الجرعة الثانية

كعادتي يوم السبت، استيقظت باكرا، وكنت أهم بالقيام بجولتي الصباحية حين تذكرت أن اليوم هو موعد الجرعة الثانية.
الساعة الآن تشير إلى السابعة، لا زال بإمكاني إعداد قهوة الصباح وإعداد الفطور، هدوء يسود المنزل لا يغيره سوى ضحكات من حين لآخر لإبنتي إيناس التي استيقظت قبلي و استغلت الفرصة لتشغيل التلفاز و مشاهدة برنامجها المفضل ، كما تقول، قبل أن يستيقظ من يمنعها من ذلك.
تناولت وجبتي بسرعة، فالتجربة علمتني أن في مثل هذه الظروف من الأحسن التواجد باكرا تحسبا لأي تطور غير منتظر. وصلت حوالي الساعة الثامنة ، وجدت مجموعة من حوالي ثلاثين شخصا عند باب المستوصف و قد تطوع أحدهم لجمع البطاقات الوطنية لتسهيل عملية التنظيم.
لازال متسع من الوقت يفصلنا عن بداية عملية التلقيح لهذا اليوم، وقت استغله البعض لاستعراض قدراته في تحليل الوضع الصحي بالمغرب و قراءته للسياسة الصحية بالبلاد، و البعض الآخر وجدها مناسبة لتقاسم ما جمعه من أخبار مؤكدا أنها من مصادر موثوقة.
كنت أسترق السمع تارة و أتيه تارة أخرى في غياهب هذه التجربة الوجودية مع الوباء. من لحظة السخرية منه، للتشكيك في و جوده ، فالخوف من تبعاته، للأمل في اختراع لقاح ضده. و انا في خضم هذه التأملات تفاجأت بهرولة الجموع نحو باب المستوصف ، كانت الساعة الثامنة و النصف، هروله المواطنين أنستني أن ترتيبا حسب توقيت الحضور قد وضع من قبل من خلال جمع البطاقات الوطنية، وبقي السؤال معلقا، لماذا هذه الهرولة؟
– هل هي نتاج عدم الثقة في التنظيم؟
-هل هي رغبة جامحة للحلول الفردية؟
– هل هي من تدبير المتأخرين الذين ليست في مصلحتهم هذه الوضعية؟
و الحقيقة تبين لي من بعد أن السبب بعض من هذا و ذاك، التجربة علمت المواطن أن يكون متأهبا لكل الحالات، فدوام الحال من المحال كما يقال.
دخلنا باحة المستوصف على صوت موظفة يتبين من هيأتها أنها على مشارف التقاعد، بصوتها الجوهري ذكرتنا بالنظام و فوائده، بأن لنا من الوعي ما يمكننا من إدراك أهمية النظام، و بطبيعة الحال كان لابد لها من التذكير بأن هذه الحالة أحسن من أن تتدخل السلطة لفرض ذلك. أغلب المواطنين لم يكن لهم إعتراض، في حين سمعت بعض الهمهمات رأى أصحابها ان في كلمة الموظفة نوع من التحقير لشخصهم. شخصيا لم أكثرت بما كانت تقول لأنني اعتبرت ذلك نوعا من البحث عن الإعتراف في واقع مهني لا يعترف للموظف بالسنين التي يمضيها في خدمة المصلحة، و ايضا لأنني كنت في عجل لأعود إلى تأملاتي السابقة في انتظار دوري لآخد الجرعة.
سنة و بعض السنة مرت على بداية الجائحة، فترة كافية لتحلحل الكثير من الأشياء التي كانت في قسم المؤكد، فترة فقدنا فيها الكثير و من بين ما فقدته الثقة التي كانت لي في المستقبل، تجربة أخذت مني أشياء غالية، بل للدقة أخذت مني أغلى ما أملك، بعد فقدان الوالدة كنت مرارا ما أطرح السؤال: ما فائدة اللقاح إن لم يكن للحفاظ على حياة الوالدة؟ المعنى ليس هو المعنى، و الإنتظار ليس هو الإنتظار..
سألني أحدهم : هل سنطعم باللقاح الصيني أم الألماني؟
أجبته: اللقاح الصيني؟
سأل ثانية: الم تحس بشئ ما بعد الجرعة الأولى؟
أجرت: لا على الإطلاق،
استطرد: شخصيا لا أثق بهذا “الزمر” ، يقصد اللقاح.
تركته في تردده، و عدت إلى واقع الحال، حيث بدأت جلبة الموظفين ، و بدأت أسئلتهم الإعتيادية؟
– هل هناك لائحة؟
– لا، هناك ترتيب البطاقات
– ما هو منطق الترتيب؟ من الأعلى ام من الأسفل؟
– من الأعلى
– الجرعة الأولى أم الثانية؟
– بنوع من الفخر أجاب أحدهم : الثانية ، و كأننا اجتزنا الكتابي و لم يبقى سوى الشفوي.
نبهنا أحد الموظفين أن هنا لائحة أخرى من مستوصف آخر، و انهم سيقومون بتنظيم العملية حسب توافد المعلومات من الجهات المختصة. هذه الملاحظة كادت أن تخلق فوضى عارمة، احتج من كانوا هنا منذ الصباح الباكر و هم على حق، و تضايق الموظفون الذين اعتبروا أن الإحتجاج ليس له ما يبرره، و تبين أنهم هم أيضا كانوا على حق، و المشكلة كانت في نقص في التواصل اكثر من أي شيئ آخر. لكن ما اثارني، هو الهجوم الغير المبرر الذي تعرض له الشخص الذي تطوع لجمع البطاقات نتيجة لإحتجاجة، الغريب أن الهجوم لم يكن من الموظفين، بل من بعض المواطنين الذين حملوه عواقب تأخرهم إن أدى تصرفه إلى تعكير الجو لذى الموظفين، في الحين تبادرت إلى ذهني قصة گيڤارا و صاحب الغنم الذي وشى به.
لحسن الحظ ان الأمور لم تأخد منحى سيئ، و إن بدت على صاحبنا علامات الدهشة من ردة فعل البعض.
بدأت عملية التلقيح، و بدأت عملية النداء على المواطنين تباعا، كلما نودي على أحدهم أنظر إلى وجهه لأرى علامات الرضى بادية و كأنه أنعتق من السجن، أي نعم، أليس التلقيح هو نوع من الإنعتاق، سوف نستطيع على الأقل التركيز على أشياء أخرى غير الموت، سوف نأخد جرعة من الأمل، لا يهم عن أي أمل نتحدث، لكل أمله كما أن كلا يغني على ليلاه.
جاء دوري، الساعة التاسعة و الربع، قلت في ثناياي و انا أنظر إلى طابور الإنتظار:
– الإستيقاظ باكرا ميزة قد تفيد في بعض الأحيان.
-أسمك؟ رقم هاتفك؟ هل أحسست بأعراص بعد الجرعة الأولى؟ هل تحس بشيء الآن؟
كانت هي الأسئلة التي تسبق عادة قبل أن يطلب منك إزاحة الملابس عن الذراع. مددت ذراعي، نظرت إلى اليمين حتى لا أرى الإبرة تنغرس في دراعي الأيسر، أحسست بالسائل يسري في عضلاتي، لم أقف عند التفكير في محتوى المحلول الذي تلاشى في جسدي بقدر ما انتبهت إلى شيء يشبه الزفير يخرج من صدري ولسان الحال يقول: و ماذا بعد؟

< بقلم: محي الدين الوكيلي

Related posts

Top