رغم وجود مدونة الشغل وما يرتبط بنظام الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية …، إلا أنه لا زالت فئة عريضة من الشغيلة المغربية، تتعرض لأبشع أوجه الاستغلال، وأقبح أنواع الاسترقاق المقنع من طرف لوبيات الرأسمال المحصنة من طرف ترسانة قانونية (مدونة الشغل للأسف)، التي أصبحت أداة لضرب الحق المقدس في الشغل وتسهيل التخلص من العمال، بالإضافة إلى حرمانهم من حقهم في التنظيم النقابي والاحتجاج عبر ما يسمى المرونة في التشغيل والمرونة في الأجور، عن طريق فتح الباب أمام شركات الوساطة والمناولة.
ففي إطار تكريس الوضع وتقنينه، يسمح قانون الشغل “الطبقي”، لشركات المناولة باللجوء لعقود عمل محددة المدة تصل إلى عامين كأقصى تقدير، وتتضمن بنود تعطي الحق في الطرد والفصل لأي عامل دون عناء، رغم أن مدة هذه العقود غالبا ما تحدد في ثلاثة أشهر أو ستة أشهر قابلة للتجديد، كما أن العمال غالبا ما يغادرون الشركة قبل نهاية مدة العقد، نظرا لظروف العمل القاسية جدا، فيما ينهي آخرون مرغمين بسبب ظروفهم الاجتماعية الأكثر قسوة مدة العقد (سنتين) ليتم تجديده مرة أخرى ويكون هو الآخر محدود الأجل، كما تلجأ هذه الشركات إلى خلق عدة فروع لنفس الشركة الأم، لضمان أوسع استغلال للعمال بالوساطة لأكبر مدة ممكنة وفي قطاعات حيوية.
تلعب شركات ومكاتب الوساطة دور الدرع الواقي لـ”الباطرونا” للتخلص بسهولة من العمال دون مصاريف إضافية قد تنتج عن إنهاء الخدمة من طرف واحد، كما تقوم باستبدال العمال بشكل دوري اعتمادا على جيش العمال الاحتياطي الذي يعاني البطالة، مما لا يسمح بظهور أي تنظيم نقابي قائم الذات نتيجة الترهيب الممنهج، وفي حالة بروز العمل النقابي والفعل النضالي في مثل هذه الشركات تعلن إفلاسها ويتم تصفيتها قانونيا بكل سهولة ولا يتبقى للعمال سوى المآسي والبطالة باعتبارها لا تملك سوى مقرات مكراة في أغلب الحالات، فهي بمثابة صمام الأمان الذي يمتص الصدمات ليؤمن الرأسمال الكبير من المجابهة مع الطبقة العاملة ويدبر عملية الاستغلال، مقابل العمولات السخية المستخلصة من عرق جبين العمال.
وما يزيد من معاناة هذه الفئات، أن وضعية الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية هي التي دفعتهم للقبول بهكذا وضع، إذ نجد الفئة العريضة من عاملات وعمال شركات المناولة، تشمل حراس الأمن الخاص والنظافة، والطبخ، والبستنة…؛ حيت يتعرضون، بدون مبالغة لأبشع أصناف الاستغلال العبودي من طرف مشغليهم الخواص، داخل، وتحت أعين، إدارات ومؤسسات عمومية يفترض فيها أن تعطي القدوة في احترام قوانين الشغل.
إن هذه الفئة التي فرضت نفسها في المشهد العام بالإدارات والمرافق والمؤسسات العمومية والخصوصية، من خلال خدمات جليلة للمواطن والمجتمع، فإنها تعيش أبشع أنواع الاستغلال و”الحكرة”، محرومة من أبسط وأدنى حقوقها الاجتماعية والمعنوية، حيث تعيش على وقع عدم احترام الحد الأدنى للأجور، والحرمان من الأقدمية وغياب الاستقرار في العمل، وغياب الحماية الاجتماعية بعدم التصريح، والتصريح الناقص لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وعدم التأمين على حوادث الشغل، والحرمان من حقوق الأمومة والصحة الإنجابية والتعرض للتحرش الجنسي بالنسبة للعاملات، ولكل أشكال العنف والانتهاكات المرفوضة أخلاقيا واجتماعيا في غياب أية حماية قانونية حقيقية بل “يا ويل لمن يتحدث”.
فكيف يعقل أن يتقاضى الأجير داخل بعض هذه الشركات راتبا لا يتعدى 2500 درهم شهريا، وقد ينخفض عند معظم الأجراء إلى 800 درهم من أجل العمل ليلا أو نهارا في الحراسة الخاصة ولمدة 24 ساعة؟ وكيف يمكن أن تتقاضى المنظفة أجرا لا يتعدى 1500 درهم، وقد يتراجع في معظم الحالات إلى 500 درهم دون أدنى مراقبة من ممثلي وزارة التشغيل (مفتشي الشغل)؟ وكيف يعقل أن تتوقف شركة المناولة عن تأدية أجور العمال الشهرية، بدعوى أن الإدارة صاحبة الصفقة لم تصرف لها دفعة مالية ما؟ والأخطر من هذا كله هو أن مستقبل هذه الفئة من العمال غير مضمون ومهدد في أي لحظة، إذ أنه بمجرد انتهاء عقد التناول بين الشركة المناولة والجهة المعنية بالصفقة، تعمد هذه الجهة إلى التعاقد مع شركة مناولة ثانية، دون أن تتم الإشارة إلى ضرورة الاحتفاظ بنفس العمال والعاملات، وأن تكون شرطا من شروط قبول أي شركة منازلة للتنافس على الصفقة، لكي لا يتم طرد العمال وتشريدهم وقطع أرزاقهم.
إن ما تعانيه هذه الفئة يعد وصمة عار على جبين كل مسؤول مغربي، لذا على المؤسسة التشريعية باعتبارها سلطة تشريعية وسلطة رقابة تنبيه الجهات المسؤولة إلى ضرورة الالتفات إلى هذه الفئة من العمال والعاملات وإنصافهم، فضلا عن القيام بعمليات بالتفتيش والمراقبة والعقاب إن اقتضى الأمر إضافة إلى تشكيل لجان لفحص ملفات هذه الشركات التي لا يتوفر معظمها حتى على مقرات حيث يكون مالكها يحمل كل الوثائق والملفات بمحفظته وسيارته.
إن هذا الملف يشكل بعدا إنسانيا بالدرجة الأولى، يجب التعامل معه كأولوية، وبشكل مستعجل بعيدا عن الحسابات والمزايدات السياسية، لارتباطه بأرزاق ملايين المغاربة التي تهضم أبسط حقوقهم مما يهدد السلم الاجتماعي.
نحن هنا لسنا ضد هذا الشكل من التشغيل، لكن ندعو إلى ضرورة تطبيق القانون، حتى يكون المستثمر المقبل عليها منخرطا في الدورة الاقتصادية، محترما للقوانين المنظمة، وعلى القطاعات التي تلجأ إلى هذه الشركات أن تتحمل مسؤولياتها في مراقبة تطبيق دفتر تحملات بشرط أن يشارك العمال في صياغتها ومراقبتها، حيث مازال بعضها لا يرقى إلى مستوى الطموح الذي يحمي الأجراء من الاستغلال.
ونحن هنا نؤكد على أن وزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى، والشغل والكفاءات، تتحمل بدرجة أولى مسؤولية هذه الفئة، وبالتالي فهي ملزمة على اتخاذ التدابير اللازمة من أجل حمل هذه الشركات على احترام دفاتر التحملات، ومدونة الشغل، والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها بلادنا، وكذا فرض احترام الحق في التنظيم النقابي باعتباره حقا دستوريا، صحيح نحن في حاجة إلى التشغيل وخلق مناصب الشغل، لكن ليس على كرامة وحقوق هذه الفئات، فهل تملك حكومتنا الموقرة الجرأة للنبش في مثل هذه الملفات؟
< عبد الصمد ادنيدن