الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 19-

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

  • تأثير الوباء على علاقات القوة بين القلة المهيمنة والغالبية المحكومة

قام البرتغاليون والإسبان في القرن الخامس عشر، بالتحرك الأوربي الأول في اتجاه سيادة العالم، ثم تبعهم الهولنديون والفرنسيون والإنجليز في القرنين التاليين. وفي منتصف القرن السابع عشر، ظهر ما أصبح فعلا اقتصاد عالمی حقيقى لمس كل القارات المسكونة عدا استراليا، فكانت بداية النزعة الاستهلاكية على مستوى المجاميع الكبيرة من البشر. كانت هذه الظاهرة جزءا من نظام أكبر وهو التنمية التي أديرت بواسطة وكلاء يعيشون في العواصم المالية لأوربا، جنوا، لشبونة وانتويرب وبعد ذلك في أمستردام ولندن. وفي موضوعنا هذا، كانت التنمية كقوة محركة أساسية للعالم الحديث المبكر قادرة على قبول تعدد الأشكال. وكانت أكثر العناصر مطلبا تتمثل فيما يلي :

  • أراض خصبة، بذور، غابات، معادن ومواد أولية أخرى يمكن أن تتحول إلى منتجات (بعضها جديد تماما) يمكن إغراء المستهلكين بشرائها.
  • العمال، الذين يقومون بالتحويل الفعلي والذين ربما يحلون محل المستهلكين اعتمادا على ما يسمح به مالكوهم أو مستخدموهم.

3 – القروض وتسهيلاتها التي تحتاج إلى تكلفة الجمع في مكان واحد بين المواد الأولية والعمل لتحويلها إلى منتج يباع، ثم نقلها إلى أي سوق يقدم الربح الأعلى.

4 – المستهلكين الذين يقدمون النقود والتعهدات مكتوبة والموافقات الشفوية على الدفع وبذلك يحولون المنتج النهائي إلى ذهب أو فضة، وهي المفردات التي قام عليها نظام القروض أو الائتمان الأوربي قبل ثلاثينيات القرن العشرين.

وحتى الربع الأخير من القرن العشرين (عندما سادت في النهاية صناعة التقنيات المتقدمة) كانت الطبيعة الفعلية للمنتجات النهائية لا تهم – سواء كانت مصنعة كليا يدويا أو بواسطة الميكنة أو بواسطة الجمع بينهما. لكن المؤكد أن وكالات التنمية الأوربية قد حافظت على عملياتها مستمرة وأخضعت سكان العالم تحت تأثيرها بصورة متزايدة .

كان من بين التبعات غير المقصودة “للتنمية” خلق شبكات المرض التي امتدت عبر العالم، مثل شبكة التجارة التي ظهرت أولا بواسطة البرتغاليين. قبل عبور كولومبوس المصيرى للأطلنطى في عام 1992، لم يكن موجودا في العالم الجديد أي من الأمراض الوبائية التي ذكرت في هذا الكتاب: الطاعون الدملی، الجذام، الجدری، الكوليرا، الملاريا والحمى الصفراء أو حتى الزهري.

هذا الوضع السعيد “بالنسبة الانتشار هذه الأمراض ” جاء نتيجة لحدثين. الحدث الأول هو هجرة الشعوب الآسيوية القديمة من أراضيها عبر ما يعرف الآن بمضيق بيرنج منذ حوالی 90.000 سنة مضت، وقد أغلق ارتفاع البحر هذا الطريق بعد ذلك بـ 30.000 سنة. شكل هؤلاء المستوطنون القادمون الجوهر الجيني للسكان قبل مجيء كولومبوس إلى العالم الجديد. أما الحدث الثاني في العالم القديم بعد مغادرة المهاجرين فيتمثل في تطور الأمراض الحديثة.

تتمسك النظرية – التي تعتمد على الأفكار الأوربية بوضع أسس قواعد صالحة للتطبيق في كل مكان حيث إن الأمراض المتوطنة التي نناقشها الآن تتطلب عددا كبيرا من السكان المستقرين لكي تتطور. في العالم القديم، بدأ المزارعون المستقرون (خلافا لجامعى الجذور والصيادين) بين 10.000 سنة ق.م (في أسيا) و9.000 سنة (في مصر والهلال الخصيب). هذا التأريخ الزمني يتناسب بدقة مع المواعيد الزمنية الموضوعة لتطور وظهور أمراض العالم القديم. على كل حال، لا توضح النظرية لماذا (ما عدا السل) فشلت هذه الأمراض في الظهور في العالم الجديد. في نصف الكرة الغربي، كانت مدن تجارية كبيرة ومدن مزدحمة العديد منها يقطنه أكثر من50.000 سمة موجودة منذ حوالي 500 سنة ق.م وخصوصا في أمريكا الوسطى.

إن تطور الكائنات المجهرية القادرة على التسبب في الأمراض الوبائية على كتلة الأرض الأوراسية، بعد انقضاء عدة آلاف من السنين من مغادرة أجداد سكان أمريكا الأصليين لها، يعني أن المنحدرين من صلبهم لم تكن لديهم الفرصة ولا الحاجة لتكوين مناعة ضد هذه الأمراض.

ولكن، بالنسبة لوكالات التنمية في أوربا التي كانت مصممة على حصد المكاسب الكبيرة من مناجم الذهب والفضة في العالم الجديد، لم تجد في تدمير الأمريكيين المحليين خسارة كبيرة. وبفضل تقنيات البحرية البرتغالية التي تفوق عليها بسرعة الهولنديون والإنجليز) ولقواعد البرتغاليين في أفريقيا وآسيا، كان سهلا نسبيا استيراد العبيد الأفارقة للعمل في المناجم الأمريكية. وهكذا، خلال عقود زمنية قصيرة من الاتصال بالأوربيين غيرت محرقة وباء الجدری (مع الحصبة والتيفود) إضافة إلى طمع البيض والسلوكيات البشرية الأخرى التركيب الإثنى للعالم الجديد تماما.

في أي نظام للحكم، سواء كان في أوربا نفسها، أو أي إقليم غير أوربي تم تطويره أو في أية مستعمرة أوربية حقيقية، أثر الوباء على علاقات القوة بين القلة المهيمنة والغالبية المحكومة. كان واضحا أن الحكام يرجعون الاستجابة الرسمية إلى تهديد المرض (أحيانا بالتشاور مع الأطباء). وغالبا ما ادعت نخب الصفوة أن المرض استهدف مجموعة خاصة من الناس فيما ترك الآخرين، بالرغم من اختلاف هذا مع أساسيات علم الأوبئة. ومن خلال تعقيدات الحواجز الثقافية، نصل إلى إدراك ما سميته أنا الموقف من المرض (كالموقف من الجذام أو الموقف من الحمى الصفراء)، ويهدف هذا الموقف إلى تأسيس ردود فعل رسمية لما يمكن أن يتم في محاولة للحد من انتشار المرض.

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top