غاب رد الفعل العربي في التعليق على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا. ففيما عدا نظام دمشق المعني مباشرة بالقرار الأميركي، فإن العواصم العربية ومنابرها تعاملت مع الخبر بصفته حدثا أجنبيا يتم تداوله من خلال مصادره الأميركية، أو بصفته تفصيلا أميركيا يجري بين أهل الحكم في واشنطن.
على أن العواصم العربية المعنية بالشأن السوري مضطرة لأن تباشر عملية كبرى لإعادة تموضع يسببه حرد ترامب وعزوفه عن مواصلة اللعب مع اللاعبين فوق الأراضي السورية. استنتجت تلك العواصم أن الأمر جدي في واشنطن، يأخذ شكلا نهائيا على ما كشفت استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس والمبعوث الدولي للتحالف الدولي بريت ماكغورك.
واستنتجت العواصم أن قرار ترامب الذي جاء أثناء اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان يصبّ في بعده الآني، وربما الاستراتيجي الطويل الأمد، لصالح الأجندة التركية في سوريا، وربما أيضا في المنطقة برمتها.
والحال أن أنقرة نفسها أربكتها هدية ترامب المفاجئة. تدرك تركيا أن هرولتها لتعبئة الفراغ الأميركي في شمال سوريا تعد استفزازا للحلفاء قبل الخصوم. أعلنت المنابر التركية عن تأجيل العملية العسكرية صوب منبج وشرق الفرات، فيما تركت أنقرة لوسائل إعلامها نقل صور قوافل آلياتها وتجهيزاتها العسكرية الثقيلة تتدفق نحو الحدود مع سوريا. وفيما تسعى تركيا لضبط اندفاعاتها العسكرية وترشيق حركتها الدبلوماسية، قد يظهر لاحقا أن العرب يتحركون لتسريع تحركهم نحو سوريا في مسعى لضبط الاختراق التركي المترجل على عجل داخل هذا البلد.
أعلنت جامعة الدول العربية في بيان، الاثنين، أن موقفها تجاه تعليق عضوية سوريا لم يتغير لعدم وجود “توافق عربي”. إلا أنه لا يمكن هنا إلا استحضار الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق بصفتها تمثل أعراضا أولى لعودة النظام السوري إلى حضن النظام السياسي العربي. ضمن هذا السياق أيضا بالإمكان إدراج الزيارة التي قام بها رئيس مكتب الأمن الوطني في سوريا اللواء علي المملوك إلى القاهرة. هي ليست زيارته الأولى إلى مصر كما ليس لقاءه الأول مع مسؤولين عرب في هذه العاصمة أو تلك، لكن للتوقيت هذه المرة دلالات جديدة لا يمكن إهمالها، ولا يمكن إلا تأمله بصفته ناظما للتحولات المقبلة.
يعتبر العرب، حتى إشعار آخر، أن مسألة النفوذ الإيراني في سوريا وبلدان عربية أخرى، باتت مسألة دولية تقودها الولايات المتحدة منذ قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي. اختلف الأوروبيون مع الأميركيين حول مسألة التمسك بالاتفاق، واتفقوا، مع ذلك، على ضرورة وضع حد للنفوذ الذي تمارسه طهران داخل دول المنطقة. في هذا يلتقي موقف واشنطن، حتى الآن، مع موقف الأوروبيين، في أن أي عملية تمويل لإعادة الإعمار كما إعادة اللاجئين في سوريا لا يمكن أن تجري إلا بعد التثبت من عملية سياسية تشرف عليها الأمم المتحدة تؤسس لتسوية سياسية حقيقية تنهي المأساة في هذا البلد. وفي ثنايا هذه التسوية مصير الأسد وطبيعة بقائه. وفي ثنايا الثنايا مستقبل الدور الإيراني في سوريا.
على هذا يأتي الموقف الإسرائيلي ليكون مكملا طبيعيا لمزاج دولي ناجز في هذا الإطار. تتولى النيران الإسرائيلية ضرب تحركات إيران وميليشياتها في سوريا كلما رأت تل أبيب فيها خطرا على أمنها الاستراتيجي. تحظى العمليات الإسرائيلية منذ سنوات بدعم أميركي كامل، وبتفهم أوروبي واضح، وبرعاية روسية، ارتبكت، لكنها، لم تتزحزح في المبدأ، وإن كان اعتراها ما يشبه سوء الفهم والتقدير الذي تتم مداراته بالتعاون والتنسيق.
وفق ذلك، سيتحرك العرب محاولين تعبئة فراغ دولي في مسألة التصدي لتركيا، مقابل ما تقوم وستقوم به عواصم العالم ضد التواجد الإيراني في سوريا. ولا يمكن هنا إلا ملاحظة استفادة النظام السوري من القرار الذي اتخذه ترامب لإعادة تعويم دمشق بصفتها الطرف المناط به الدفاع عن “السيادة” في مواجهة أطماع تركيا ودور نظام أردوغان المقبل في تحديد مسار ومصير سوريا المقبلين. ووفق ذلك التحول سيصبح أسهل على دمشق العودة لتطبيع علاقاتها مع عواصم عربية عدة، وسيصبح أسهل على بلدان عربية، لا سيما تلك التي تجاهر في انتقاد تركيا وسياستها العربية، العودة إلى دمشق والنفخ من شأن نظامها.
بيد أن المناورة العربية تبقى تجريبية تأخذ أشكالا خلفية خجولة. فالعرب، كما روسيا كما إيران كما تركيا نفسها، مازالوا يحاولون قراءة الموقف الأميركي الضبابي من شأن سوريا وشؤون المنطقة. يكشف التخبط داخل الإدارة الأميركية نفسها، عن نمط حكم لا يمكن الركون إليه لبناء سياسة خارجية أميركية متماسكة، ليس في قضايا المنطقة، بل في ملفات عالمية أخرى.
يتأمل العرب الخلاف الذي تعملق بين الولايات المتحدة وتركيا، منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وذوبانه بين ليلة وضحاها. انقلب الأمر إلى درجة إغراء واشنطن لأنقرة بالإفراج عن عقود منظومة باتريوت ومقاتلات أف-35. في ذلك ما يشي بأن هناك استفاقة، ربما متأخرة وربما ساذجة، هدفها “استعادة” تركيا داخل كنف الحلف الأطلسي وسحبها من اندفاعتها باتجاه حضن فلاديمير بوتين الروسي.
ربما من المبكر الحكم على هدية ترامب لتركيا في شمال سوريا. من الصعب أن ينتهي المراقب إلى استنتاج حول ما هو ترامبي في قرارات واشنطن، وما هو أميركي حقيقي، يمثل الدولة العميقة في الولايات المتحدة. غير أن قرار ترامب يمثل” الأمر الواقع”، فيما تحرك تركيا العسكري في شمال سوريا يمثل أيضا “الأمر الواقع”. وعلى هذا يجد العرب أنفسهم مضطرين للرد بـ“أمر واقع” بديل.
لم توفر موسكو جهدا في دعوة العرب إلى تطبيع علاقاتهم مع سوريا. لم يخف ذلك على مدى السنوات الأخيرة وزير الخارجية سيرجي لافروف، الذي جدد المطالبة بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. ولا يخفي نقل الرئيس البشير لزيارة دمشق بطائرة روسية ورشة موسكو في هذا الصدد. ستكون للتطبيع العربي مع نظام دمشق روحية تأخذ بعين الاعتبار خيارات روسيا في سوريا. ابتعد العرب عن التدخل بالشأن السوري منذ أن بات للولايات المتحدة وجود علني رسمي داخل سوريا. انسحب العرب تاركين لعملية أستانة وحدها احتكار الترتيبات العسكرية والسياسية لتحديد راهن سوريا ومستقبلها. لم ينسحبوا أمام إيران وتركيا، بل أمام ما ترسمه روسيا من داخل أستانة وخارجها.
قد يفهم أن الانسحاب الأميركي من سوريا يصب في مجمله لصالح تركيا، لكن العقل الاستراتيجي لا يمكن أن يفهم الأمر إلا بصفته إقرارا بالنفوذ الروسي في سوريا وربما في المنطقة بمجملها. تنسحب واشنطن من سوريا وتستعد لفعل ذلك من أفغانستان على نحو يغير الخرائط الكبرى لصالح روسيا. تركيا، التي سرّها أن رئيسها هو أول من أبلغه ترامب بقراره الانسحاب من سوريا، مضطرة لأن تقر بأنه ستكون لروسيا اليد العليا والطولى والطليقة في إدارة الشأن السوري. العرب من جهتهم لا يريدون أن يروا إلا هذا الجانب، ويسعون هذه الأيام إلى الجهر بالانخراط داخل خرائط روسيا السورية، حتى لو اضطرهم ذلك إلى العبور نحو سوريا، كما البشير، بقطار موسكو نحو دمشق.
أحد الأمثلة الشامية يقول “اللي يحضر السوق بتسوّق”. العرب يأتون هذا السوق متأخرين، يأتونه بعد أن هجره ترامب، يأتونه من مداخل ضعيفة ومن أبواب لا تفتح إلا بتوقيت التجار الكبار.
> محمد قواص
صحافي وكاتب سياسي لبناني