عندما اعتلت الصحافة قمة الفضاء العام كمنصة للتعبير والإعلام مع بداية القرن الخامس عشر، لعبت دورا كبيرا في إعادة تشكيل قواعد التواصل بين الحاكمين والمحكومين. بل شكلت وتشكلت كآلية مضادة للسلطة، استطاعت بموجبها استحقاق لقب السلطة الرابعة. تأثيرها على مجريات الأحداث في العديد من الدول جعلها تحتل موقعا مهما في المجتمعات الصاعدة آنذاك، خاصة بالدول الأنكلوساكسونية وأمريكا. لا يمكن بهذه النتيجة تصور عمل سياسي بدون أداء تواصلي يرمي للشرح والتبرير والإقناع… ففي عالم السياسة، وخاصة في الفضاء الديمقراطي، لا يمكن تصور العمل السياسي دون عمل تواصلي. وبما أن الديمقراطية الناشئة تحتاج لفضاء عمومي يتداول فيه الفاعلون بشكل مستمر حول كل القضايا التي تعني الناس أو بالأحرى المواطنون، فإن طابع العلنية والعمومية جعل وسائل الإعلام تحظى بدور كبير لاحتضان هذا النقاش وتنظيمه، وبالتالي الدخول في علاقة مباشرة مع الفاعلين السياسيين.
ولما كان النقاش العمومي يرمي للتأثير في المسارات العامة لتدبير الشأن العام ويكتسي أهمية خاصة اعتبارا لرهان السلطة بين مختلف الأطراف السياسية من جهة، ورهان تحقيق الصالح العام من جهة أخرى، كان لا بد أن تدخل علاقة الصحافي والسياسي مراحل مختلفة تتأرجح حسب الزمان والمكان بين التعاون والتنافر والتصالح والتشنج، بل أيضا التواطؤ. فتطور مهنة الصحافي والصحافة على مر السنين ودخول الرأسمال على خط هذا التطور، جعل مقاربة تدبير المهنة تخضع لمعايير الشركات والمؤسسات التجارية. وبالموازاة مع ذلك، تطورت الديمقراطية في اتجاه خضوع مبادئها للرسملة والتبضيع، بشكل جعل رجال الأعمال والمركانتيليين الجدد يلجون عالم السياسة مباشرة بعد أن كانوا لحدود نهاية الثمانينات من القرن الماضي يتوارون للخلف. فلا عالم الصحافة بقي كما كان، و لا عالم السياسة احتفظ بما تبقى من عذريته.
النتيجة أن المجالين سيعرفان مسخا « métamorphose » واضحا. فعدد من رجال الأعمال وأغنياء العالم تبوؤوا مناصب سياسية مباشرة: رئيس دولة في دولهم (ترامب، برلسكوني، بولسونارو…) وتميز أداؤهم عامة بضرب الحد الأدنى من القيم عرض الحائط، فيما لازال آخرون يفضلون الطريقة التقليدية وهي وضع الثقة في أشخاص تقنقراط يدبرون المشهد في الواجهة أو ما نسميه “وكلاء سياسيين للرأسمال” (Commis politiques du capital) وفي كلتا الحالتين، أصبح السياسيون الجدد يعون الدور بل الأدوار الجديدة للإعلام، عبر خطب وده تارة وجعله في خدمة الأجندة السياسية مباشرة تارة أخرى. اليوم يعلم الجميع أن فاعلين سياسيين يحتلون موقعا خاصا بشكل مباشر أو غير مباشر في حصص المساهمة داخل المقاولات الصحفية، ما يفقدها استقلاليتها وهويتها.
أما في بلدان توصف بضعف التشبع بالقيم الديمقراطية، تقوم السلطة الحاكمة عبر العديد من عناصرها باقتحام المشهد الإعلامي عبر تسخير صحفيين مهنيين يقبلون على أنفسهم لعب دور “خادم السلطة” تحت مبرر “الدفاع عن البلد وصد الأخطار التي تتهدده”. هؤلاء الصحافيون يتناسون الدروس التي تلقوها بالمعاهد والمدارس ويتجاهلون تعريفات العديد من المنظرين كون الصحافي مدافعا عن القيم عامة وقيمة الديمقراطية على وجه الخصوص. أما السياسيون فلا يفعلون أكثر من استغلال هكذا استراتيجية تضمن على المدى القريب هيمنة وسائل إعلام الموالاة التي تقدم لها الإمكانات المالية واللوجيستية، لكنها على المدى البعيد تهدم أسس البناء الديمقراطي وقيم التعددية وحرية التعبير.
لهذا، فالفضاء العمومي المعاصر هو فضاء عمومي إعلامي بامتياز، يتميز بتداخل متنام للإعلامي والسياسي، لكن مع فقدان إحدى مميزات الفضاء العمومي كما نظر له الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ألا وهي قيمة التوازن في حضور الأصوات المتعددة والفاعلة. وهو الشيء الذي يعطينا حضورا مسيطرا لإعلام السلطة ولإعلام رأس المال.
بقلم: مصطفى الويزي
أستاذ باحث في مجال التواصل والميديولوجيا