لعل ما يطمح إليه الجميع هو نشدان دولة سياسية كفضاء للتعايش السلمي وضمان الأمن والاستقرار فيه، وهذا ما نلمسه ونحن نقرأ “لكبار المتخصصين في الشأن السياسي” والمنظرين للمجتمع المدني الليبرالي الذي تقوم فيه الدولة بحماية الحرية باعتبارها أقدس قيمة ومبدأ يمكن لدولة معينة أن تقوم عليه، إذ يحذرون من عواقب الاعتداء على حرية المواطنين، ويعتبرون أن الدولة التي تبنى على العنف واستعباد المواطنين ليست سوى مؤامرة ضد الإنسانية، أنتجتها تاريخيا عملية سطو قام بها النبلاء والكهنة الذين افتعلوا خرافة الإنسان الشرير والخطّاء وأسطورة الفرد الانطوائي “اللااجتماعي”، وهي أسطورة عبر عنها فيخته بقوله: “إني أعلن أنكم ستدركون لا محالة أن بني آدم أشرار، وهذا ما أتوصل إلى إقناع نفسي به..”. ثم إن الحديث عن إمكانية الثورة التي تعني إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، والتي لا يقصد بها الفوضى إنما يسقط أسطورة الدولة بتعبير “ارنست كاسيرر”، ويضع حدا لمحاولة فصل الدولة عن الفرد وتشييد نظرية في السياسة خارج الأخلاق كما فعل ميكيافيلي، هذا الأخير الذي أعطى للدولة أكثر مما تستحق، إلا أن فلسفة سبينوزا في السياسة تسير في خط مواز للنظريات السياسية السابقة، فهي تؤسس لنظرية في الدولة توحّد بين أهداف الدولة وأهداف المجتمع، وتحرص على أن ترعى الدولة مصالح الجماعة التي تملك حق السيادة والتصرف.
إن الثورة إمكانية واردة في المشروع السياسي لسبينوزا، وتؤكد على أن الدولة القوية بذاتها، أو كما تصورها “هوبس” ذلك التنين مجرد “أسطورة”… لأن قوتها تحتاج إلى عوامل خارجية موضوعية من أهمها الحرية، هذه الأخيرة التي يعدها سبينوزا غاية وضرورة، إنها الغاية لأنها توحد الإرادات وتوجهها نحو تأسيس الاجتماع السياسي، وهي ضرورة حتمية لاستمرار أي نظام سياسي، لأن الكيان السياسي يبدأ في الوجود بأفراد أحرار مستقلين في آرائهم وقراراتهم، ويستمر في الوجود باستخدام جميع الوسائل التي يحافظ من خلالها جميع الأفراد على حريتهم داخل فضاء يتسم بالأمن والاستقرار.
إن الدولة عليها واجب اتخاذ التدابير الناجحة والفاعلة في تسيير شؤونها لتتجنب كل ثورة وتغيير محتمل، وهنا يحذر سبينوزا من احتكار السلطة في قوله: “وهذا ما يلزم الدولة إذن بتنظيم أمورها بطريقة تسمح للحاكمين والمحكومين سواء تصرفوا طوعا أو كراهية بأن يجعلوا سلوكهم في خدمة الخلاص العام، بمعنى آخر ينبغي أن يرغم الجميع على العيش وفق نظام العقل بالقوة وبالضرورة إن لم نقل تلقائيا، ولكي تبلغ الدولة هذه النتيجة فإن تسيير أمور الدولة ينبغي أن يرتب بحيث لا توكل أية قضية هامة تتعلق بالخلاص العام إلى شخص فرد يفترض فيه حسن النية.(سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة ص 74).
فالدولة ملزمة، حسب سبينوزا، باحترام إرادة الشعب والوفاء بالتعاهد، إذا ما أرادت أن تحافظ على وجودها، فخارج اللاتفكير أو التفكير اللامعقول وداخل المعقولية يحاول سبينوزا أن يلفت النظر إلى الشروط الموضوعية الواقعية لاستمرار الدولة التي ينبغي للفلسفة السياسية أن تتخذها موضوعا لها بعيدا عن التصورات الميتافيزيقية.
فإذا كانت الدولة جهاز ضروري في الاجتماع الإنساني فإنه من التناقض أن تعمل على حماية المظهر الحيواني في الإنسان بإطلاق العنان لشهوات الحاكم ورغباته وتحويل أفراد الشعب إلى عبيد. ومن التناقض أيضا وهذا هو الأهم أن تكون الدولة ضرورية وتعمل بوعي منها أو بغير وعي على إضعاف سلطتها وتهديد استمرارها باحتكار السلطة ومنعها عن الشعب، لأن هذا الأخير، حسب سبينوزا، لن يستسلم لهذه الوضعية السلبية اللاطبيعية التي تضعه فيها السلطة السياسية، ومنه فإن الدولة التي في ذهن سبينوزا هي الدولة التي تستمد قوانينها من الطبيعة الإنسانية ومن واقع الإنسان: ثم إن التربية السياسية الناجحة تتمثل حسبه في أن يتعلم الفرد بواسطة الدولة أن يكون مواطنا، إذ أن المواطنة هي أن يملك الأفراد كامل حقوقهم الطبيعية وأن يتمتعوا بها دون نقصان، وأن لا يطيعوا إلا القوانين التي تمكنهم من ذلك.
إن المواطن بهذا المعنى ليس إلا ضمير السلطة السياسية وأن التربية السياسية ليست إلا الجاهزية الدائمة لدى الشعب لتغيير أي نظام ينحرف عن هذه الغايات والأهداف والمساعي التي وجدت من أجلها الدولة. فالمواطن الذي يمنح الوسائل التي بها يدعم حقه الطبيعي في الحرية يكون مواطنا كاملا. يقول سبينوزا في هذا الصدد: “فإذا لم يكن من الممكن أن يتخلى أحد عن حريته في الرأي وفي التفكير كما يشاء، وإذا كان كل فرد شيد تفكيره على حق طبيعي أسمى، فإن أية محاولة لإرغام أناس ذوي آراء مختلفة بل ومتعارضة، على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة العليا، تؤدي إلى أوخم العواقب.. “باروخ سبينوزا” رسالة في اللاهوت والسياسة.
إذا كانت الحياة السياسية هي التي تصنع المواطن، بحكم أن المؤسسات القانونية ومجموع التشريعات التي تنظم الحياة الاجتماعية، هي التي تساعد الأفراد على الارتقاء بالاجتماع إلى مستوى المواطنة la citoyenneté فإن العيش وفق القوانين يعد تعريفا للمواطن، لكن ينبغي أن نشير أيضا إلى أن تصور سبينوزا للمواطن لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى اعتبار أنه يجب على هذه المؤسسات أن تسمح للمواطن بأن يمارس مواطنته كاملة، بما توفره من أجواء الحرية في التفكير والتعبير والحكم، وإدانة جميع أشكال التخويف والترهيب، فالمواطنة حسب Alain billecoq “المواطنة ليست مكافأة على الطاعة”
” Alain billecoq, spinoza, question politiques quatre études sur l’actualité du traite politique.”
لأن الطاعة التي يقدمها المواطن للدولة ليست مجانية، بل إنها مقابل ما تحقق القوانين من إمكانيات ليتمتع المواطن بجميع حقوقه الطبيعية، فهو لا يطيع إلا ما يجد فيه خدمة لمصالحه وتحقيقا لمنافعه، ومن تم فإن النظام الأفضل هو النظام الذي يسمح للجماعة بممارسة حقوقها الطبيعية بحكم أنها لم تتنازل، حسب سبينوزا، عن أي منها، بل فقط عما يمكن أن يلحق الضرر بالغير وبالصالح العام، يقول: “إن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء. (باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة ص 436).
إن العلاقة القائمة بين الدين والسياسة، لهي علاقة ملتبسة وخاصة بعد الانحراف الذي شهدته وسبينوزا يعلم جيدا البلبلة التي يقوم بها الدين داخل الدولة، إذا ما شهد فسادا نتيجة انحرافه عن مهمته الأصلية والتي تتمثل في نظر الفيلسوف في تعزيز مشاعر المحبة والتسامح والاستقامة بين الناس،… إن الدين خارج فضاء السياسة لهو ضرورة على تقوية العلاقة بين المواطنين والوطن، لكن هذا لا يعني فصل مبادئه وأخلاقه عن السياسة بقدر ما يدعو سبينوزا لنظرية في السياسة تقوم على نزعة لائكية، (أخلاقية) واضحة، جردت الكنيسة من أي سلطة كانت، فليس للكهنة الحق في تشريع القوانين أو التدخل في شؤون الدولة والحكم على قراراتها، وذلك حفاظًا على الدين والدولة، لكن هذا لا يعني أن الدولة تقصي الدين وتستبعده، بل على العكس من ذلك فإن ابلدين، حسب سبينوزا، “لا تكون له قوة القانون إلا من خلال حق من يتولى التشريع السياسي.”
أخلص لأقول إن علاقة الفرد بربه وللكيفية التي يجسدها بها ميدانيا تعد حقا شخصيا لا يمكن للدولة أن تتدخل فيه، فلكل الحق في أن يعرف ربه بالكيفية التي شاءها ويجسدها بالطريقة التي يحب، وليس من حق الدولة أن تتدخل فيه وفي ما هو حق فردي مقدس وليس له أي أضرار أو تعدي على حقوق الآخر، ولذلك يصبح الدين عاملا قويا في توطيد علاقة المؤمن بوطنه ودولته، لأن حب الوطن وحب الخير لأبنائه يعد في حد ذاته مظهرا من مظاهر التقوى والإيمان العميق، فما معنى أني مؤمن؟ هو ببساطة أحب الخير لغيري ما دمت على تعاقد اجتماعي معه داخل تجمع سياسي (الدولة)، يقول سبينوزا “لاشك أن الحب المقدس للوطن هو أسمى صورة للشعور بالتقوى يستطيع إنسان أن يظهرها، فلو زالت الدولة لكان معنى ذلك زوال كل شيء”.
بقلم: جهان نجيب
أستاذة باحثة في الفكر السياسي الحديث والمعاصر