بات الاستغوار سياحة جميلة تحت الأرض.. أنفاق وكهوف نحتتها الطبيعة تتحول لمزارات ساحرة. الاستغوار هو نشاط ينشد البحث واكتشاف ورسم خرائط المغارات والكهوف، أشكال وتجاويف ذات تراكيب صخرية أضحت متعدد التخصصات تجمع بين الجوانب العلمية والبيئية والرياضية والترفيهية.
ممارسة الاستغوار يستوجب وجود فجوات طبيعية بمختلف التشكيلات من كهوف ومغارات وفجوات وأودية وأخاديد. ويتطلب من ممارس هذا النشاط الرياضي والعلمي بنية جسدية صلبة تتحمل المشي والتسلق نزولا وصعودا لمسافة طويلة بكل أناة وصبر فضلا عن وجوب التزود بالمعدات الضرورية، واحترام المشهد الطبيعي الخاص بالمغارة.
يتغيا المستغورون استكشاف البيئات الكارستية والبيئية الطبيعية والاصطناعية أو البشرية المنشأ من أجل المساهمة بنشاط في دراسة ومعرفة وحفظ مجالات ممارسة الاستغوار، مع مراعاة عناصر التراث السطحي.
كان ولوج المغارات عبر العصور لدواعي عديدة تتجلى في الاختباء والبحث عن الأمان والسكينة وممارسة الشعائر والطقوس الدينية. ونسجت حول المغارات والكهوف عدة أساطير على امتداد العصور يمليها الصراع والحب والنسك ومختلف نوائب الدهر ووفق الزمان والمكان، ليتحول حديثا إلى مجال للاستجمام وممارسة رياضة التنقيب الاكتشاف العلمي الأركيولوجي والجيولوجي …
وفي هذا السياق نظمت جمعية المستكشفون المغاربة(Moroccan Explorers) ، مؤخرا، بمدينة أكادير مؤتمرا علميا للاستغوار والسياحة الجيولوجية وتأهيل الموارد الطبيعية، تحت شعار “ثمين التراث الطبيعي وتنمية البحث العلمي”، وذلك بشراكة مع مختبر الفيزيولوجيا الوراثية والبيولوجيا الجزيئية “PGMB” بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء و المتحف الوطني الطبيعي للعلوم بمراكش ومختبر الجيولوجيا الإنشائية ورسم الخرائط “GESCAT” بجامعة ابن زهر بأكادير .
ويعتبر هذا المؤتمر من أهم المحطات الوطنية التي تهتم بتثمين وحماية التراث الاستغواري بالمغرب إذ يتطلع لأن يكون موعدا منتظما ينعقد كل سنتين في إحدى المدن المغربية. وعرف هذا الملتقى مشاركة العديد من الخبراء والباحثين المغاربة والأجانب في مجال الاستغوار والسياحة الجيولوجية، وكذا باحثين في مجال تثمين وتأهيل الموارد الطبيعية وعلم الآثار وبالإضافة لممثلي الجمعيات المغربية التي تعنى بالاستغوار من كافة ربوع المملكة.
مجال غني للبحث العلمي
وشكل المؤتمر فرصة للباحثين الشباب للانفتاح على هذا الميدان والاحتكاك بخبرائه. ومكنت العروض العلمية المقدمة من الوقوف على أهمية الاستغوار كمحور للدراسات وتثمين والمحافظة على المغارات والكهوف وجعل المغارات والكهوف في خدمة التنمية المستدامة. وعرف الملتقى عرض مجموعة من المستجدات العلمية من خلال سلسلة من المحاضرات لخبراء مغاربة وأجانب، بالإضافة لزيارة ميدانية لمغارة “وين تيمدوين” المتواجدة بضواحي مدينة أكادير. واستعرض المشاركون عدة محاور وموضوعات متنوعة بين الاستغوار وعلم الآثار والجيولوجيا وثمين السياحة الجغرافية للموارد الطبيعية ومساهمة نظام المعلومات الجغرافية.
واستعرض “ميشيل شاسير” عن نادي الاستغوار بـ”بلواز” الفرنسية (Blois) مسيرة 60 سنة من التنقيب في الحجر الجيري بسلسلة جبال الريف. وتمتد منطقة الريف، وهي منطقة جبلية تحتل الجزء الشمالي من المغرب، على حوالي 300 كيلومتر من الشرق إلى الغرب، على طول شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث تم استكشاف سلسلة التلال الجيرية في الريف غرب مدينة الشاون منذ سنة 1959، مع أكثر من 200 “تجويف” تم استكشافه، بما في ذلك أعمق فجوة في المغرب، حوالي أكثر من 21 كيلومتر من الشبكات الطبوغرافية، ذات أهمية كبيرة للاستغوار بالمغرب.
وأكد “ميشيل شاسير” أنه لا يزال هناك الكثير من الدراسة والاكتشاف ويشكل وجود جمعية للاستغوار في الشاون مرحلة حاسمة لتطوير هذا النشاط والبحث.
ويستوطن المغارات أنواع عديدة من الكائنات الحية والطيور. وتناول الباحث العياشي الصحار عن قسم إدارة الموارد الطبيعية والبيئة بمعهد الحسن الثاني الزراعية والبيطرية بالرباط “وضع الخفافيش بالمغرب: التنوع وأسلوب الحياة واحتياجات المحافظة”. وتعتبر الخفافيش من آكلي الحشرات، لذلك تلعب دورا رئيسيا في مكافحة الحشرات الضارة بالبشر والماشية والزراعة.
وأوضح الباحث العياشي تنوع الخفافيش في المغرب، والأصل الجغرافي، والدور البيئي، وطريقة الحياة فيما يتعلق بمساكن اللجوء وفضاءات الصيد، مبرزا التهديدات الرئيسية لبقاء هذه الأنواع واقتراح التدابير الضرورية للحفا ظ على الخفافيش في المغرب.
أما مغارة الجمل “تاسركوت” كمتحف طبيعي في بني سناسن “موقع مصنف كتراث وطني”، فاستعرض الباحث أراغ حسن عن جامعة محمد الأول، كلية العلوم بقسم الجيولوجيا، خصوصياتها ومؤهلاتها الطبيعية، حيث تشتهر منطقة بني سناسن في مدينة بركان في شرق المغرب بكهوفها ما قبل التاريخ، وبعضها مشهور عالميا، مثل كهف “الجمل” في وادي “زكزل” وكهف “تافوغالت”. وصنف هذان الموقعان ضمن التراث الوطني في الخمسينيات من القرن الماضي. ويعد كهف “الإبل” (يُطلق عليه أيضا تاسيراكوت) مكانا مرتفعا للاستغوار في شرق المغرب، حيث تشكل الصواعد وهوابط الصخور جزء من أعمدة متعددة محفورة في الحجر الجيري عبر تسرب المياه خلال آلاف السنين.
وتناول الباحث “جان إيسبيك” عرضا تطرق من خلاله للبعثات العلمية والمغامرات الممتعة في مغارة “وين تمدوين” بضواحي أكادير واصفا ملامح جمالها وخصوصياتها الجيولوجية والتي تتطلب المزيد من للبحث للكشف جميع أسرارها.
وأبرز الباحث يوسف بوكبوت عن المعهد الوطني للآثار وعلوم التراث بالرباط مختلف الاكتشافات بمغارة “إيفري عمرو موسى”، والمجمع الأثري واد “بهت” مواقع ما قبل التاريخ استثنائية، حيث أتاحت أعمال التنقيب التي بدأت في أوائل أبريل 2006، في كهف “إيفري عمر أو موسى”، اكتشاف هياكل الموائل والدفن والأثاث الأثري التي تنتمي إلى حضارات ما قبل التاريخ.
مواقع جديدة
وشهد المؤتمر تقديم المعطيات الأولية عن اكتشاف موقع جديد للنقوش الصخرية بمنطقة تازناخت بالأطلس الصغير، من قبل مجموعة بحث مكونة من الباحث جمال البوقعة والباحث محمد الصنهاجي، والباحث عبد الهادي فك، وتم عرض دراسة لتقنيات وأساليب إنجاز النقوش المحصاة بهذا الموقع الجديد، واقتراح تأريخ نسبي لها مقارنة مع بقية المواقع التي تنتشر في هذا المجال. وذلك في سياق المستجدات التي يعرفها مجال البحث والتحري في مجال أركيولوجيا الفنون الصخرية، واستكمالا للتحريات التي يشرف عليها المركز الوطني للتراث الصخري بأكادير وبرامج الجرد التي تنفذها مفتشية المباني التاريخية والمواقع بجهة درعة تافيلالت.
وسيمكن هذا الاكتشاف من إكمال الخريطة الأثرية للمنطقة، وسيساهم في استكمال المعطيات المتعلقة بدينامية الاستقرار البشري بالمنطقة في القديم، خصوصا مع تصاعد موجات الجفاف بداية من الألف الثاني قبل الميلاد، وباعتبار البنية التضاريسية للمنطقة التي تجعلها ممرا طبوغرافيا يمكن من الوصول إلى السفوح الجنوبية الرطبة نسبيا للأطلس الكبير.
وتنوعت العروض الشفوية باستعراض مختلف المحاور الوازنة همت مغارة (عزيزة)، المتواجدة في جبل محاذ لنهر (كير)، قربة منطقة “تازكارت”، بإقليم الرشيدية. وقد عكف فريق من الباحثين، مكون من هشام بناني وحسن رين ومهدي معن ولحسن بايدر وأيوب نهيلي وعبد العزيز وعوال ومكرم لينزي وسفيان كعب وناديه سليماني، لدراسة النمذجة ثلاثية الأبعاد باستخدام نظم المعلومات الجغرافية لمغارة عزيزة.
وأكد فريق البحث أن تحت الأرض هو بيئة متعددة الأشكال، والكهوف عبارة عن تجاويف طبيعية شكلتها المياه لآلاف السنين، لكن استكشافهم للأغراض علمية وسياحية كان متأخرا ولم يتم تنظيمه إلا في القرن التاسع عشر. ومع استكشافات الأسطح الجيرية، تطور معرفة العالم الذي تحت الأرض، عالم يجب استكشافه والحفاظ عليه.
ولا تزال “السياحة تحت الأرض” شكلا دائما من أشكال السياحة إذ يسجل 150 مليون زائر سنويا لحوالي 3 مليارات دولار من رقم معاملات سنة 2008.
ويتواجد بالصين لوحدها 360 مغارة، و230 مغارة في الولايات المتحدة، و108 مغارة في فرنسا، و3 مغارات فقط في المغرب، اثنان منها مفتوحان للجمهور.
ولا تزال السياحة تحت الأرض في المغرب قيد الاستثمار إلى حد كبير، بل إن الحجر الجيري السطحي للمغرب الذي يبلغ 99890 كيلومتر مربع، يمثل 22.37 في المائة من إجمالي المساحة لـ 3 كهوف فقط مرتبة. وهذا الاستغلال الناقص يفسره الافتقار إلى تقييم ثراء التشكيلات الجيومورفولوجية والبنى الكارستية (THE KARSTIC) والتراث الكهفي والمغاري للمغرب. كما أن الخرائط الطبوغرافية للكهوف المغربية ضعيفة أو غير موجودة، ذلك أن آخر قائمة لكهوف المغرب تعود إلى عام 1981.
وتناول فريق البحث مشروع يهدف إلى التمثيل الافتراضي للكهف “عزيزة”، وإعادة تقييم تراث المغرب من الحجر الجيري. وإجراء مسح تجريبي ثلاثي الأبعاد للكهف وبيئته. وقام فريق البحث بجمع البيانات المكانية مع عرض رقمي ثلاثي الأبعاد لكهف “عزيزة” من أجل فهم حجم الكهف وتصور بطريقة افتراضية تعقيد هذا “العالم تحت الأرض”. وتم إجراء الإسقاط ثلاثي الأبعاد للكهف على برنامج “VISUAL TOPO “وتم وضع النماذج ثلاثية الأبعاد للمغارة وبيئتها على البرنامج “Sketch up” و”Arcscene”. وأظهرت النتائج التي تم الحصول عليها أن سطح الحجر الجيري في المغرب لا يزال قيد الاستغلال إلى حد كبير بالنظر إلى إمكانات الكهوف التي تتمتع بها البلاد.
أما نتائج البحث المتوصل إليها حول التنوع البيولوجي المائي تحت الأرض في جنوب شرق المغرب والعلامة الجيولوجية والمؤشر الحيوي لجودة مياه المنطقة، من قبل فريق البحث المكون من مريم أزيرير وعلي آيت بوغروس وباتريك مارتن، فقد تمت الدراسة في عدد قليل من مستجمعات المياه في جنوب شرق المغرب، من الناحية الفيزيائية والكيميائية. واستنتج “تمعدن” المياه الجوفية التي تمت دراستها. في حين تم جمع العديد من الأصناف الحيوانية التي تتميز بحياة حصرية في المياه الجوفية. وقد تم تحديد أكثر من عشرة أنواع. ويرتفع تنوع الحيوانات المائية الموجود في الآبار والينابيع عندما تكون المياه جيدة النوعية وتتناقص في حالة التلوث. أي أن هذه الأنواع أكثر حساسية للتلوث من الأنواع المائية الاخرى؛ وتواجدها مؤشر على جودة المياه. وتنتمي العديد من القشريات من المياه الجوفية القارية إلى مجموعات غائبة في المياه السطحية العذبة ولها أصل بحري. إنها “حفريات حية” وشهود على الانتهاكات البحرية في الماضي، وعلامات على موقع الحفريات الأثرية، يؤكد الدارسون.
عروض علمية حول التنوع البيولوجي والحفاظ على الموارد الطبيعية
وتميز الملتقى كذلك بتقديم عدد من العروض التي تندرج في سياق الاهتمام بالحفاظ على الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي لمختلف المناطق بالمغرب، حيث تم تقديم نتائج عدد من الدراسات حول حليب الإبل ودوره المهم في تغذية الإنسان في المناطق الجافة وشبه الجافة القاحلة. وأظهر البحث أن حليب إبل شمال افريقيا يتميز بنسبة عالية من البروتينات والدهون والسكريات والحليب الشرقي تتميز بنسبة عالية من الفيتامين (س). وأفادت دراسة لتحديد بكتيريا ﺤﻤﺽ ﺍﻟﻠﺒﻥ المنتجة للجزيئات الحيوية النشطة من قبل فريق بحث مكون من دردك رضا، سكوي صوريا، أضوم بوتينة، سكرى عبد العزيز والخلفي بشرى، أن الاهتمام المتزايد مؤخرا بحليب الحمير بسبب العناصر الغذائية الغنية، إلا أن دراسة كائناته المجهرية لا تزال أقل. وتهدف هذه الدراسة الحالية إلى تحليل حليب الحمير وعزل وتوصيف مكوناتها البكتيرية ثم تقييم قدرتها على إنتاج جزيئات حيوية ذات نشاط مضاد للجراثيم وضد مسببات الأمراض. وجعلت التحقيقات التي أجراها فريق البحث من الممكن عزل وتحديد 44 سلالة، والتي تم اختيار خمس سلالات لبنية لتحفيزها لإنتاج الجزيئات الحيوية واختبار نشاطها المضاد للبكتيريا ضد الليستيرية المستوحدة (Listeria monocytogenes) وهي جرثومة تسبب الشعور باضطراب ناجم عن تناول أطعمة ملوثة. وكذا مقاومة الإشريكية القولونية وحالات العدوى بالمكورات العنقودية (Escherichia coli et Staphylococus aureus).
كما شكل “نبات المورينجا”، المعرفة علميا بـ”المورينجا أوليفيرا” (Moringa oleifera)، هي نبات موطنها المناطق شبه الهيمالايا في الهند، أيضا محور دراسة قام بها فريق بحث يتكون من عبد العزيز ميموني والصغيور فرحاتي وعابد نعيمة وأمارك عبد الرحيم، وهماموش نور الدين وأوريكا مليكة، بهدف المساهمة من توصيف وتعزيز نبات “المورينجا أوليفيرا”. وتعتبر الأجزاء المختلفة من “شجرة المعجزة” مفيدة للغاية، إذ تستخدم في الغذاء البشري ولها العديد من التطبيقات الطبية. وعمل البحث على تقييم التنوع الوراثي لـ15 شجرة من “المورينغا” من الضيعة التجريبية بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بأكادير في “ملك الزهر” ببلفاع، وتم تخصيص الزيت المستخرجة من البذور من وجهة نظر كيميائية.
وتستند هذه الدراسة إلى نوعين من التحليل. استخدام العلامات الوراثية من النوع الجزيئي، من أجل شرح الاختلافات الوراثية بين هذه الأشجار الخمسة عشر والتحليل بواسطة “كروماتوجرافيا الغاز” (YL6500 GC System) من الزيوت المستخرجة من بذور “لمورينغا”، بغية تحديد تركيبة الأحماض الدهنية الكيميائية لهذه الزيوت. تم تنفيذ استخراج الحمض النووي بواسطة طريقة (CTAB)، وأجريت تنقية الحمض النووي والكمي من خلال القراءة الطيفية للكثافة الضوئية “OD” فضلا عن طرق بحثية أخرى ليتم الكشف عن التوصيف الوراثي باستخدام علامات جزيئية من نوع (PCRISSR).
> محمد التفراوتي