لا جرم أن العشرين سنة المنصرمة من حكم جلالة الملك محمد السادس تضمنت عناصر وعوامل مؤسسة. فقد تميز العقدان الماضيان بمسار مصالحات كبرى تضمنت عناصر مفصولة عن بعضها البعض لكنها كانت بحاجة إلى خيط ناظم. مسارات كبرى كانت تظهر كأمواج وروافد متعددة للتأسيس للمصالحة مع الماضي بأشكال متعددة، من ضمنها مسار المصالحة مع الصحراء المغربية، وذلك في اتجاهين. اتجاه أول يتعلق بالالتزام نحو منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والتزام ثان، ذاتي وأخلاقي، مع المواطنات والمواطنين في الصحراء المغربية، يشمل تدبير التراب في إطار حكم ذاتي وجهوية بمعناها السياسي، وفي إطار البحث عن العدالة الاجتماعية، بالتوازي مع العدالة المجالية والترابية، مع بلوغ سقف الجهوية وتنزيل الحكم الذاتي وفق المعايير الدولية، حتى تتمتع كل جهات المملكة، بالتساوي، بكل الحقوق والامتيازات دون تمييز بينها.
لقد جاءت فكرة الحكم الذاتي بعد الأزمة الخانقة التي خلفها فشل مسار ما يسمى الحل الثالث أو الحل السياسي الذي قاده بيكر (المخطط 1 و2) وما تلاه من خلافات أفضت إلى الطريق المسدود. وقد سعى المغرب إلى نقل الوضع السياسي من نقاش بناء على مخطط تسوية متجاوز، إلى حل يأخذ بعين الاعتبار توافقات ذات طابع سياسي وترابي. وكان جلالة الملك محمد السادس حازما حين أعلن في خطاب سنة 2009 أن المغرب لن ينتظر ولن يقبل تعطيل مسار البناء السياسي والديمقراطي والترابي للبلاد، وسيعمل على تنزيل الجهوية المتقدمة.
وعموما يمكن القول إن قراءة حصيلة ملف الصحراء المغربية، خلال العشرين سنة المنصرمة التي تميزت بمسار مصالحات كبرى في عهد محمد السادس، لا يمكن أن تتم، إجمالا، إلا باستعراض كيفي لالتزامات المغرب مع الأمم المتحدة ومكاسبه الدبلوماسية، والتحولات التي جاءت بها الوثيقة الدستورية الجديدة، و التقرير النهائي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول النموذج التنموي الجديد في الصحراء.
ففي الجانب المتعلق بالالتزامات مع المنتظم الدولي، يمكن القول إن المغرب واصل طيلة العشرين سنة الماضية التعاون الوثيق مع الأمم المتحدة ومع مجلس الأمن. وتمكن، مع مرور السنوات، من تحقيق اختراقات غير مسبوقة مكنت المملكة من كسب دعم المنتظم الدولي لمغربية الصحراء ولمقترح الحكم الذاتي كحل نهائي للنزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية.
بموازاة مع ذلك، فتحت الوثيقة الدستورية الجديدة آفاقا أرحب لمصالحة من نوع آخر. وشكلت هذه الوثيقة دفعة جديدة للتدبير الديمقراطي لكل جهات البلاد وضمنها الأقاليم الجنوبية التي أولاها جلالة المكل مكانة خاصة حين عهد إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي مهمة إنجاز تقرير حول النموذج التنموي الجديد في الصحراء.
هذا التقرير سيكشف عن مضامين “الوصفة” التي أعدها لتحقيق تنمية فعلية للأقاليم الجنوبية، عمودها الفقري تنزيل الجهوية المتقدمة في الجهات الثلاث للصحراء. ويمتد النموذج التنموي الجديد على مرحلتين، الأولى على المديين القريب والمتوسط، فيما تمتد المرحلة الثانية، على المدى المتوسط والبعيد.
وشدد المجلس، استنادا لتقريره النهائي على أنه لتحقيق تنمية الأقاليم الجنوبية، من الضروري العمل على الانتقال من اقتصاد الريع الذي يعتمد على الأنشطة الأولية والامتيازات، إلى إطار يشجع الاستثمار الخاص المنتج للثروة وفرص الشغل، ويضمن الشفافية واحترام قواعد المنافسة الشريفة.
كما أكد المجلس أن نجاعة النموذج التنموي الجديد تقوم أساسا على استقلالية القرار وإنجاز المشاريع على مستوى الأقاليم، وتشجيع روح المبادرة، مسجلا، بشجاعة، أن الأقاليم الصحراوية تسجل أدنى مستويات الفقر مقارنة مع باقي جهات المملكة، وأعلى نسب للربط بشبكات الماء والكهرباء والتطهير، ونسب الأمية بها هي الأدنى، مقارنة مع باقي الجهات، وذلك رغم أن عشر مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أنجزت في هذه الأقاليم الصحراوية، وأن نصف الميزانية العامة المخصصة للإنعاش الوطني تصرف في هذه الجهات الجنوبية الثلاث.
وثيقة المجلس الاقتصادي والاجتماعي يمكن اعتبارها من بين أهم المحطات التي ميزت العقدين المنصرمين في مجال تدبير ملف الصحراء المغربية. وهذه الوثيقة الرسمية تفرض، بالتالي، فرضت المتابعة، خاصة في ظل مستجد يخدم قضية الصحراء المغربية يتعلق بعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي.
ففي ظل هذه العودة إلى الحضن الإفريقي، وبفضل إستراتيجية دبلوماسية قائمة على التضامن الفعال مع البلدان الشقيقة والصديقة في القارة الإفريقية، استطاع المغرب أن يقنع، بقوة الحجج القانونية، السياسية والتاريخية الدامغة، بمغربية صحرائه.
وتم ترسيخ هذه القناعة بوجاهة المقترح المغربي المتعلق بالحكم الذاتي بالصحراء المغربية. وشجع ذلك الاتحاد الأفريقي على أن يكرس، في مبادئه ومواقفه، الاختصاص الحصري للأمم المتحدة في ما يتعلق بالإشراف على المسلسل السياسي لتسوية قضية الصحراء المغربية.
***
3 أسئلة لعبد الفتاح البلعمشي
تحول كبير في تدبير قضية الصحراء داخليا وخارجيا
< كيف تقيمون تدبير جلالة الملك لملف الصحراء على المستوى الدولي؟
> يمكن تقسيم العشرين سنة من زمن حكم الملك محمد السادس، منذ اعتلائه العرش سنة 1999، إلى مرحلتين أساسيتين فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.
مرحلة العشر سنوات الأولى التي كان التركيز فيها منصبا على تدبير السياسات العمومية وطرح الإصلاحات الخاصة ببعض القضايا الداخلية للبلاد. وهي فترة أيضا تبدو فيها مؤشرات إعادة قراءة السياسة الخارجية المغربية انطلاقا من مجموعة من التدخلات ومن الخطب الملكية التي تتحدث عن ضرورة تطوير الأداء الدبلوماسي وتنميته وتأهيله الخ.
كما أن من أبرز سمات هده المرحلة طرح مشروع الحكم الذاتي كأرضية لحل نزاع الصحراء..و هذا في حد ذاته كان تغييرا في المسار الذي ذهبت فيه التسوية منذ اندلاع النزاع، حيث أصبح هذا المقترح صامدا، متداولا، داخل مجلس الأمن باعتباره أرضية معقولة لحل هذا النزاع.
في العشرية الثانية أصبحنا نلاحظ ملامح لتنفيذ مجموعة من المعطيات التي جاءت في الخطب الملكية وأثناء المنتديات الدولية. وهي من جهة التحرك القوي نحو إفريقيا. ومن جهة ثانية انتهاج سياسة هجومية فيما يتعلق بالقضية الوطنية بحيث أصبح المغرب يتحدث بلغة واضحة وقوية كلما تعلق الأمر بمساس معين بمشروعية طرحنا الوطني، من أي جهة كانت.
لاحظنا بعض القرارات القوية التي اتخذها المغرب اتجاه الاتحاد الأوروبي في مراحل متعددة من هذه العشرية، حيث عمد المغرب إلى توقيف الاتصال مع أجهزة الاتحاد إلى غاية إعادة الأمور إلى نصابها. وكلنا يذكر محطة اتفاق الصيد البحري حيث كان هناك نزال قانوني وترافع معين فيما يتعلق بقرار محكمة العدل الأوروبية. كما لاحظنا رد فعل قوي للرباط تجاه زيارة بان كيمون إلى مخيمات لحمادة بتندوف. هناك، كما أشرت، مجموعة من الأمور التي غير فيها المغرب سياسته عما كان في السابق. نعم، لم يعد يسمح نهائيا بالمساس بالوحدة الترابية مهما كانت الجهة التي تمس هذا التوجه. وهذا تم التعبير عنه صراحة في خطابات ملكية.
هذا التوجه يعبر عن مجموعة أمور مرتبطة بقضايا أخرى، غير قضية الصحراء. فقد أصبح المغرب فاعلا ونشيطا في قضايا وإشكالات النظام الدولي كالهجرة، والمخاطر الأمنية، والتعاون القضائي والأمني ومكافحة الإرهاب.الخ
وكان المغرب، بهذه السياسة الجديدة تجاه قضيته الوطنية الأساسية، يسعى إلى تكريس تعامل دولي يعطي للمغرب القيمة التي يستحقها في التوازن الدولي الحاصل. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نوع المغرب من سياساته الخارجية وبالخصوص في خطاب القمة المغربية الخليجية حينما تحدث الملك على أن المغرب ليس محمية لأي كان، وليس واجهة خلفية لأية جهة كانت، وبشر بتحالفات و بتعاون استراتيجي مع قوى جديدة منها روسيا والهند والصين.
ورغم أن المغرب صرح بان هذا التوجه الجديد ليس تراجعا عن المحاور الأساسية والكلاسيكية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية، ولكنه سعى إلى تنويع تصريف سياسته الخارجية وخلق نوع من التوازن الذي سينعكس حتما على المجالات الاقتصادية والسياسية وعلى رأسها القضية الوطنية.
< هل أسهمت عودة المغرب للاتحاد الإفريقي في خدمة القضية الوطنية؟
> بالنسبة للبعد الإفريقي، فقد لاحظنا أن هناك أيضا توجها جديدا. فانضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي والذي كان قرارا فاجئ الكثير من خصوم الوحدة الترابية والكثير من متابعي موضوع العلاقات المغربية الإفريقية، سبقه تركيز على علاقات ثنائية اقتصادية جعلت المغرب المستثمر الثاني في إفريقيا والمستثمر الأول في غرب إفريقيا. طبعا هذا الانضمام إلى منظمة الاتحاد الإفريقي لم يكن متوقعا، على الأقل قبل قمة الـ 28.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السياسة التي انتهجها المغرب تجاه الاتحاد الإفريقي لم تكن نهائيا مرتبطة بقضية الصحراء. لاحظنا أن الخطاب الملكي في القمة 28 يتحدث عن قضايا القارة، عن تعزيز موقعها الاستراتيجي، عن الوضع التفاوضي وعن علاقات جنوب جنوب، وعن إنصاف هذه القارة تجاه السياسات الدولية، دون أن يرد في هذه الخطاب موضوع الصحراء بشكل مباشر.
نفس الملاحظة نجدها أيضا في الرسالة التي وجهها جلالة الملك إلى القمة الإفريقية الأوروبية سنة 2017 والتي أثارت أيضا مجموعة من القضايا دون أن تشير بشكل مباشر إلى قضية الصحراء.
نفس الأمر نجده في ما جرى على هامش مؤتمر كوب 22 بمراكش. فقد أخد المغرب مبادرة عقد اجتماع إفريقي على هامش هذا المؤتمر، مؤكدا اصطفافه إلى جانب الدول التي تسعى إلى التنمية والى الديمقراطية وإلى تغيير الواقع من داخل أجهزة الاتحاد الإفريقي، ومشددا على أن الوقت قد حان لتطوير الاتحاد الإفريقي الذي عاني لمدة طويلة من هيمنة بعض الدول ومن تغليب الجانب السياسي على الجانب الاقتصادي والتنموي.
وهناك عدد من الأصوات والمغرب في طليعتها، تسعى إلى تطوير هياكل هذا الاتحاد حتى يقوم بدوره كاملا فيما يتعلق بالمردود المنتظر من هذه المنظمة القارية تجاه شعوبها. وبالتالي هذا لا يعني بان ملف الصحراء لم يستفد من الانضمام. فبمجرد انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي لم نعد نرى تلك القرارات المنفردة التي يتم اتخاذها في الكواليس. أصبح هناك توازن على الأقل في الموقف وأصبح المغرب يكرس فكرة أن الاتحاد الأفريقي غير معني بقضية الصحراء وأن المعني الحقيقي والحصري بالملف هو مجلس الأمن.
< لكن ماذا تحقق داخليا خلال العقدين من حكم جلالة الملك؟
> على المستوى الداخلي، فنسجل تلك الإشارة القوية التي بعثها خطاب المسيرة لسنة 2018 الذي تحدث عن مسارين. المسار الداخلي الذي تمثله الإصلاحات الدستورية المعلنة في المغرب والذي تمثله الجهوية المتقدمة والقطع مع مجموعة من السياسات المرتبطة بالريع وعدم الانتباه للاقتصاد الاجتماعي ومعاناة ساكنة المنطقة والذي تمت برمجته في البرنامج التنموي المعلن بميزانية ضخمة خدمة للنمو بشكل عام والاهتمام بما كانت تعانيها الساكنة من فوارق.
وهذا من مخرجات التقرير الاقتصادي والبيئي سابقا حينما تحدث عن مجموعة من الإشكالات التي تجاوبت معها الدولة بشكل كبير. ضمن هذه القرارات نجد النموذج التنموي المعلن في هذه المنطقة والذي ركز بشكل أساسي على مشاريع اجتماعية تهتم أساسا بالساكنة ولا تهتم فقط بالبنية التحتية وبالمشاريع الكبرى.
داخليا أيضا هناك مسالة حقوق الإنسان، حيث عمل المغرب، في ظل العقدين المنصرمين من حكم جلالة الملك، على توسيع تمثيلية المجلس الوطني لحقوق الإنسان عبر لجن جهوية أعطت نتائج هامة.
والأساسي هو أنه وجب الفصل بين مشروع الحكم الذاتي كورقة تفاوضية دبلوماسية في مواجهة خصوم الوحدة الترابية وفي مواجهة الأمم المتحدة كأرضية من أجل بناء حل معين، من جهة، وبين المتاح دستوريا و الذي يخدم القضية الوطنية، أي الجهوية المتقدمة، من جهة ثانية، أي الدفع في اتجاه الإصلاحات الديمقراطية وخلق نوع من الانتعاشة الاجتماعية في المنطقة
مصطفى السالكي