” The Glass Castle ” فيلم رقيق عن الحب وصراع ضد قيم مجتمع ينكسر فيه الإنسان

حين تعانق السينما الرواية المكتوبة، لا يمكن إلا أن تكون هناك خيانة لأهداف النص.

 فالكتابة الروائية كتابة على ورق ذي مساحة رحبة تتسع لخيال الكاتب وتعانق بعده خيال القارئ المستهدف بعملية الكتابة، 

أما  السينما فكتابة بصرية متحركة  تتخذ من الصورة والصوت جسرا، بغية الوصول الى متلقي من نوع آخر.

 وإذا كانت الرواية تتخذ من اللغة بمحسناتها وبهاراتها سبيلا لبلوغ القارئ  فإن السيناريو السينمائي، يستجدي الواقع المحدود في الزمان والمكان والشخوص وتسلسل الأحداث لبلوغ متلقي يبدو منفعلا أمام سرد متحرك وحي.

 هذا الأسبوع شاهدت فيلما أمريكيا تحت عنوان ” The Glass Castle “، إنتاج 2017 ومدته 90 دقيقة، يعتمد على سيرة ذاتية لإحدى الصحافيات في الولايات المتحدة الأمريكية، “جانيت والاس”، نشرتها عام 2005، تحت نفس العنوان. وتم تحويلها إلى سيناريو أخرجه ديستن دانيل كريتون.

الفيلم من النوع الدرامي الذي يتعايش فيه الحاضر والماضي، من فرط اعتماده على تقنية الفلاش باك. ويعتمد خطابا نقديا موجعا لمجتمع رأسمالي ينكسر فيه الإنسان كمجموعة قيم، إنها قصة الأب الذكي والمبتكر (ريكس) الذي يعد أبناءه الأربعة بأن يبني لهم قصرا من الزجاج، في الوقت الذي لا يستطيع فيه تأمين بيت قار لهم، لعله يجمل قبح الواقع في عيونهم ويشحنهم بالأمل في المستقبل، هي قصة عائلة مشردة، تواجه مصيرها منفردة لا تملك  سوى سيارة متهالكة تقودها كل مرة الى سكن مؤقت، ما تلبث أن تغادره الى مغامرة أخرى، وحتى عندما تبيت العائلة في العراء يختار الأب أجمل مشهد طبيعي للتخييم فيه، ويحدث أبناءه قائلا ” إنهم يعيشون في مدينتهم يختنقون بالدخان ولا يستطيعون حتى رؤية النجوم في السماء بوضوح، لن نقبل أبدا استبدال حياتنا بحياتهم”.

 وقد شخص الدور باقتدار كبير الممثل (وودي هارلسون). فيما لعبت دور الأم (روزماري) النجمة  (ناعومي واتس) وفي الدور تبدو كفنانة تشكيلية بوهيمية، مهملة لأبناءها رغم حبها لهم وعشقها الشديد لزوجها ريكس الذي تشاركه كل قناعاته وتثق حتى في أشد اختياراته سوءا كإدمانه الكحول وحدة طباعه وعدم استطاعته العناية بعائلته ماديا، الجميل في الفيلم هو حب الحرية الى أبعد الحدود والهرب المستمر من قيم الاستهلاك الرأسمالية، التي تستلب الإنسان في ذلك المجتمع، حتى في أشد اللحظات مأسوية يتجلى حب كبير بين جميع أطراف العائلة كنوع من التضامن والتواطؤ ضد كل أولئك الذين يعتقدون أنهم يعيشون الحياة كأسوياء.

كل هذا يدركه المشاهد من خلال السفر في ذاكرة الكاتبة، التي لعبت دورها النجمة ( بري لارسون)، حيث تبدأ الأحداث بالصحافية الناجحة جانيت (بري لارسون) التي تجلس مع خطيبها في عشاء عمل بمطعم فاخر، تذهل جليسيهما بخفة ظلها وتعليقاتها الذكية وروحها المرحة، وتذهلهم بقصة والديها المهندس والفنانة المحترمين، ولكن ما أن تخرج من المطعم حتى تجد والديها الحقيقيين ينبشان في القمامة بأحد الشوارع في نيويورك، فتنكرهما. ومن تم تتوالى الأحداث والذكريات.

 لقد تألق في الفيلم النجم وودي هارلسون وتمكن من تقمص شخصية مركبة ومتعددة الوجوه، تألق في دور الأب الذي يحمي أطفاله من المجتمع ويحتمي بحبهم من ماضي ثقيل خلفه وراءه، وفي نفس الوقت الأب الرومانسي الذي  يهدي لكل واحد من أطفاله نجمة،  في نفس الوقت الذي يعجز عن القيام بمتطلباتهم. شخصية تقف في المنتصف بين العقل واللاعقل، بين الفقر والفشل والصراع الشديد من أجل البقاء، شخصية تتداخل خلالها صور العبقرية بالغباء والتسلط، قصة حب تتجاوز مفاهيم الانتصار والفشل وتعلي قيم الإنسانية تجاه الاستلاب الرأسمالي.

فيلم  ” The Glass Castle ” عانى من بعض النقائص على مستوى السيناريو وتتجلى في آخر الفيلم حيث كانت الخاتمة على شكل عائلة سعيدة تجلس في أحد المطاعم تتذكر نكت الأب ريكس الذي رحل عنها، وهي خاتمة لم تجب على الكثير من الأسئلة التي بقيت معلقة و بقيت في نفس الوقت دون توقعات المشاهد، هي إذن خيانة للرواية المكتوبة من طرف السينما مرة أخرى، ورغم بعض النقائص، الأخرى، يبقى هذا الفيلم مع ذلك تجربة سينمائية رائعة وراقية وسفرا مليئا بالمعاني الإنسانية، إنه فيلم يستحق المشاهدة.

>بقلم سعيد الحبشي

Related posts

Top