكرة الاشتغال على هذا العمل (206 دقيقة)، الذي أخذ منه وقتا طويلا في الإعداد والتصوير، بعد اطلاعه على مؤلف الكاتب الصحافي ديفيد جران (David Grann)، بعنوان: «قتلة زهرة القمر: جرائم قتل أوساج وولادة مكتب التحقيقات الفدرالي» (Killers of the Flower Moon: The Osage Murders and the Birth of the FBI).
يحكي الكتاب الذي حظي باهتمام واسع، وتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعا لفترة طويلة بعد صدوره في 2017، عن جرائم التصفية الجسدية للهنود الحمر (شعب الأوساج)، نظير الحصول على أراضيهم الغنية بالنفط بأوكلاهوما في 1920.
جذب اكتشاف النفط بهذه المنطقة الصخرية أطماع المهاجرين الأمريكيين «البيض» للاستحواذ على أراضي «شعب الأوساج»، وذلك بقيادة وليام هيل، الذي مثل له في الفيلم روبير دي نيرو (Robert De Niro)، باعتباره نائب عمدة فيرفاكس التابعة لأوكلاهوما الغنية بالذهب الأسود، والتي يملك بها مزرعة واسعة لتربية المواشي.
استطاع وليام بمكره ونفوذه حيازة الكثير من السلطة ومراكمة الأموال، على حساب سذاجة وسخاء شعب الأوساج الذي تغيرت أحواله المادية وانعكست إيجابا على وضعه الاجتماعي عبر اقتناء السيارات والحلي والأشياء النفيسة، بيد أنها كانت نقمة على أفراده الذين استهدفت حياتهم من قبل الرجال «البيض» الأمريكان مقابل ثرواتهم.
الفساد واللاأخلاق
يدخل هذا المخطط «المقيت» والمدبر له من قبل وليام الذي كانت له شهرة واسعة بين الأوساج، ضمن سردية هيمنة الأمريكيين «البيض» على ممتلكات الشعوب الأصلية، ذلك أن حلول الأوساج بأوكلاهوما الصخرية خلال 1871، أتى بعد الاستيلاء على أراضيهم الزراعية سابقا بميسوري، أي أن العمل سواء الكتاب أو الفيلم، يهم الحفر في الذاكرة التاريخية للدولة الأمريكية التي يتحكم في دواليبها «البيض».
حافظ شعب الأوساج، رغم الغنى المادي الذي أصبح يعيش فيه، على عاداته وتقاليده في الحياة وعلى طقوسه الثقافية في الاحتفال بالأزواج والولادات الجديدة، وتوديع الموتى الذي ازداد عددهم بعدما أصبحت منطقتهم وجهة مغرية للباحثين عن المال والسلطة، علما أن نظام الوراثة يقتضي انتقال الأراضي بين أفراد نفس العائلة ولا يحق لهم بيعها لفائدة الغير، وهو ما زاد من أطماع الأمريكيين «البيض» الذين يقبلون على الزواج من الأوساج تطلعا إلى الهيمنة المطلقة على ثروة أوكلاهوما.
ومن جهة أخرى، كانت تشكل زهرة القمر التي تنمو في محيطهم، الارتباط الوثيق بالأرض والطبيعة، وكانوا ينسج على هامشها شعب الأوساج، قصصهم وأساطيرهم الدينية التي تجعلهم في تواصل دائم بمن في السماء.
مثلت الثقة التي حظي بها وليام، الضربة القاضية للأوساج، بحكم إشراف الرجل، الذي لا يكترث للأخلاق، على كل صغيرة وكبيرة تهم شؤون الأسر المالكة لأراضي النفط في أوكلاهوما، إلى جانب قائد الأوساج داه كاه هي مي الذي دأب على الأخذ برأي وليام أثناء مشاوراته، بدل كشف حيله وأهدافه ومؤامرته.
كان يحتاج الدخول إلى أوكلاهوما تزكية من وليام الذي ينتقي أعضاء الفريق للاشتغال معه في الاستيلاء على الأراضي بشكل محكم، لهذا كان يهتدي إلى توظيف أفراد العائلة القريبين منه، كبايرون وشقيقه إرنست (ليوناردو دي كابريو Leonardo DiCaprio) الذي حل بالمنطقة وباشر منذ البداية تنفيذ خطة «القتل» للعم وليام، الذي عرفه على مولي كايل (ليلي غلادستون Lily Gladstone) المرأة الثرية، وسيصبح سائقها الشخصي في البداية.
استطاع إرنست الذي كان طباخا في الجيش، جذب انتباه مولي نحوه، بجماله وحسن مظهره، وعرض عليها الزواج، علما أنها كانت تصفه بـ«الذئب» الباحث عن المال والمتعة.
حاول إرنست، إلى حد ما، أن يؤسس بشكل فعلي لعلاقة زواج جدية مع مولي، بعيدا عن مؤامرة وليام، لكن الأخير كان يحذره بين الفينة والأخرى من عواقب الخروج عن العقيدة الجماعية «للبيض».
في ظل زواج إرنست بمولي، التي أنجبت منه ثلاثة أطفال، كان الشاب فاعلا رئيسيا في مجموعة من الأحداث الدرامية، التي راح ضحيتها عديد أشخاص من شعب الأوساج، بما فيها أختي مولي، اللائي تم تصفيتهما جسديا على يد عصابة وليام.
رغم تحذيرات والدة مولي من الزواج بالأجانب، إلا أن بناتها كن ينجذبن لجمال وخفة الأمريكيين «البيض»، ذلك أن مولي كانت هي الأخرى مستهدفة من وليام الذي كلف إرنست بتصفيتها، بتنسيق مع الأخوين الطبيبين شون في المنطقة، عبر حقنها بأدوية «سامة»، بحجة أنها دواء لمرض السكري، تم استيراده خصيصا لها.
سيؤدي فقدان مولي لأختيها آنا وريتا، إلى جانب وفاة أفراد آخرين من شعب الأوساج إلى شدها الرحال رفقة مواطنين آخرين نحو واشنطن، لمطالبة الإدارة الأمريكية بفتح تحقيقات بشأن تزايد عدد قتلى شعب الأوساج، وجاء هذا القرار عقب عقد كبير القرية داه كاه هي مي اجتماعا موسعا للتداول في الموضوع، حضره، أيضا، إرنست ووليام.
انزعج وليام الفاسد سياسيا من تحركات مولي «القائدة» الذي كانت هادئة في التعامل مع الأحداث وذكية في البحث عن المخرج، حيث حملت على عاتقها مهمة تمويل تكاليف التحقيقات، وفيما بعد ستحل لجنة خاصة من الحكومة الفيدرالية للتحقيق في التصفيات الجسدية المتزايدة.
أدى حضور فرقة التحقيقات، إلى إحساس وليام بنهايته، ذلك أنه حاول أن يقدم إرنست كبش فداء في الملف، بتحميله مسؤولية كل ما حدث، وبحث عن إقناعه بالفكرة، على أساس أن يتدبر أمر خروجه من السجن باستعمال شبكة علاقاته الواسعة.
رفض إرنست، مبدئيا، الطرح الذي قدمه العم وليام، خصوصا وأن هذا الأخير قدم لإرنست وثيقة يدعوه فيها إلى التوقيع على انتقال ملكية زوجته لشخصه بعد تصفيتها، وليحمي إرنست زوجته، عقب تأنيب ضمير وتردد طويل، اعترف في التحقيقات التي أجريت معه، بكل أحداث القتل التي شارك فيها إلى جانب عمه.
اللاعدالة تجاه الهنود الحمر
وهكذا، حصلت الشرطة على حجج قوية انطلاقا من اعترافات إرنست، كانت كافية لاعتقال وليام، الذي أقدم على حرق منزله، للحصول على أموال التأمين، إيذانا بنهاية وجوده بين أفراد شعب الأوساج «الطيبين» الذين كانوا يكنون له «الاحترام والتقدير» !
واعتبرت هيئة القضاء التحقيقات التفصيلية للشرطة في ملف وليام، التي تم تزكيتها بشهادة إرنست، كافية لإدانتهما معا، بتهم قتل وإبادة شعب الأوساج، الذي عانى من الغدر كما عانى من التضييق والغش من قبل «البيض»، أثناء المعاملات المالية التجارية التي كان مبالغا في أثمنة سلعها، من هنا، فإن إدانة وليام، هي إدانة رمزية لكل الممارسات اللاأخلاقية «للبيض» في حق الهنود الحمر.
وتظهر قصة الفيلم، أنه رغم فساد المسؤولين السياسيين من الرجال البيض الذين يبحثون عن مراكمة الأموال عبر سرقة ممتلكات الآخرين الضعفاء من السكان الأصليين، إلا أن القضاء يبقى مستقلا في أحكامه وقراراته ويحقق العدالة للمظلومين، حتى إذا كان الأمر يهم شخصيات نافذة، لكن إذا كان القضاء يقول كلمته ولا يتم التدخل في أحكامه، فإن للسياسة هي الأخرى كلمتها، لهذا ستحضر المفاجئة، بعد إصدار الأحكام في حق المتورطين !
اختار المخرج أن يكون النطق بالأحكام في حق قتلة شعب الأوساج، عبر إذاعتها في بث خاص ببرنامج «الجرائم الحقيقية». وكشف مقدم البرنامج أن الطبيبين الأخوين شون لم تلاحقها السلطة القضائية بتهمة تسميم مولي، بالمقابل تم الحكم على بايرون بوركهارت بالسجن، بتهمة المشاركة في قتل آنا.
وأدانت المحكمة وليام هيل العقل المدبر لجريمة إبادة شعب الأوساج، بالسجن المؤبد في ليفنوورث، غير أنه بتاريخ 1947 سيتم إطلاق صراح الرجل مبكرا، بحجة «حسن السلوك»، وأثار هذا القرار وقتها سخط الرأي العام المحلي، لكن هذا السيناريو كان متوقعا بحكم منحة الرشوة الدسمة التي منحها للسياسيين، في ظل عدم امتلاك شعب الأوساج لسلطة القرار، ناهيك «عن عدم اهتمام أي أحد لحياتهم».
ولأن وليام استمر في تواصله مع شعب الأوساج من داخل أسوار السجن، عبر كتابة رسائل لأصدقائه الأوساجيين، وعلى رأسهم الحاكم داه كاه هي مي، فقد كان يتردد بعد مغادرته للسجن على القرية، قبل أن يتوفى بدار المسنين في أريزونا عن سن 87.
أما إرنست بوركهارت فقد حكم عليه هو الآخر بالسجن المؤبد في ولاية أوكلاهوما، وبعد قضائه عدة سنوات وراء القضبان محروما من الحرية، تم الإعفاء عنه، وعاد مرة أخرى إلى مقاطعة أوساج، حيث عاش أيامه الأخيرة رفقة أخيه بايرون في موقف للسيارات شمال المدينة.
أما مولي فقد تزوجت من شخص آخر، بعد انفصالها عن إرنست، وتوفيت في 16 يونيو 1937 عن سن 50 عاما، نتيجة معاناتها مع مرض السكري، ويقول السارد: «لقد كانت أوساجية أصيلة دفنت في المقبرة القديمة في غراي هورس بمحاذاة قبر والدها ووالدتها وشقيقتيها وابنتها».
وكانت نهاية الفيلم الذي صور «وثائقيا»، «القصة الأميركية المخيفة» كما وصفها مارتن سكورسيزي، بمشهد من أعلى لاحتفالات شعب الأوساج، الذي لم يتم إنصافه بشأن جرائم قتل بقيت عالقة بدون الوصول لقاتل محدد رغم مسلسل التحقيقات وجلسات المحاكمة التي أجريت.
بقلم: يوسف الخيدر