*أثارت مطالبة السفارة الإسرائيلية في فرنسا، إلغاء بث تحقيق تلفزيوني حول ضحايا العمليات العسكرية لقوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، أجرته إحدى قنوات التلفزيون العمومي الرئيسية، بثته ضمن أحد برامجها الاستقصائية الشهيرة، (أثارت) جدلا ونقاشا كبيرين على الساحة السياسية وخاصة في وسائل الإعلام الفرنسية ووسائط التواصل الاجتماعي حول إشكالية هيمنة اللوبي الإسرائيلي ببلاد حقوق الإنسان على الإعلام.
وكانت القناة الثانية العمومية، قد أدرجت هذا الربورتاج ضمن (Envoyé spéciale) “مبعوث خاص” تطرق إلى وضعية العديد من الفلسطينيين المصابين بالرصاص الحي لقوات الاحتلال، خلال مشاركتهم في مسيرات العودة في قطاع غزة.
وتحت عنوان “غزة.. شباب مشوه”، تناول البرنامج، بدقة مهنية عالية، استخدام قوات الاحتلال للذخيرة الحية ضد المتظاهرين الذين يحاولون تحدي الجدار العازل أو ينظمون تجمعات بالقرب منه. كما يوثق التحقيق بالصوت والصورة، أن إطلاق النار على المتظاهرين الفلسطينيين السلميين الذين اعتادوا – حسب برنامج نضالي – الاحتشاد بشكل دوري كل يوم جمعة، أسفر عن استشهاد 140 شخصا وإصابة 4500 آخرين منذ بدء المسيرات في مارس الماضي.
وهكذا سلط التحقيق، على مدى 28 دقيقة المدة التي استغرقها البرنامج، الضوء بالخصوص على حياة عدد من المدنيين الفلسطينيين الذين بُترت سيقانهم جراء تعرضهم لرصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومنهم أحد الشبان الذى نقلت القناة الفرنسية قوله بتأثر وألم بالغين، إنه كان يحلم، قبل إصابته بنيران الاحتلال، أن يكون ضمن المنتخب الفلسطيني لرياضة سباق الدراجات الهوائية.
ووسط استغراب الجميع، فإن طلب سفيرة إسرائيل في باريس ليزا بنون، الذي تضمنته الرسالة التي وجهتها لإدارة مؤسسة “فرانس تلفزيون” (France Télévision)، كان قبل عرض البرنامج، أي في مرحلة الإعلان عنه في وصلات إشهارية، مما جعل الرأي العام الفرنسي، بالخصوص، يطرح سؤالا عريضا حول ضرب الأعراف والتقاليد الإعلامية من لدن إسرائيل ومحاولة وقف برنامج وممارسة الرقابة في بلد الحريات.
إلا أن القناة الثانية، وبجرأة نادرة، ورغم الضغوطات القوية التي مارسها اللوبي الصهيوني بفرنسا من خلال تجمعاته ومؤسساته الدينية والإعلامية، لم تعر أي اهتمام لهذا الطلب الإسرائيلي الغريب على المجتمع الفرنسي، القاضي بتعليق البث، بل قامت ببث التحقيق الذي ادعت الديبلوماسية الإسرائيلية في رسالتها أنه “يحرض على الكراهية ضد إسرائيل”.. بل تمادت في ادعائها بأن هذا البرنامج “يمكن أن تكون له انعكاسات سلبية مباشرة على السلامة الجسدية للفرنسيين من ديانة يهودية”.
وعلى ما يبدو أن من بين أسباب الغضب الإسرائيلي الذي يتزامن مع الهجمة الشرسة، بث البرنامج شهادة قناص كان يشتغل سابقا ضمن قوات الاحتلال الإسرائيلي، اعترف فيها بأن التعليمات كانت توجه له ولنظرائه بضرورة التركيز على إصابة الرصاص الحي لأرجل الشبان الفلسطينيين المشاركين في هذه المظاهرات والاحتجاجات السلمية (وشهد شاهد من أهلها).
وانتقد عدد من السياسيين الفرنسيين في برامج بالقنوات التلفزيونية وأذاعتها محطات إذاعية فرنسية لجوء قوات الاحتلال الإسرائيلي إلي استخدام الذخيرة الحية في مواجهة الفلسطينيين العزل المشاركين في مسيرات “العودة”، وذلك في خرق سافر لقواعد القانون الدولي الذى يحرم إطلاق الرصاص الحي في مثل هذه الحالات التي كان خلالها المتظاهرون بعيدين حتى عن حاجز الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل بقطاع غزة.
فمحاولة التدخل الجديدة هاته ضد حرية الصحافة والإعلام في بلاد الأنوار، يؤكد بالملموس زيف ما تروج له آلة الدعاية الإسرائيلية وأزلامها من المندسين في الأوساط السياسية والإعلامية بصفة خاصة، بأن الكيان الإسرائيلي “واحة الديمقراطية” في منطقة الشرق الأوسط.
كما تبين هذه الواقعة التي يمكن أن تشكل مرحلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي على ساحة الإعلام والصحافة، وتزيد من منسوب الرقابة الذاتية لدى الصحافة الفرنسية، بما لا يدع مجالا للشك، الأدوار التي أضحت تقوم بها وسائل الإعلام في فضح الغطرسة والانتهاكات الجسيمة التي تتعرض لها حقوق المواطنين الفلسطينيين يوميا.
وهذا ما يطرح على وسائل الإعلام العربية، مسؤولية إعادة النظر في الأساليب التقليدية المعتمدة في تعاطيها مع القضية الفلسطينية إعلاميا، وذلك بالاعتماد في التغطيات والتحقيقات على القصص الإنسانية، وهي كثيرة ومتنوعة، والتي يكون لها تأثير على الضمير الغربي، ومن أمثلتها واقعة الشابة الفلسطينية عهد التميمى، وقبلها الطفل الشهيد جمال الذرة، وهما الواقعتان اللتان تمكنتا من إعادة طرح معاناة الشعب الفلسطيني على الساحة الدولية من جديد.
فالخطاب الإعلامي العربي المتداول في وسائل الإعلام التقليدي والجديد أيضا، لم يتمكن لحد الآن بما فيه الكفاية، “لكي لا نقول بأنه فشل”، من مواجهة الصور النمطية المتداولة حول القضية الفلسطينية ومخاطبة الرأي العام العالمي خاصة بالغرب، ونقل معاناة الشعب الفلسطيني، في ظل الاحتلال والقمع الإسرائيلي وفق أسلوب احترافي مهني. لذا أضحى تجديد الخطاب الإعلامي العربي ضرورة ملحة في الوقت الراهن، الذي يعرف العديد من التحولات والمتغيرات ساهمت بالخصوص في تحويل القضية الفلسطينية التي كانت مركزية إلى حين إلى قضية تكاد تكون ثانوية في اهتمامات الإعلام العربي الذي أصبح منشغلا أكثر بقضايا بلدانه القطرية، زادها الانحياز الامريكي السافر للأطروحة الإسرائيلية الصهيونية في زمن الرئيس ترامب الذي بادر على خلاف سابقيه باتخاذ قرار تحويل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس.
وفضلا عن ذلك، يتطلب الأمر من وسائل الإعلام العربية والمناصرة للقضية الفلسطينية، البحث والاجتهاد المهني في الكيفية المثلى لتقديم فلسطين في الإعلام، عبر خطاب إعلامي جديد وبمضامين مؤثرة في ضمير ووجدان الرأي العام العالمي، مع الأخذ بعين الاعتبار الثورة الرقمية، التي أصبحت بفضلها وسائل الإعلام بتأثيراتها المباشرة على المتلقي وبرسائلها المتعددة تضطلع بدور كبير على تمثله لما يجري في الساحة الدولية ولما يدور حولنا، وهو ما جعل العلاقة مع العالم – حسب العديد من الخبراء والمختصين – لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بقدر ما تحدده الرؤية التي يقدمها لنا الإعلام جاهزة.
> بقلم: د. جمال المحافظ
* باحث في العلاقات الدولية والإعلام