من سجلات الإبداع التشكيلي المغربي المعاصر ، يطالعنا اسم الفنانة الأكاديمية صبيحة القدميري (مواليد 1950 بالدار البيضاء) التي تلقت تكوينا فنيا رصينا بكل من المدرسة العليا للفنون دوبيري بباريس عام 1972 والمدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس عام 1975 ، لتلتحق بعد ذلك كأستاذة مؤطرة بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء ابتداء من عام 1980. فمنذ عام 1976 ، حرصت هذه الفنانة على تنويع مدارات اشتغالها الصباغي : طبيعة ميتة ، مشاهد انطباعية، أجواء تعبيرية ، سلسلة من المناظر البحرية ، لوحات تركيبية ذات أطياف نسائية عمودية في إطار مشروع “نساء و أسوار” …إلخ.
عبر مساحات لوحاتها التشكيلية ، نستشف قدرا كبيرا من التنوع على مستوى الشذرات المعمارية، و المعالم الآدمية المنتصبة نحو السماء على غرار القبب و المنارات و الأعمدة بوصفها “أشياء مقدسة”. فالامتدادات العمودية تنفي الحدود، و تمجد كل ما هو غير مرئي و سام. إنها تذكير بالمسلات الفرعونية ، و سهام المحبين، و بالإشارات العمودية للبنايات الشاهقة احتفاء بعرس الزواج الرمزي بين السماء و الأرض. كل فضاءات صبيحة القدميري محايثة و متعالية في الآن ذاته، منغلقة و منفتحة معا على نحو يذكرنا بالفنان و الأديب الفرنسي-الأمريكي مارسيل دوشان ملهم البوب آرت و الدادائية الحديثة بمناسبة حديثه الدال عن “الباب المغلق و المفتوح”.
تحليق عبر الأمكنة و الأزمنة الخفية
خارج كل تصنيف بيرغسوني (نسبة إلى هنري بيرغسون صاحب كتاب : “المادة و الذاكرة”) يقر بثنائية الأخلاق المنفتحة و الأخلاق المنغلقة، نجد صبيحة القدميري تشتغل على الخلفية الأفقية ذات المشهدية العمودية، متجاوزة منذ الوهلة البصرية الأولى كل فصل مزعوم بين الانغلاق و الانفتاح، ما دام الأمر يخص علاقة لزومية في مستوى علاقة الضوء بالظل، و الأرض بالسماء، و الروح بالجسد.
في حضرة هذه المبدعة التي تزاوج بين التنظير و الممارسة (للإشارة فهي أستاذة مؤطرة ، أيضا، بالمدرسة العليا للهندسة المعمارية بالدار البيضاء)، نعي جيدا بلاغة الأفق العمودي باعتباره شرفة نحو الأعلى ندرك من خلالها و عبرها جدلية “الهناك” و “الهنا”. سبق للباحث الوسائطي ريجيس دوبريه أن تحدث عن السهم المنصوب في أعلى الكاتدرائية معتبرا إياه أسها الذي يعطيها الثبات تماما كما يعطي برج الرصد للبلدة ثباتها و صمودها (في مديح الحدود). الحال أن صبيحة القدميري تحرص في مساكن لوحاتها الصباغية على ربط ما هو مفارق بما هو ملازم، و ما هو منغلق بما هو منفتح عن طريق الأعمدة الطيفية المنصوبة، و القبة المرتفعة في إشارة إلى القبة السماوية التي تترجم جيدا مفهوم التقديس الذي يحيل إلى الحياة و يستعين بها.
عتبات تؤرخ لآثار رمزية و مادية معا
هكذا ، يجوب المتلقي البصري تخوم لوحات كيميائية تتأسس على عدد كبير من التنويعات و الإبدالات الشكلية و المشهدية. فالفنانة تمسح الآثار لكي تستعيدها موظفة الألوان شبه الساخنة من أجل حماية الفضاءات الداخلية مجازيا التي تنفرد بطاقتها المتجددة على مستوى الاستحضار و التخييل. إنها تنقذ جوهر و ظاهر حميميتنا بالأعمدة التي تشدنا نحو الأعلى، لا بالأسوار التي تطوق تحليقنا المجنح. تؤمن صبيحة القدميري بأن الفضاء ليس مسكن الكائن فحسب ، بل هو أيضا مرآته و ملخص عنه. إنه عتباته المتعددة التي تؤرخ لآثاره الرمزية و المادية معا. هذا ما ترسمه ، بوعي و حساسية، هذه الفنانة المسكونة بالإبداع في أرقى مدارجه خارج كل تقليد شاحب و بئيس. إنها تملك معرفة دقيقة بالأمور الفنية و خباياها، و تمارس لغة شبه تجريدية أكثر صفاء و اصطفاء ، همها الجمالي هو التفكير ، تشكيليا ، في الحدود و الشذرات لا في المتاهات و التخوم. كم تنبثق الشخوص العمودية من الفضاءات الشذرية و كأنها “متفرقات وجودية” بشكل عضوي مرن. كم تتقن هذه الفنانة ممارسة لغة الاستقصاء و الحفر في ضوء أركيولوجيا بصرية تذهب جهة الحضور و الملموس لا جهة الغياب و المجرد، و كأنها تنصب خيمتها الرمزية في الآثار المسكونة بالذاكرات الحية بوصفها مجالا أيقونيا مفضلا و حقلا جماليا مصطفى.
في كل لوحة تشكيلية ، ترصد، على نحو مغاير، الأرضيات المشتركة بين الكائن و كياناته. فعوالم هذا “البين-بين” هي مصادر إلهامها، رؤية و أداة و شكلا. عوالم محتفى بها في أبعادها المرئية لا في خلفياتها المقنعة. في ضيافة هذه العوالم المذكورة لا تتخلى صبيحة القدميري عن ذاتها لأنها تعرف بأن المحاولة جهد عبثي عقيم.
لا تتشابه لوحات هذه الفنانة، فلا لوحة تشبه لوحة أخرى. إنها تعطي لكل لوحة زيتية طرازها الخاص ، أقصد كبرياءها الخاص. هناك تواطؤ علني بين المبدعة و عملها الإبداعي الواسع بحجم المدى.
إن المتلقي المتأمل لعوالم لوحاتها يمارس تحليقا عبر الأمكنة و الأزمنة الخفية : أمكنة و أزمنة داخلية تنم عن الأفق كذريعة بلاغية للحديث عن الروح الاعتبارية للإنسانية بألف التعريف. يا لها من ألفة و غرابة في آن! لكل لوحة شخصيتها الخاصة القادمة من داخل الفضاءات أحيانا، و من خارجها أحيانا أخرى. فهي بمثابة مسكن رمزي له ميسمه البصري الذي يعبر الزمن. فهذا الميسم المجازي هو الذي يحدد عبقرية المكان في أبعادها الهندسية و التشكيلية في الآن ذاته.
أمام عوالم صبيحة القدميري لا تختفي خارطة الأمكنة الأرضية التي تهب ذاتها في صيغة اللون الترابي الأمغر، لا في صيغة اللون الأزرق (أتذكر “الأرض الزرقاء” لإيف كلان، و “الأرض كبرتقالة زرقاء” لبول إيلوار). يا لها من جغرافيا إنسانية تسكن ربوع اللوحة، و لا تنزاح عن الأفق الداخلي و العلوي للإنسان ذي القامة العمودية. فالإنسان يتماهى ، باللون و الشكل ، مع فضاء الأشياء المجردة المتناهية في الاتساع و الامتداد. لعله فضاء المدينة النموذجية الطوباوية (لا علاقة لها بمدينة المنظر السياسي و الاشتراكي الطوباوي إتيين كابيه) التي تختزل قوة صبيحة القدميري الهادئة و صمتها الناطق. فإذا كان البرج الزجاجي يعلي من قيمة العارضة الخشبية البارزة، فإن برج الخلفية العامة للوحات يعلي من قيمة الأطياف الآدمية المنتصبة. إنه نشيدها الرمزي الذي يجعلنا نفكر من جديد في الرواقية (stoïcisme ) الداعية إلى المصالحة مع الطبيعة و العقل، و إعمال التأمل كمسلك ملكي لبلوغ الحكمة و الطمأنينة الداخلية (أتذكر شذرات الفيلسوف زينون دوستيون).
أفق بصري مغاير
ينفلت إبداع هذه الفنانة من كل توصيفات “الإبداع بصيغة المؤنث”، فهي تقدم مشروعا إبداعيا بالمعنى الشامل للكلمة قوامه الجسد كذريعة لمقاربة تداعياته الهندسية في أبعادها التجريدية كما عملت على ذلك مدرسة الباوهاوس الألمانية. فأن تبدع معناه أن تبني و تركب. هذا ما تحرص صبيحة القدميري على ترجمته باللون و الشكل معا. لقد تجاوزت دائرة الرموز الحركية و الاختزالية كما ذهبت إلى ذلك تجربة بول كلي لتنفتح على أفق بصري مغاير يراهن على مستويات أخرى في التلقي الجمالي تستمد مجالاتها من اللمس و الخدش و كأننا نقارب أعمالا جدارية ، أو بناءات معمارية خالصة.
تفوقت صبيحة القدميري في منجزها البصري الذي يعد مشروعا جريئا بالمغرب ، حيث خبرت كيمياء المواد الصباغية ، و نتوءات اللون التركيبية، ممارسة لعبة الظل و الضوء على خلفيات لونية تضفي على البناء العام عنصري العمق و الحركة. فعبر تدرجات الأسود و الأبيض، تمكنت هذه المبدعة من كتابة المادة التشكيلية في علاقتها المرجعية بالفضاء بكل روافده الحضارية و التراثية.
إنها تمارس على غرار الفنان المغربي الراحل محمد القاسمي سفرا جغرافيا و ذهنيا، حيث الكائن هو بؤرة الكيان البصري ، و خزان حرية حركته. كل لوحة هي عبارة عن فضاء أيقوني ممتد له إيقاعاته اللونية ، و جغرافيته السندية خارج كل تراجيديا وجودية.
صبيحة القدميري من الفنانات الرائدات بالمغرب اللواتي ساهمن ، بشكل فعال، في تأطير التجارب التشكيلية الصاعدة من موقعها كفنانة مبدعة و كأستاذة مؤطرة. فقد تمكنت من رصد علاقتها الذاتية بالامتدادات االفضائية في ضوء نظرة عمودية تنشد قيم التسامي، و البراءة، و الخلاص الروحي دون ادعاء امتلاك الحقيقة. ألم يقل جبران خليل جبران : لا تقل “وجدت الحقيقة” ، بل قل بالأحرى:”وجدت حقيقة”؟!
عبد الله الشيخ ناقد فني