ستقولون لي:
ــ الفارابي؟ وساستنا؟ هل أنت متأكد مما تقوله؟ ما علاقة هذا الفيلسوف الكبير الذي عاش قبل أكثر من ألف عام؛ بزعمائنا، شياطيننا وتماسيحنا؟ ألست تخرف أيها الصديق؟ كل هذا الخليط داخل رأسك؟
لا إطلاقا. إننا لم نقرأ بما يكفي هذا العبقري. (مثلما هو الحال مع كل الرجال العظماء الذين طبعوا ماضينا: ابن سينا، ابن رشد، ابن خلدون، غالبا ما نبدي إعجابنا بهم دون أن ندرسهم بعمق، لكن هذه حكاية أخرى).
في رسالته عن العقل، انطلق الفارابي بالتمييز في السياسة، بين الداهية واللبيب. طبعا، إنه يرتكز على فكر معلمه أرسطو، ليخلص إلى ما يلي:
اللبيب هو من يستخدم المنطق، العقل لأجل التمييز بين الخير والشر في إدارة الشأن السياسي- الحكامة، بتعبيرنا المعاصر.
اللبيب يحيل على التعقل، حسب المذهب الأرسطوطالي، يمكن ترجمته بالحكمة العملية. (كانت تترجم في السابق بالحذر).
من الواضح أنه الرجل السياسي المثالي.
الداهية هو الذي ليس من أهدافه فعل الخير (المصلحة العامة، يقول روسو)، بل ما يهمه هو مصلحته الشخصية، أو مصلحة حزبه وقبيلته وزمرته. لبلوغ مراده، هو على استعداد لاختيار طريق الشر إذا كان هذا يوافقه، وبالأخص، إنه قادر على تغيير الوضع أو الخطاب حسب الظروف.
الفارابي يتخذ نموذجا له معاوية، الخليفة الأول الأموي (602-680).
الكتلة الحنبلية (أسلاف وهابيينا) يرون في معاوية رجلا لبيبا وفاضلا باعتبار أنه قام بإبراز وتعزيز منافع الإسلام.
لا إطلاقا – يجهر الفارابي بالقول- معاوية كان داهية، لا هدف له سوى مصالح عشيرته، بنو أمية. ألم يؤسس دولة في حين كان الخليفة منتخبا؟ سيكون من المهم مساءلة أولئك الذين يتعاملون مع الإسلام السياسي بشكل مغرض وفق ما نظر له معاوية.
عندما نجد بعضهم يلقون خطبا ديماغوجية قبيل الانتخابات (يعدون بالقمر كما لو أنهم يمتلكون رسمه العقاري)، أتساءل أحيانا إذا لم يكونوا قد اطلعوا على الفارابي بكيفية مقلوبة، مثل طبعة عربية لكتاب الأمير، عدة قرون قبل ميكيافيلي. فيلسوفنا أراد أن يدين الداهية، هم يتخذون تحليله بمثابة رفع من قدره.
على كل حال، شكرا للفارابي، لدينا من الآن فصاعدا أداة تصورية للحكم على ساساتنا.
ونحن ننظر إليهم يثرثرون، لنطرح على أنفسنا هذا السؤال البسيط:
هل هو ذكي أم أنه فقط داهية؟
> بقلم: فؤاد العروي