أسئلة كثيرة يطرحها الحراك الجزائري الراهن ومن بينها تلك المتعلقة بتوقيته، التي يعبر عنها هذا السؤال، لماذا في هذا الوقت بالذات؟ الذي يمكن ألا يكون سؤالا بريئا تماما، وقد يوحي بالعكس بالتشكيك في من يقف وراء هذا الحراك الجزائري السلمي. فإذا كان ترشح بوتفليقة وهو مريض، سبب هذا الحراك الذي لم تعرف مثله الجزائر منذ الاستقلال، فقد كان الرجل مريضا بل وتقدم وهو مقعد لأداء واجبه الانتخابي في ابريل 2014 فلماذا ثار الجزائريون في 2019 ولم يثوروا في 2014؟
 صحيح أن الجزائريين لم يثوروا بالشكل نفسه الذي ثاروا به في فبراير 2019 لكنهم احتجوا وعبروا عن رفضهم للعهدة الرابعة لرئيس مقعد، بل وخرجوا للتظاهر كما فعلت “حركة بركات” التي كانت أول حركة سياسية منذ سنوات تكسر حاجز الخوف وتخرج إلى الشارع لتنظيم وقفات احتجاجية ضد هذه العهدة. أساتذة جامعة بوزريعة في العاصمة احتجوا هم كذلك رغم تواضع أعدادهم في تلك الفترة. كما عبر بعض المثقفين والإعلاميين عن موقفهم الرافض للعهدة الرابعة بالكتابة في الصحافة والرسائل المفتوحة.
مواقف عبرت عنها مجموعات صغيرة من أبناء الفئات الوسطى المتعلمة – أساتذة وأطباء وصحافيين، بحضور ملفت للمرأة، لم يلتحق بها المواطنون الجزائريون في تلك الفترة بالشكل الذي نراه الآن. لم تصمد طويلا أمام المد الجارف للعهدة الرابعة التي استعملت لتمريرها كل وسائل الدولة الإعلامية والسياسية والمالية كما جرت العادة عندنا.
رغم أنه ليس في نيتي تفسير لماذا ثار الجزائريون في 2019 تحديدا إلا أنني أعتقد ان احساسهم بالإهانة كان كبيرا جدا هذه المرة والرئيس يترشح لعهدة خامسة بعد عشرين سنة من الحكم وهو ما قد يفسر توقيت هذا الحراك. فقد أفاض هذا الترشح كأس الجزائريين الذين كانوا غير راضين تماما على نظامهم السياسي لكنهم سكتوا وتنازلوا خوفا على البلد ومهادنة لسياسة شراء السلم الاجتماعي التي برع فيها النظام لسنوات اعتمادا على الريع، دون أن يمنعهم هذا السبات السياسي من التعبير بعدة أشكال لم ترق دائما إلى الأشكال الجماعية التي أخذها الاحتجاج الحالي وهو يأخذ تعبيرا سياسيا واضحا. فقد تألم الجزائريون كثيرا وهم يشاهدون كيف كان يستهزأ الإعلام الغربي والفرنسي تحديدا برئيسهم المقعد المرشح لعهدة خامسة على رأس مجتمع شاب لم يعد يقبل ما قبلت به أجيال كبيرة في السن عرفت العمل السري والخوف.
سؤال لماذا في هذا الوقت بالذات الذي يطرح مباشرة سؤال آخر مرتبط به، يتعلق بمن يقف وراء هذا الحراك المباغت والقوي الذي استطاع تجنيد شارع كان لغاية فبراير فارغا من الناحية السياسية. الإجابة قد تكون بسيطة إذا اقتنعنا أن هذا الحراك قد أعاد الجزائر إلى سكة التاريخ التي أخرجها منها هذا النظام السياسي الذي اقتنع أغلبية من الجزائريين أخيرا انه تحول إلى خطر على نفسه وعلى البلد وعلى الدولة الوطنية ذاتها ما جعلهم يخرجون للشارع بهذه الكثافة للقول كفى!
حراك في نهاية الأمر لا يخرج عن منطق العصر، فهو يشبه في جوانبه التنظيمية ما حصل في تونس وحتى فرنسا مع أصحاب البدلات الصفراء الذين خرجوا للاحتجاج من دون حزب ولا نقابة ولا قيادة مسبقة، في مجتمع يُعرف تاريخيا بقوة نقاباته وأحزابه السياسية حتى ولو كانت تمر في فترة ضعف كما هو حاصل في أغلبية بلدان العالم. فلماذا نريد أن نستثني الجزائر من هذه الاتجاهات الدولية الثقيلة؟
حراك ينظمه يوميا شباب ونشطاء الوسائط الاجتماعية الجديدة في مجتمع انتشر فيه التعليم وزاد فيه الانفتاح على العالم، بقي لعقود تحت سيطرة نظام أفرغ الحزب السياسي من محتواه وحارب النقابة والجمعية وشوه العملية الانتخابية وحارب النخب الممثلة واعتمد في تسييره على استغلال نقاط ضعف المجتمع بدل نقاط قوته الحاضرة التي كان على رأسها انتشار التعليم الذي برزت نتائجه إلى السطح مع هذا الحراك الشعبي الذي تعيشه البلاد هذه الأيام.
وسائط اجتماعية يتعامل معها الجزائريون بكفاءة كبيرة في السنوات الأخيرة مثل باقي شعوب الأرض، كانت وسيلتهم في التعارف فيما بينهم والنقاش والتجنيد عندما أحسوا انهم أُهينوا من نظام فقد التواصل معهم ولم يعد يستمع لهم، فابتعدوا عنه ورفضوه. نظام لم يسمح للجزائريين ببناء فضاء إعلامي يسمح لهم بالتعبير عن مطالبهم وهمومهم، فكان التوجه بقوة نحو هذه الوسائط البديلة التي استطاعت تجنيد ملايين الجزائريين في مختلف مناطق البلاد خرجوا بسلمية كبيرة وتنظيم ذاتي لأول مرة في تاريخهم السياسي. فما عاشته الجزائر في مسيرات 22 فبراير و1 مارس لم يعبر بمثله الجزائريون الا أيام فرحة الاستقلال الأولى منذ أكثر من نصف قرن.
ونكون بذلك أمام السؤال الثالث المطروح بحدة هذه الأيام، بعد سؤال التوقيت والتنظيم. لماذا ظهر الحراك بهذا الزخم والتنوع السوسيولوجي في مجتمع كان التعبير الأساسي عن الهم الجماعي يقوم به الشباب الذين لم يغيبوا هذه المرة لكن انضمت إليهم فئات اجتماعية وعمرية متنوعة، عبرت عنها العائلة الجزائرية وهي تخرج للمسيرات وكأنها ذاهبة لعرس؟
بالفعل نحن أمام مشهد سياسي عير مألوف في الجزائر لا يمكن تفسيره إلا بالخوف على مصير البلد، هو الذي يفسر هذا الحضور المكثف للمرأة والرجل بمختلف أعمارهم. أمر لم يقتصر على العاصمة كمدينة كبيرة، بل شمل مدنا أخرى عبر مختلف مناطق البلاد. مستوى تجنيد يحيلنا إلى طرح سؤال الجيش والمؤسسة الأمنية لمعرفة كيف سيكون تصرفها أمام هذا الحراك وهل تستطيع أن تواجهه في حالة إصراره على مطلبه سحب ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة؟
للإجابة عن السؤال انطلق من هذه الصورة التي بقت راسخة في ذهني بعد تحطم طائرة عسكرية ووفاة أكثر من مئتي عسكري سنة 2018. ما شد انتباهي ودعم قناعاتي، أن صور نقل جثامين الضحايا من ضباط وضباط صف ودفنها لم يقتصر على منطقة واحدة من التراب الجزائري، فقد توزعت بين كل الجهات تماما مثل مسيرات هذه الأيام، وهو ما أكد أننا أمام تمثيل وطني لتركيبة الجيش الجزائري، صور منازل عائلات الضحايا وطابعها الريفي الشعبي المتواضع الغالب، أكدت نقطة أخرى في غاية الأهمية، هي أننا أمام تركيبة شعبية لا يمكن اغفالها أو القفز عليها عبرت عنها بصدق عينة ضحايا الطائرة رغم ما اعترى بعض القيادات العسكرية من فساد كالكثير من المؤسسات الرسمية.
فمن يستطيع من قيادات عسكرية وسياسية أن يغامر بالزج بقوات مسلحة وقوات أمن – ما ينطبق على الحيش ينطبق على قوات الأمن الأخرى – بهذا العمق الشعبي والوطني في مواجهة مجتمع خرج بالملايين للمطالبة بإصلاح دولته ونظامه السياسي وهو يغني النشيد الوطني الذي عاد بقوة إلى الشارع الجزائري يشدو به الصغير قبل الكبير؟
 لا أعتقد أن هناك قائدا عسكريا أو مسؤولا سياسيا مهما كان منصبه، يستطيع اتخاذ مثل هذا القرار من دون كلفة سياسية باهظة ستكون مؤشرا يخبر الجزائريين انهم أمام دولة أخرى وليست دولتهم التي يعرفونها. وتؤكد هذه القناعة حتى الآن سلوكيات ومواقف رجال الأمن أثناء المسيرات التي استمرت هادئة وسلمية بعد أسبوعين من الحراك.
قناعة تؤكد أن سحب ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة سيتم هذه الأيام، بعد أن تصل مراكز القرار إلى طريقة مقبولة في اخراج قرارها الذي ينتظره الجزائريون، للانطلاق بعد ذلك في إصلاح نظامهم السياسي ودولتهم الوطنية.

> ناصر جابي